تمرّ بنا هذه الأيّام الذكرى الثّالثة بعد المائة لإصدار وعد بلفور المشؤوم (1917/11/02) هذا المرسوم الاستعماريّ الذي أعطت بموجبه الإمبراطوريّة البريطانيّة العجوز ما لا تملك (بيت المقدس وأكنافه) لمن لا يستحقّ (اليهود والصهاينة) مُحدثة بذلك الجرم عاهة مستديمة في العالم الإسلاميّ وشرخا روحانيّا في الشخصيّة الإسلاميّة وجرحا ما فتئ ينكأ دما في ذاكرة المسلمين ووجدانهم.. فهذه البلطجة الدوليّة والصفقة السياسيّة المسمومة تعكس منتهى الاستهتار وقمّة الاستخفاف بمشاعر الأمّة ومقدّساتها ،وقد تعمّدت من خلالها الامبرياليّة العالميّة الملتحفة بحقد صليبيّ أعمى السمسرة بأولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين إرضاء لحفنة من شُذّاذ الآفاق وطفيليّات الكرة الأرضيّة الذين لم تُجمع البشريّة على شيء قدر إجماعها على مقتهم وازدرائهم والتنكيل بهم عبر التاريخ بما كسبت أيديهم القذرة.. غير أنّ هذا الوعد النكبة ما هو في الواقع إلاّ المشهد الأخير من دراما سياسيّة سوداء انطلقت فصولها منذ مطلع القرن (19م) في أقبية المحافل الماسونيّة وكواليس البرلمانات والحكومات الغربيّة الاستعماريّة ودهاليز مخابراتها العسكريّة في شكل مخطّطات ومؤامرات ومكائد إبليسيّة حيكت بخبث ودهاء ومكر كبّار تزول منه الجبال وأفضت إلى المماهاة بين المشروعين الصهيونيّ والامبرياليّ على أرض فلسطين والتوظيف المتبادل بينهما بحيث يتعذّر علينا ابتداء أن نتبيّن من يستخدم الآخر وأن نجزم أيّ مشروع بصدد التحقق على أرض الواقع..فقوّة اللّوبي الصهيونيّ تكمن تحديدا في جعل أمانيّ اليهود وأباطيل التلمود والبروتوكولات متطابقة مع مطامع القوى الاستعماريّة في البلاد الإسلاميّة مُوظّفة ومُسخّرة لخدمتها حتّى تتبنّاها تلك القوى وتُحقّقها نيابة عنهم بل وتستميت في الدّفاع عنها بصفتها جزءا لا يتجزّأ من مشروعها الاستعماريّ.. أمّا كيف استطاعت الماكنة السياسيّة اليهوديّة أن تحقّق هذه المعادلة الصعبة والمفارقة العجيبة فهذا يستدعي منّا قراءة الحدث باستنارة منزّلا في سياقه التاريخيّ وعلى مناطه السياسيّ..
اليهود والصهيونيّة
إنّ الحركة الصهيونيّة هي ترجمة سياسيّة حديثة للحلم اليهوديّ التوراتيّ: فقد استندت إلى خرافة (الوعد الإلاهيّ وأرض الميعاد) لاستقطاب بني إسرائيل وتوظيفهم في مشروعها الاستيطانيّ التوسّعيّ، كما سخّرت الدول العظمى لتستظلّ بقوّتها وحمايتها لاسيّما وأنّ تطلّعات الحركة تخدم مراميها الاستعماريّة الامبرياليّة..وممّا لا شكّ فيه أنّ المشروع الصهيونيّ لم يكن ابتداء مشروع كلّ اليهود ولا حتّى كلّ المتديّنين منهم ،فرغم أنّ المشاعر القوميّة اليهوديّة قد تحرّكت باكرا انسياقا وراء المدّ القوميّ الذي اكتسح أوروبا أواسط القرن (19م) إلاّ أنّ الفكر السياسيّ اليهوديّ العامّ لم يكن صهيونيّ الهوى بل لم يكن موحّدا، فقد تشكّل في ثلاث مدارس كبرى: أولاها المدرسة الإصلاحيّة الاندماجيّة التي يتزعّمها اليهوديّ الألمانيّ (موسى مندلشوهن) وقد نأت بنفسها عن الطرح الدينيّ التوراتيّ ووقفت