حدّث أبو ذرّ التونسيّ قال: يعيش الشارع التونسي هذه الأيّام على وقع صدمة التّمديد في سنّ التّقاعد، هذا الإجراء التّعسفي المسموم الذي سِيق في دَسِم (إصلاح منظومة التّقاعد وإعادة التّوازن المالي للصندوق الوطني للتقاعد والحيطة الاجتماعية) والذي انضاف إلى مصيبة الترفيع في أسعار المحروقات ليفاقم من الأزمة الاقتصاديّة والاجتماعيّة المستفحلة في (محميّة صندوق النّقد الدولي) تونس… فبتاريخ الأربعاء 03/04/2019 صادق مجلس (النّوائب) بشبه إجماع على مشروع القانون المتعلّق بتنقيح وإتمام نظام الجرايات المدنيّة والعسكريّة للتقاعد والباقين على قيد الحياة في القطاع العمومي… وينصّ هذا (الفرمان) الاستعماري على إجباريّة الترفيع بسنتين في سنّ التّقاعد لتصبح في حدود (62 سنة) للموظّفين العاديّين و(57 سنة) للعَمَلة في القطاعات المنهكة للصحّة و(67 سنة) لكفاءات التعليم العالي والطّب الاستشفائي، ويمكن للأعوان الرّاغبين أن يُمدّدوا في تاريخ تقاعدهم اختياريًّا من سنة إلى ثلاث سنوات… كما ينصّ هذا (المرسوم) أيضًا على التّرفيع في قيمة مُساهمات التّقاعد بنسبة (3%) يتولّى المشغّل تسديد (2%) منها في حين يتكفّل الأعوان بالـ (1%) المتبقّي، هذا دون أن ننسى المساهمة التّضامنيّة بنسبة (1%) المخصّصة لتمويل الصّناديق الاجتماعية والتي تُقتَطَعُ من جرايات الأُجراء والمتقاعدين على حدّ السّواء..
القراءة الأوّلية المتسرّعة لهذا القانون تكشف دون عناء أنّه مشروع هزّة اقتصادية اجتماعيّة تتجاوز ارتداداتُها السّلبية المؤجّرين والأُجراء لتعُمّ بمفعول (الدّومينو) جميع شرائح المجتمع دون استثناء ـ النّاشطين كما المُعطّلين أو المتقاعدين، والهامشيّين كما المتمتّعين بالتّغطية الاجتماعية ـ وذلك بحكم تداعياتها المباشرة على مردوديّة العمل والطّاقة الشّرائية وعلى نسب التّشغيل وهيكليّة الإدارة التي ستُصاب بتُخمة على مستوى الموظّفين والمناصب…وحسْبُنا في هذا الجزء الأوّل أن نُخضع هذا الإجراء لقراءة فكريّة سياسيّة تربطهُ بمنظومته الاقتصاديّة الرّأسمالية وتُنزّلهُ في سياقه الرّبوي الاستعماري…
واقع الضّمان الاجتماعي
إنّ مسألة تقاعد الأجراء هي جزئيّة ممّا يسمّى بمنظومة الضمان الاجتماعي، وهذه المنظومة ليست تنظيمًا للعلاقة بين الأجير وصاحب العمل ـ كما يتبادر إلى الذّهن ويُسَوَّق لهُ ـ بقدر ما هي إلزامٌ لصاحب العمل برعاية بعض شؤون الأجير وتمكينه من (حقوقه المكتسبة) كالتّقاعد والمكافآت والخدمات الطبيّة…والضّمان الاجتماعي في شكله السّائد هذه الأيّام هو من ترقيعات النّظام الرّأسمالي: فالدّولة في المنظومة الرّأسماليّة ليست مُلزَمة برعاية شؤون النّاس، وإنّما يوُكل أمرُ الرّعاية لمؤسّسات وجمعيّات عديدة ليست الدّولة سوى طرف منها، وقد أعطت حريّةُ التملّك في المنظومة الرّأسماليّة صاحبَ العمل الحقَّ في استغلال الأجير أبشع استغلال ممّا أوجد صراعًا بين الأُجراء وأرباب العمل تجلّى خلالهُ ظلم تلك المنظومة وبشاعتها وفسادها… ولتلميع