لعلنا لا نجانب الصواب إن قلنا إن افتتاحية جريدة “لابراس” ليوم 23 جانفي الماضي بقلم أمير اللواء متقاعد محمد المؤدب تُعدّ من أهم النصوص السياسية التي عرفتها الساحة السياسية في تونس طيلة العشرية الماضية. ذلك أن هذا المقال الوارد باللغة الفرنسية تحت عنوان: “حياد الجيش أحد الشروط الأساسية لنجاح التحول الديمقراطي” بين فيه أمير اللواء من وجهة نظره، طبيعة السلطة التي تجمع الناس في سياق واحد والتي تجعل منهم مجتمعا وعلاقة تلك “السلطة المتغيرة” حكما وفعلا، بمركز “القوة الثابتة” والتي لا تتغير.
فمن البداهة القول إن كل مجموعة بشرية تأتلف الغالبية فيها على مفهوم للحياة تتخذه قاعدة لمعالجة مختلف القضايا التي تعرض للناس، فتُقضى المصالح وتُفض النزاعات الطارئة في المجتمع حسب الضوابط التي تنبثق عن ذلك المفهوم. ويقتضي ذلك وجود سلطة تمتلك القدرة على أرض الواقع، لإدارة الشأن العام، ويتم لها ذلك وفق القواعد التي يضبطها القانون العام، كآلية الانتخاب مثلا، وهي سلطة متغيرة دوريا أو كلما اقتضت الحاجة ذلك. وفوق كل ذلك تنشأ في المجتمعات مهما كان تصورها عن الحياة ومفاهيمها عنها، ومهما اختلف نمط الحكم فيها إلى ركيزة صلبة تحفظ للمجتمع هويّتة وتضمن السلم الداخلي لو اضطرب، وتدفع عنه غائلة التهديدات الخارجية وذلك ما يعبر عنه بالسلطة الثابتة التي تتمثل في رؤساء القبائل في المجتمعات القبلية أو في الأحزاب والتكتلات السياسية والشركات الرأسمالية في الدول العصرية والكبرى منها خاصة، وهي في أغلب دول الصف الثاني، تكون ممثلة في القوة حاملة السلاح خاصة. تلك السلطة الثابتة والمعبر عنها اليوم سياسيا بمراكز القوة أو أهل القوة والمنعة وكذلك بأهل الحل والعقد في الثقافة الإسلامية، كتعبير عن مصطلح يعكس الواقع لا افتراضا من عند علماء المسلمين، هي التي تسلم السلطة لمن ترتضي كما فعل زعماء الأنصار حين بايعوا رسول الله ﷺ في العقبة، على السمع والطاعة في العسر واليسر، والمنشط والمكره، وعلى أثرة عليهم، وعلى أن لا ينازعوا الأمر أهله إلا أن يروا كفرا بواحا عندهم من الله تعالى فيه برهان، وعلى أن يقولوا بالحق أينما كانوا، لا يخافون في الله لومة لائم، أو هي تلك التي تحمي السلطة ممن يتهددها كما فعلت مراكز القوة في الولايات المتحدة الأمريكية حين اقتحم أنصار الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته دونالد ترامب مبنى الكابيتول، يوم السادس من جانفي عام 2021، وهو الأمر الذي مثل صدمة كبرى في الولايات المتحدة وفي العالم على السواء، وضربة في الصميم للديمقراطية الأمريكية.