موقفا معاديا من إنشاء وطن قوميّ لليهود بفلسطين واعتبرت أنّ اليهوديّة عقيدة دينيّة فرديّة وليست قوميّة، لأنّ مُعتنقيها ينتمون إلى عرقيّات وألسن متباينة.. فاليهوديّ مواطن حيث كان وعليه أن يندمج في الشعب الذي يعيش بينه وأن يأخذ بعاداته وثقافته حتّى يردّ عن نفسه الاضطهاد.. ثانيتها المدرسة الروحيّة المحافظة وتدعو إلى مقولات العرق اليهوديّ المتميّز وشعب الله المختار والأرض الموعودة بفلسطين ،وقد اعتمد منظّروها على التلمود الموضوع والتوراة البابليّة المحرّفة، وهي نصوص تقطر عنصريّة وتعاليا وحقدا على البشريّة جمعاء.. وقد نادى دعاتها المتعصّبون إلى عدم الاندماج وإلى التمسّك باللغة العبريّة والشخصيّة اليهوديّة ،فلا غرابة أن لاقت أفكارها رواجا بين الجاليات اليهوديّة المضطهدة (روسيا ـ رومانيا ـ بولونيا).. أمّا الثّالثة فهي المدرسة الوسطيّة التوفيقيّة وقد ظهرت على يد (شمشون روفائيل هيرش) عندما احتدم الصراع بين الجناحين الاندماجيّ والمحافظ، وترى أنّ على اليهود أن يؤمنوا بالشرائع التوراتيّة التلموديّة وأن يتقبّلوا في نفس الوقت القوانين المدنيّة التي خوّلتهم من حقوق متساوية مع الغير،وعليهم كذلك أن يتمسّكوا بولاء مزدوج للوطن الذي يعيشون فيه ولأرض الميعاد المقدّسة بفلسطين.. هذه المدرسة الخطيرة بما تدعو إليه من تقيّة وازدواجيّة ونفاق سياسيّ هي التي مهّدت للصهيونيّة الحديثة رغم ما واجهتها من صعوبات جمّة في إقناع الجماهير اليهوديّة بطروحاتها ودفعها إلى الهجرة نحو أرض الميعاد..
العمل الجمعيّاتيّ
بعد عدّة محاولات ارتجاليّة فاشلة للاستيلاء على فلسطين وبعد يأسها من السّلطان عبد الحميد والدّولة العثمانيّة أدركت الصهيونيّة الحديثة أنّه لا بدّ لها من الاعتماد على دولة استعماريّة لتحقيق هدفها :فقد برز النشاط اليهوديّ في البداية في شكل جمعيّات سريّة تغلغلت في الأوساط الشعبيّة والرسميّة للدول تزرع مزدوجيّ الانتماء بين تلافيف حكوماتها وتبثّ فيها الأفكار الهدّامة وتُشيع فيها الفساد لشلّ طاقاتها والسيطرة عليها وتسخيرها لخدمة مطامعها ،وقد استطاعت أن تتسرّب إلى الأوساط الحاكمة خاصّة في بريطانيا وأمريكا في ظلّ المذهب البروتستانتي..ومن أبرز تلك الجمعيّات نذكر(الماسونيّة ـ بناي بيرت ـ أحبّاء صهيون ـ أمناء الهيكل ـ التحالف الإسرائيليّ العالميّ ـ المؤسّسة الاتحاديّة للعبرانيين ـ جمعيّة بيلو ـ الجمعيّة الأورشليميّة ـ جمعيّة التنقيب عن آثار فلسطين ـ جمعيّة الكاهن القانونيّ..) وقد اقتصرت عضويّتها على اليهود للمحافظة على أسرارها ومقرّراتها لأنّها موئل للتآمر والدسّ والمخطّطات العدميّة الهدّامة..
ولئن كانت تهدف في الظّاهر إلى الأعمال الخيريّة ومساعدة ضعاف اليهود ورعاية المضطهدين منهم ،إلاّ أنّها كانت في حقيقتها مسخّرة لخدمة الصهيونيّة العالميّة تعمل على دعمها وتمويلها والتخطيط لها والتجييش للهجرة والاستيطان في فلسطين تدريجيّا تمهيدا للاستيلاء عليها بالكامل.. وقد تكثّف النشاط الصهيونيّ نهاية القرن (19م) ممّا أدّى إلى نضجه وتبلوره..
