وهم الدولة الوطنية في تونس

وهم الدولة الوطنية في تونس

أعلن الرئيس التونسي قيس سعيد مساء الاثنين 2023/10/02 رفضه المساعدة المالية التي قرر الاتحاد الأوروبي منحها لبلاده في إطار اتفاق لمكافحة الهجرة غير النظامية، معتبرا أن هذه الأموال “الزهيدة” تكاد تكون “صدقة” وتتعارض مع الاتفاق الذي أبرمه الطرفان في تموز/يوليو الماضي.

وقال سعيد إن “تونس التي تقبل التعاون لا تقبل ما يشبه المنّة أو الصدقة، فبلادنا وشعبنا لا يريد التعاطف، بل لا يقبله إذا كان بدون احترام”، وأضاف – حسب ما نقلت عنه الرئاسة في بيان – أنه بناء على ذلك فإن “تونس ترفض ما تم الإعلان عنه في الأيام القليلة الماضية من قبل الاتحاد الأوروبي”.

ما انفك قيس سعيّد منذ توليه الرئاسة وخاصة بعد 25 تموز/يوليو يرفع شعار السيادة الوطنية ويزعم أنه لن يتخلى عنها وأنّه يرفض التدخل الأجنبي في تونس. ولكن هل هو جاد في تصريحاته هذه أم أنها للاستهلاك المحلي؟ وهل نحن أمام خطاب سياسي جديد مبني على تفكير سياسي بدأ يتغير في تونس؟ وهل نحن فعلا أمام مدافع عن السيادة والاستقلال؟ هل نحن فعلا أمام رئيس يخوض حرب تحرير تونس فيسعى إلى قطع أيادي التدخل الأجنبي منها؟

أنصاره يقولون: “تطلبون الدليل؟ هاكم الدليل؛ ها هو الرئيس يرفض مساعدات الاتحاد الأوروبي ويقول لا حيث لم يجرؤ قبله أي رئيس أن يقول للأوروبيين لا”!

نقول إن لكل قول حقيقة، وكلام الرئيس عن السيادة الوطنية والمحافظة عليها وقطع أيادي التدخل الخارجي، هل تصدقه الوقائع؟

بعد إعلان الرئيس قيس سعيد هذا بيوم واحد انتشر خبر تداولته أغلب وسائل الإعلام في تونس تحت عنوان “الولايات المتّحدة تعلن عن تمويل جديد لدعم تونس في تقديم المساعدة الطارئة للمهاجرين”،

أما محتوى الخبر فنشرته صفحة السفارة الأمريكيّة على الإنترنت، ومما جاء فيه:

“في بيان صحفيّ مشترك صادر في تونس، يوم 3 أكتوبر 2023 أعلنت القائمة بأعمال السفارة الأمريكيّة في تونس ناتاشا فرانشيسكي، ورئيس بعثة المنظمة الدولية للهجرة في تونس عزوز السامري، والنائبة الأولى للأمين المساعد لمكتب السكان واللاجئين والهجرة مارتا يوث، عن تخصيص مبلغ 4.45 مليون دولار في إطار دعم حكومي أمريكي جديد. وسيوفر هذا التمويل الجديد المساعدة والخدمات الإنسانية للمهاجرين في وضع هش في تونس، وسيدعم جهود الحكومة التونسية في توفير الإغاثة للمهاجرين وطالبي اللجوء”.

وفي سياق هذا البيان المشترك تقول مارتا يوث النائبة الأولى للأمين المساعد لمكتب السكان واللاجئين والهجرة، المشاركة في الاجتماع إنّ التمويل الجديد “… يستجيب لتحديات المرحلة الحالية في ظل التّطوّرات الأخيرة. ويأتي بالإضافة إلى الدعم طويل الأمد الذي قدمته الولايات المتحدة إلى تونس: قوارب ووفرت دورات تدريبية للحرس الوطني التونسي للمساعدة في ضمان تأمين عمليات الاعتراض البحري بشكل أكبر… وقد ساهمت البرامج التي ترعاها الحكومة الأمريكيّة وبالشراكة مع الحكومة التونسية والقطاع الخاص والمجتمع المدني في بعث أكثر من 49 ألف شركة صغيرة وتوفير أكثر من 56 ألف فرصة عمل جديدة وزيادة المبيعات بأكثر من 610 ملايين دولار في مختلف أنحاء البلاد”. اهـ

والسؤال هنا: ألا يُعتَبَرُ هذا تدخلا خارجيا على تراب تونس “الوطني”؟ ثمّ ما هذا التمويل ولمصلحة من ولماذا يقبل به الرئيس؟ وما شأن الحكومة الأمريكية وبعث المشاريع في تونس (49 ألف شركة) ساهمت فيها الحكومة الأمريكية لماذا؟ ومن سمح لها بذلك؟ أم أن الأمر كان سريا فلم يسمع به الرئيس سعيّد قائد “حرب التحرير الوطني”؟

السيادة الوطنية التي يزعم الرئيس رفع رايتها تقتضي قطع أسباب الهيمنة على تونس، وأسباب الهيمنة لا تأتي إلّا من طريق المساعدات المسمومة التي تقدمها أمريكا والاتحاد الأوروبي، ومع ذلك لم يرد الرئيس الحالي ولا الرؤساء السابقون أية مساعدة، وسمحوا بذلك بتدخل أجنبي سافر في البلاد؛ فتلك المساعدات التي تزعم أمريكا أنها قدمتها لتونس ومكنتها من بعث 49 ألف شركة صغيرة، بما يعني أنها سمحت باختراق أمريكي في كامل البلاد، ومن جراء ذلك تتواتر الأخبار يوميا عن زيارات السفير الأمريكي لمدن تونس وقراها شمالا وجنوبا بذريعة متابعة المساعدات التي قدمتها الحكومة الأمريكية، والمتابعة عند أمريكا ليست مجرد عمل خيري إنما هو عمل سياسي في المقام الأول هدفه إيجاد موطئ قدم لهم في شمال أفريقيا تمهيدا للاستيلاء على كامل المنطقة وسحبها من أوروبا.