جاء مقال أمير اللواء المشار إليه في رأس حديثنا هذا، في ظرف اتسم فيه النظام الديمقراطي الذي يراد فرضه على أهل تونس المسلمين، بالاهتزاز والارتباك وسرعة بروز عوامل الانهيار قبل اكتمال النمو, وفي ظل التسابق المحموم على السلطة، وانخرام ضابط القواعد الديمقراطية لدى مختلف الفرقاء. ففي حين يتشبث أنصار ما قبل 25 جويلية بالتمثيل النسبي كضامن للديمقراطية ومعبر عن حقيقتها، يرى قيس سعيد ومن سانده في رأيه أن الحل لما تشهده تونس من اضطراب وكعلاج لفشل حكام العشرية السابقة، و”إنقاذا” للديمقراطية، أن ذلك لا يكون إلا بالتمثيل الشعبي المباشر، خاصة بعد أن ظن أنه استوثق من سند “السلطة الثابتة” على أي وجه كان موقفه، بينما يرى فريق ثالث أن الحل لا يكون إلا في البيان الأول بتولي القوة العسكرية الحكم مباشرة ومحاسبة الفاسدين ومعاقبتهم.
وبما أن “السلطة الثابتة” في الحالة التونسية والمعبر عنها بمركز القوة، أو أهل القوة والمنعة، هي الجيش دون سواه، جاء مقال أمير اللواء، وهومن هو، معبرا أدق التعبير عن طبيعة العلاقة بين “مركز القوة” هذه ومراكز “السلطة المؤقتة” التي أسند لها بموجب القانون إدارة الشأن العام حسب اختصاص كل منها: السلطة التنفيذية، والسلطة التشريعية، والسلطة القضائية… محددا ماهية حياد “مركز القوة” بما يمنع استخدام القوات المسلحة من قبل السلطة القائمة، بحجة تقديم دعمها للسلطات المدنية، فقال: “هذا الحياد، الذي يتقيد به الجيش وفق الدستور، هو حياد عام يمتد بشكل مطلق إلى جميع القطاعات وليس فقط المجال السياسي. في الممارسة العملية، يُجبر الجيش، ومختلف قياداته وهياكله، وأفراده الذين يُنظر إليهم بشكل فردي أو في مجموعات، على التزام الصمت التام، ولا يمكنهم بأي حال من الأحوال، وبأي شكل من الأشكال، التعبير عن أنفسهم علنًا أو اتخاذ موقف فيما يتعلق بأي حدث. أو أي كيان، مهما كانت طبيعته أو انتمائه، بما في ذلك على وجه الخصوص الفاعلين السياسيين المختلفين أو الأحزاب أو ائتلافات الأحزاب، ومراكز السلطة: السلطة التنفيذية، والسلطة التشريعية، والسلطة القضائية… وهذا الحياد هو الذي يجعل الجيش حقًا مؤسسة “وطنية” في خدمة الوطن وفقط للوطن؛ والذي يحافظ دائمًا على نفس المسافة من كل هؤلاء الممثلين”. فكان الحديث مُفهما بكل جلاء أن رأس السلطة التنفيذية لا يمتلك تفويضا مطلقا باحتكار سند القوة العسكرية على أي وجه كان موقفه، بل العلاقة معه محددة سلفا بما يفرضه القانون العام الذي تُحدّده وجهة النظر التي قام عليها المجتمع وتواضعت عليها المجموعة البشرية.
وعلى هذا تتوقف مشروعية القائم على أي سلطة على مدى صونه لأصول العقد الذي أبرم مع جموع الناس وفق القواعد التي انبنى على أساسها المجتمع وتشكلت لحمته وسداه وليس للتفويض الانتخابي عظيم شأن أو اعتبار إن فرط في أصول العقد.