النضج والتبلور
على إثر موجة الاضطهاد في روسيا ومحاكمة الضابط (دريفوس) في فرنسا وانتشار الكراهيّة ضدّهم في أوروبا عموما تأكّد لليهود أن لا مفرّ من تأسيسي وطن قوميّ يلمّ شتاتهم وأخذت الجمعيّات اليهوديّة تكتّل من جهودها وتنسّق فيما بينها ،وكان للصحفيّ النمساويّ (تيودور هرتزل) دور فعّال في ذلك بحيث يعدّ بامتياز الأبّ الرّوحيّ للصهيونيّة الحديثة :فقد كرّس حياته للدّفاع عن (القضيّة اليهوديّة) وكانت مقالاته المنشورة في المجلاّت النمساويّة والألمانيّة والفرنسيّة مسخّرة لاستثارة الصهاينة ودعوتهم للعمل على إقامة الدولة اليهوديّة بفلسطين (وطنهم التاريخيّ وأرض ميعادهم).. كما بذل هرتزل قصارى جهده من أجل إحياء العنصريّة الصهيونية في صفوف اليهود وخاصّةً لدى عمالقة المال والأعمال من أمثال (آل روتشيلد ـ آل هيرش..) وقد كُلِّلت جهوده تلك بعقد المؤتمر الصّهيوني الأوّل المعروف (بمؤتمر بازل) سنة 1897م الذي حضره أكثر من 200 مندوب عن الجاليات اليهوديّة في العالم، وقد تمخّض هذا المؤتمر عن إنشاء المنظّمة الصهيونيّة العالمية ووضع هدف عام لها (خلق وطن للشعب اليهودي في فلسطين يضمنه القانون العام) وتحديد وسائل تحقيق ذلك الهدف وحصرها في أربعة: أوّلاً ـ تشجيع الهجرة والاستيطان في فلسطين بطرق منظّمة.. ثانيًا ـ تنظيم الحركة اليهوديّة في منظّمات محليّة مترابطة فيما بينها متلائمة مع قوانين كل بلد.. ثالثًا ـ تعبئة الجماهير اليهوديّة وتوعيتها على الأفكار الصهيونية.. رابعًا ـ العمل على كسب وتأييد وموافقة الحكومات التي يعنيها الأمر لتحقيق غاية الصهيونية.. وبذلك لم يبق أمام هرتزل إلاّ دفع إحدى الدّول الإمبريالية الكبرى لتبنّي الأفكار والأهداف الصهيونية في الهجرة والاستيطان بفلسطين تمهيدًا لتأسيس إسرائيل..
الاحتضان الاستعماري
مطلع القرن العشرين، أخذت الصهيونية تضاعف جهودها لتحقيق هدفها في ظلّ الامبريالية العالمية والصّراع الدولي المستعر والتكالب الاستعماري من أجل الاستحواذ على مناطق النفوذ الحيوية في العالم ولاسيما تركة الدولة العثمانية المحتضرة التي تقع فلسطين ضمن أراضيها، وقد وجد الصهاينة ضالّتهم في خضم هذه الأجواء المشحونة بالمؤامرات والدّسائس والحروب فانتعشوا معتمدين على الأساليب الخسيسة التي برعوا فيها من قبيل (الضغط ـ الابتزاز ـ المراوغة ـ المداهنة ـ المقايضة ـ الإغراء بالمال ـ توظيف الصهاينة المزروعين في المراكز المرموقة..): فقد كثّفوا محاولاتهم بشكل متزامن مع جميع الحكومات ـ البريطانية والفرنسية والألمانية والروسية والأمريكية وحتى التركيّة ـ واضعين كلّ الإمكانيّات قيد الاختبار معلّقين آمالهم في نفس الوقت على كلّ القوى العالميّة حتّى يأتي ما يخالف ذلك.. وفي الأثناء كانوا يُمنّون الجميع ويعدون بما سيُخلفون وتُحارب كتائبهم مع الجميع ضدّ الجميع ويلعبون على المشروع ونقيضه عارضين خدماتهم المالية والعسكرية والمخابراتية والتجسّسية على كلّ الأطراف المتصارعة من أجل ضمان أوفر الحظوظ لمشروعهم.. وكان الصّهاينة يدركون جيّدًا الموقع الاستراتيجي لفلسطين وأهمّيته الحيويّة بالنّسبة للإمبراطورية البريطانيّة: فهي مفتاح قناة السويس عصب المواصلات في الإمبراطورية وممرّ حنفيّة النّفط العالميّة ومفصل الطّريق إلى الهند تاج المستعمرات البريطانيّة، وهي أيضًا قطعة أساسيّة في رقعة الصّراع البريطاني العثماني تفصل بين جناحي العالم الإسلامي وتمنع التحام الأمّة الإسلامية ببعضها.. وإنّ حساسيّة هذا الموقع جعلت بريطانيا توليه الاهتمام حتّى لا يُفتح المجال لإحدى الدّول القويّة تسيطر عليه فتهدّد مستقبل الوجود البريطاني في المنطقة والعالم.. إلى هذا الحدّ اتّضح للّوبي الصّهيوني الحضن الدّافئ الذي يمكن أن يُعانق مشروعهم وانطلقت الماكنة اليهوديّة في قولبته ليتماهى مع المطامع الاستعمارية البريطانية في المنطقة، ونشطت العناصر الصهيونية المؤثّرة في السياسة البريطانية (لويد جورج ـ بلفور ـ ديزرايلي ـ إيميري ـ غراي ـ صموئيل..) في الدّفع نحو تبنّيه وقد نجحت في ذلك نجاحًا منقطع النّظير..
