يبدو أن المشهد السياسي في تونس أصبح يُدار على نفس طريقة تسويق المسلسلات التجارية التافهة التي تضخها القنوات التجارية في شهر رمضان, حيث يتم تمديد القصة لحلقات جديدة مع الاحتفاظ بمكونات المسلسل و أبرز الممثلين والفنيين فيه, و تقتصر التغييرات على بعض الجوانب الشكلية مع إضافة رقم جديد الى العنوان القديم.
هذا هو عمل رئاسة الدولة, وأسلوب تشكيلها لبرنامج الحكومات المتعاقبة بالاتفاق مع بقية الاحزاب المشاركة في الحكم , لذلك لم يكن من الاجحاف تسميتها سابقا بحكومات “أولاد مفيدة”. وها هي جماعة الرئاسة تِؤكد لنا هذا التوجه المسرحي السياسي مرة أخرى بإصدار جديد إسمه “وثيقة قرطاج 2” والحبل على الجرار .
“قرطاج 2” مجرد إعلان إشهاري
فالمتأمل في المشاورات واللقاءات الجارية بين الحكومة والأحزاب والاتحاد والأسماء المتداولة يكتشف تدني مستوى لعمل السياسي الذي اصبح مختزلا في مناقشة حجم التغيير الحكومي و هل سيشمل هذا التغيير رئيس الحكومة “يوسف الشاهد” أم لا. أما عن الحلول والبرامج الداعية إلى إخراج البلاد من الاوضاع الكارثية أو حتى الدعوة الى مراجعة أو تقييم للأسباب والسياسات التي أدت الى ذلك فلا أحد يشير الى هذا الأمر بل إن المثير حتى أثناء البحث عن التحوير الوزاري هو الاصرار الحكومي على تبني نفس الخيارات التي ادخلت البلاد في دوامة العجز المالي والمديونية والانهيار الاقتصادي, مثل تبني توصيات صندوق النقد الدولي و سياسة الاصلاحات الكبرى , أو إتمام اتفاق الشراكة الموسع والمعمق مع الاتحاد الاوروبي.
لكن المفارقة بين المحافظة على المسلسلات التجارية ومحافظة حكام تونس على مسلسل ” وثيقة قرطاج ” هو ان الاولى لها عائدات تجارية درّت ارباحا على القنوات التي تبثها , اما “وثيقة قرطاج” وما تمخض عنها فلم تجلب لتونس إلا زيادة العجز التجاري والمديونية وانزلاق الدينار وتدهور الامن الدوائي والغذائي, اللهم اذا كان الهدف المقصود من بقائها هو استمرار مصالح حيتان الفساد الكبيرة التي تنعم بحماية رجال السلطة أو مصالح الشركات الاستعمارية التي تتمتع بالامتيازات والإعفاءات كي تواصل نشاطها وتحكمها في اقتصاد البلاد.
وثيقة “قرطاج 2 ” استغفال للشعب
وثيقة قرطاج الثانية والمستنسخة من الاولى هي أسلوب ركيك لاستبلاه الشعب وخداعه عبر حركات مسرحية عديمة الجدوى, وعملية إخراجها تتم بشكل يشبه مسار المفاوضات بين المعارضة السورية ونظام “بشار الأسد” والمسماة مفاوضات جنيف 1 ثم 2 ثم 3 , أو آستانة 1 و 2 , بينما تستمر الاوضاع على حالها لفرض سلطة الاسد بالقوة.
كذلك الامر في تونس فبعد الصفعة التي تلقتها الحكومة والأحزاب المشكلة لحكومة “وثيقة قرطاج 1 ” والتي عبّرت عنها المقاطعة الشعبية الواسعة للانتخابات البلدية خصوصا من الشباب , وعزوف من شارك في تلك الانتخابات عن القائمات الحزبية واتجاههم نحو القائمات المستقلة, كان لابد من القيام بحركة مصطنعة لإيهام الناس بحدوث تغيير ما, وإقناعهم بالانتظار عبر تغييرات شكلية لامتصاص الغضب الشعبي المتزايد.
السجال المصطنع
ان السجال الحاصل بين مختلف الاطراف الحزبية والنقابية حول بقاء “يوسف الشاهد” من عدمه هو سجال مصطنع لإلهاء الرأي العام عن القضية الرئيسة التي هي تغيير هذا النظام السياسي الفاسد والتابع للغرب سياسيا واقتصاديا, فلا الاحزاب الحاكمة ولا البرلمان ولا من يجلسون في قصر قرطاج يملكون القرار السيادي في بقاء رئيس الحكومة من عدمه بل إن مهمتهم هي أخراج المسرحية السياسية على النحو الذي يبدو كذلك , لذلك لا نستبعد صحة المعلومات الرائجة حول طلب السفير الامريكي من “”الباجي قايد السبسي” الابقاء على “يوسف الشاهد” للفترة القادمة , وبذلك يكون الاختلاف الحاصل بين النهضة والنداء والاتحاد هو جزء من تبادل الادوار لترجيح الكفة وتحييد المخالفين وإبقاء الامر على ما هو عليه وليبدو القرار محليا.
إن الازمة التي تعاني منها تونس والبلاد الاسلامية ليست أزمة أشخاص أو رئيس حكومة فقط, بل هي أزمة نظام سياسي لا يمت الى عقيدة الامة ولا الى حضارتها الاسلامية بصلة , لذلك فهو مفروض من الغرب الرأسمالي في إبقاء التبعية الكاملة له سياسيا واقتصاديا, ومسير من قبل سفرائه بشكل مباشر في القرارات المفصلية, من أجل تأبيد هذه التبعية للأجيال القادمة.
لذلك فان الاقتصار على الدعوة الى التحويرات الجزئية ولو في منصب رئيس الحكومة هي دعوات مغالطة ومخادعة للرأي العام ولثورة الامة وتخدم النظام الحاكم. فالتغيير المطلوب هو التغيير الجذري والشامل للنظام السياسي. من أجل ذلك قامت ثورة الامة , ولأجل ذلك ستبقى.