لا نقول هذا من باب الرجم بالغيب أو التهويل والتشنيع، فالسفير الأمريكي في تونس جوي هود وقبل أن يتم اعتماده سفيرا لأمريكا في تونس صرح أمام مجلس الشيوخ الأمريكي في شهر تموز/يوليو 2022 بأنّ مهمته في تونس تحقيق اختراق من بوابة المساعدات الاقتصادية وأنه سيعمل على جعل تونس تنتمي إلى نادي المطبعين مع كيان يهود، إضافة إلى مهمته الرئيسية في ترسيخ الديمقراطية والفكر الغربي. وحينها ثارت ثائرة جانب من الوسط السياسي واعتبروا أنّ تصريحات السفير مهينة وخرجت 13 منظمة وحزبا في احتجاج أمام السفارة الأمريكية على تعيين هذا السفير، ورغم ذلك فقد استقبله الرئيس سعيد “بطل حرب التّحرير” يوم 02 شباط/فبراير 2023 وقبل اعتماده سفيرا. رغم ظهور عداوة أمريكا، وهذا السفير بالخصوص، فإن الرئيس قيس لم يرَه عدوا ولا معتديا ولا متدخّلا في شؤون تونس الداخلية، أليس هذا عجيبا غريبا؟! إنّه لا يكاد يمر يوم إلا وهذا السفير وغيره من سفراء الدول الاستعمارية (بريطانيا وفرنسا وغيرهما) يجولون في طول البلاد وعرضها يقابلون من يشاؤون من مسؤولين وطلبة الجامعات وتلاميذ المدارس، حتى النساء في أعماق الريف التونسي لم يسلمن من هذه الاختراقات، والرئيس لا يرى ولا يسمع ولا يتكلم!

فهل القول بالسيادة الوطنية واستقلال القرار الوطني الذي لا ينفك الرئيس عن تكرارهما كاف لتحقيق السيادة والاستقلال؟!

التّغيير الحقيقي لا يكون كلاما دون أفعال، وما نسمعه من الرئيس كلام دون فعل بل أفعاله تناقضه؛ ففي الوقت الذي يتكلم فيه عن الاستقلال والسيادة يستقبل قادة أوروبا ويكلمونه في شؤون تونس الداخلية ويشركهم في الأمر، بل ما رأيناه في الأشهر الأخيرة أنّ الشأن التونسي تحول إلى شأن أوروبي بمشاركة تونس، فإيطاليا مثلا تتحدث في كل المحافل عن تونس (في اجتماعات مجموعة السّبع، وفي اجتماعات البرلمان الأوروبي، وفي اللقاءات الثّنائيّة مع الجزائر أو ألمانيا أو أمريكا…).

فما شأن إيطاليا بأزمة تونس المالية، أليس الأمر داخليّا؟ ومن سوّغ لـمفوض الاتحاد الأوروبي للاقتصاد باولو جينتيلوني الحديث عن استقرار تونس وتجنب التخلف عن السداد؟!

ثمّ أين الاستقلال حين يقول جينتيلوتي هذا إنّ “المفوضية لديها برنامج جاهز سيضاف إلى برنامج صندوق النقد الدولي” ويقول: “نحن نعمل على تسهيل برنامج جديد لصندوق النقد الدولي”؟! فهو يتحدّث عن برامج اقتصادية تم وضعها لتونس، منها ما وضعه الصندوق ومنها ما وضعه الاتحاد الأوروبي. ثم ها هو الاتحاد الأوروبي يعين مسؤولا آخر قارّا في تونس مهمته الشأن الاقتصادي (مراقبة أم متابعة أم تحكم؟) لا فرق!

فأين السيادة؟ الأوروبيون يقررون مصير تونس، ويفرضون مساعدات وكل همّ الرئيس أنّ المبلغ الذي قررت أوروبا دفعه زهيد خلافا للاتفاق المبرم؛ نعم مشكلة الرئيس أنّ المبلغ زهيد، ولذلك قال أحد المسؤولين الأوروبيين تعليقا على رفض الرئيس سعيد المساعدات الأوروبية: “الرئيس سعيّد يريد مبلغا أكبر”، أليس في هذا إهانة لتونس وأهلها الكرام؟! وتعلق رئيسة الحكومة الإيطاليّة فتقول: “تصريحات الرئيس هي للاستهلاك الداخلي… لرأيه العام”، وتأتينا الأخبار هذه الأيام أنّ وفدا من الاتحاد الأوروبي سيأتي إلى تونس لمواصلة التشاور حول كيفية تنفيذ “مذكرة التفاهم سيئة الذكر”، فهل سيرفض قائد حرب التحرير استقبالهم، وهل سيهب ليحرر تونس؟ قطعا لا، لأن حرب التحرير التي أعلنها إنما هي على بعض أشباه السياسيين الذين سبقوه في خدمة أسيادهم في أوروبا، فهم خصومه ومنافسوه في الخدمة ولكنهم أظهروا ضعفا وقلة كفاية، ويبدو أنّه يريد أن يظهر قوته وأنه شخص يمكن التعويل عليه.

CATEGORIES
Share This