الوعد المشؤوم
إثر الحملة التي شنّها الجيش التّركي على قناة السّويس في بداية الحرب العالميّة الأولى، استشعرت بريطانيا الخطر الجدّي وبدأت قناتها تلين نحو تبنّي المشروع الصّهيوني، وقد عبّر وزير المستعمرات البريطانيّة اليهودي الصّهيوني (إيميري) عن وجهة النّظر الصهيونيّة في نسختها البريطانيّة أي من زاوية المصالح البريطانيّة وذلك أمام مجلس العموم سنة 1936 بقوله (إنّ فلسطين تشغل مركزًا عسكريًّا على جانبٍ عظيم من الأهميّة من جهة الدّفاع عن الإمبراطورية، فهي ملتقى جميع الطّرق الجويّة بين هذه المملكة وكلٍّ من إفريقيا وآسيا، هذا إلى جانب كونها من أهمّ المراكز البحريّة على المتوسّط في الظّروف الحاليّة..) وأضاف (إنّ الخطر الذي يهدّد الاستعمار يكمُن في البحر المتوسّط الذي يُقيم على شواطئه شعبٌ واحد يتميّز بكلّ مقوّمات الوحدة والتّرابط ويجب أن تعمل الدّول الاستعماريّة على تجزئته وتفكيكه وإقامة حاجز بشري قويّ وغريب يُمكن للاستعمار أن يستخدمه أداةً في تحقيق أغراضه).. وهكذا يتماهى المشروعان الصهيوني والاستعماري ويندمجان في مشروع واحد يُحقّق مصالح الطّرفين بحيث أنّ تجميع اليهود على أرض ميعادهم في دولة بمواصفات توراتيّة يحفظ المصالح الاستعماريّة البريطانيّة ويُمكّنها من السّيطرة على المنطقة ومقدّراتها ويمنع المارد الإسلامي من الاتّحاد والنّهوض مجدّدًا.. ولم يكن غريبًا أنّ وعد بلفور قد أُعلن في ظرف عسكري وسياسي حرج مرّت به بريطانيا أثناء الحرب العالميّة الأولى (فقدان العون الرّوسي ـ تتالي الانتصارات الألمانية ـ إنهاك الاقتصاد البريطاني والفرنسي ـ خسارة بريطانيّة فادحة في الغوّاصات ـ نضوب المدّخرات الماليّة الأوروبية ـ أزمة البنوك الأمريكيّة المُقرضة للقوى المتصارعة..) فكان هذا الوعد بمثابة جرعة الأوكسيجين وقارب النّجاة للحلف الثلاثي المصارع للمحور الألماني، وما كان له أن يرى النّور لولا دهاء اللّوبي الصّهيوني وقدرته العجيبة على المرونة واستغلال الفرص والتسلّل في ثنايا المخطّطات، ولولا خيانات العناصر الصهيونيّة في الجيش الألماني الذين قلبوا الموازين العسكريّة لصالح بريطانيا وحُلفائها.. فكانت الهزيمة لألمانيا والنّصر للمشروعين الاستعماريّ والصهيوني، أمّا التّضحية فكانت من نصيب المسلمين الذين نُكِبوا في أقدس مقدّساتهم وابْتُلوا بأحفاد القردة والخنازير يسومون أهل الرّباط المهانة والعذاب في غياب خليفة يُقاتَلُ من ورائه ويُتّقى به..