وتأكيدا على عظم رسالة “السلطة الثابتة” مركزاللقوّة، في صون هوية المجتمع وعدم تركها لأهواء من يتولون السلطة بداعي الانضباط واحترام التبعة السياسية للسلطة المدنية، بيّن أمير اللواء “أن الانضباط المطلوب ليس طاعة عمياء وغير محدودة لأوامر الرئيس الهرمي، كما قد يعتقد المرء. على العكس من ذلك، فإن هذه الطاعة تقتصر على ما ينص عليه القانون بالمعنى الواسع للمصطلح، لأنّ الانضباط ليس سوى احترام جميع القوانين والقواعد والالتزامات التي تحكم المجتمع أو المجموعة. باختصار، لا يُطلب من أي شخص طاعة رئيسه وتنفيذ أوامره إذا كانت مخالفة للقانون، وهذا على جميع المستويات، بما في ذلك أعلى قيادة للجيش في علاقاته بالسلطة السياسية المدنية”. مضيفا “إذا كان صحيحًا أن الانضباط العسكري يتطلب من المرؤوس تنفيذ أوامر القائد “دون تردد أو همهمة”، كما قد يقول أي جندي جيد… يقتصر هذا الانضباط والطاعة على ما هو قانوني فقط. إن رفض الأمر بأي شيء غير قانوني ومخالف للقانون لا يستحق اللوم. على العكس من ذلك، هذا واجب التشجيع”.
وبين هذه “السلطة الثابتة”، أهل القوة والمنعة، وبين “السلطة المتحولة”، السلط الثلاث، والطارئة بعوامل قد تكون نقية طاهرة، وقد تتنجس بأي عامل من عوامل المكر، لعل أقلها التأثير السلبي على جماهير الناس بالاستحواذ على الرأي العام بالإعلام الموجه والتضليل الدعائي، يقوم رابط حدده أمير اللواء ب”القوانين والقواعد والالتزامات التي تحكم المجتمع أو المجموعة “، ومن ثم أوجب على الجندي الجيد، رفض الأمر بشيء غير قانوني، فكان لابد من أن تكون تلك “القوانين والقواعد والالتزامات التي تحكم المجتمع أو المجموعة” قائمة على قاعدة ثابتة يقينية حتى لا تمتهن السلطة الثابتة بحماية قوانين ظالمة وقواعد خربة والتزامات سوء تهوي بالمجتمع في مجاهل التخلف والسقوط.
وهنا نقول إنّ القاعدة الثابتة اليقينية التي يحملها أهل تونس وتقع على أهل قوتهم صونها واتخاذ قرار الموت والحياة دونها هي عقيدة لّاّ اّلّهّ اّلّاّ اّلّلّهّ مّحّمّدّ رّسّوّلّ اّلّلّهّ، وهي التي يجب أن تنبثق عنها جملة “القوانين والقواعد والالتزامات التي تحكم المجتمع” بعد أن أقحم على أهل تونس المسلمين منذ أن وطئت بساطير المستعمر الفرنسي أرضنا وديارنا، مفهوم فصل الدين عن الحياة، أي فصل دين الإسلام عن حياتنا نحن المسلمين، بفرض قوانين وقواعد والتزامات في تونس المسلمة من غير عقيدة لاإلاه إلا الله، بل مناقضة لها، فأصبح في ذمّة قيادات سلطتنا الثابتة وجنودها رفض طاعة تلك الأوامر والقواعد والالتزامات، وفرض الأوامر والقواعد والالتزامات التي توجب عقيدة الإسلام التقيد بها، وذلك بنصرة من يسعى لاستئناف العيش بها، ويقوم على إيجادها واقعا معيشا. فكما أنّ على القائد والجندي، على الإطلاق، ومن حيث المبدأ، عدم طاعة الأوامر المناقضة للقانون فإن القائد والجندي المسلم يقع على كاهله اليوم رفض طاعة الأمر المناقض لوجهة نظره في الحياة، عقيدة الإسلام، المكلف شرعا بحمايتها امتثالا لقول الله سبحانه وتعالى:” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ۖ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)ـ النساء ـ ، ونزاعنا اليوم مع الحكام في الحكم وكل ما تعلق به، فوجب رده إلى الله والرسول، وقد بين صلى الله عليه وسلم معنى الرد ومعنى الطاعة، فعن أم المؤمنين أم عبدالله عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه، فهو ردٌّ” وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “على المرءِ المسلم السمْع والطاعة فيما أحبّ وكَرِه إلا أن يُؤْمَر بمعصية، فإن أُمِرَ بمعصية فلا سَمْع ولا طاعة” (رواه مسلم).