صورتها وإطالة عمرها ابتدع منظّروها فكرة الضّمان الاجتماعي أو العدالة الاجتماعيّة فجعلوا كفاية الأجير على صاحب العمل وألزموه بتحسين أحوال عُمّاله المعيشيّة في حدّها الأدنى… والضّمان الاجتماعي بهذا الشّكل فاسد من أساسه، ومردّ فساده المنظومة الرّأسمالية التي انبثق عنها: فمن حيث واقعه فإنّه لا يحلّ مشاكل الأُجراء ولا يحُدّ من جشع المؤجّرين ولا يُفعّل دور الدّولة تجاه منظوريها بقدر ما يُلطِّف من واقع الاستغلال ويُنفّس من كبت العمّال ويُبقيهم تحت السّيطرة…فالأجور في الدّول الرّأسمالية الصناعيّة المتقدّمة على غرار أوروبّا وأمريكا مربوطة دائمًا بأدنى مستويات المعيشة ـ رغم نسبة الوعي الحقوقي والحركات العمّالية المتنفّذة ـ ولولا قوّة اقتصاديّات هذه الدّول لبان عُوار تلك الأجور وتدنّي قيمتها مقارنةً بمرابيح المشغّلين… أمّا في الدّويلات التّابعة وأشباه المستعمرات فإنّ الأجور ـ بعد النّضالات النقّابية المُضنية ـ تجعل القسم الأكبر من الطّبقة الشغّيلة في منطقة وسطى بين العَوَز والكفاف، فيما يُترك غيرُ المتمتّعين بالتغطية الاجتماعيّة لأنفسهم :يُجبرون على أداء الواجبات ـ من دمائهم إن لزم الأمر ـ ولا يتمتّعون بأدنى حقوق الرّعاية الاجتماعيّة…فالهدف من منظومة الضمان الاجتماعيّ هو تكريس استقالة الدولة عن رعاية شؤون منظوريها وتفصّيها من أوكد واجباتها تجاههم لصالح أطراف أخرى على حساب المصلحة العامّة، و تضليل النّاس وخداعهم بتحويل وجهة صراعهم من صراع مبدئيّ مع الدّولة إلى صراع مطلبيّ رخيص بين فئتين (الأُجراء وأرباب العمل)…
تأصيل عقائدي
وحسبنا فيما يلي أن نقف على المرتكزات العقائديّة لهذه الاستقالة وهذا الفساد أي أن نؤصّلها فكريًّا ضمن المبدأ الرّأسمالي الدّيمقراطي: فهي تستمدُّ جذورها من دور الدّولة وعلاقة الحكم بالاقتصاد والحريّات في المنظومة الرأسمالية الديمقراطيّة، فهذه المنظومة الجشعة التي تطحن إنسانيّة الإنسان وتمتصّ دماءه سُمّيت بأبرز شيئين فيها: النّظام الاقتصادي (الرأسمالية) والحريّات الأربعة (حريّة العقيدة ـ حريّة الملكيّة ـ حريّة التعبير ـ الحريّة الشخصيّة) وكلاهما يرقى إلى مستوى المقدّسات…وهي لا تعترف إلاّ بالقيمة الماديّة، فتُعلي من شأنها وتقدّمها على القيم الأخلاقيّة والإنسانيّة والرّوحيّة رائدها وديدنها في ذلك المصلحة والمنفعة والرّبح المادّي بصرف النّظر عن النّتائج سواء أطالت صحّة الإنسان أم حياته وحياة ذويه أم أمواله وممتلكاته…فهي ـ مدفوعة بحريّة التملُّك ـ تُبيح للإنسان امتلاك المال وتنميته والتصرُّف فيه بأيّ شكل أو وسيلة أو أسلوب بما في ذلك الاستعمار والاستغلال والسّرقة والغشّ والقمار والرّبا والاحتكار والغبن الفاحش والسّحت والمضاربة والخمر والدّعارة والشّذوذ ـ هكذا بمنتهى المكيافليّة ـ فالغاية الوضيعة تبرّر الواسطة الدّنيئة… والدّيمقراطيّة نظام فرداني يعمل للفرد ويُعلي من شأنه على حساب المجموعة تقوم الدّولة فيه برعاية مصالح أصحاب رؤوس الأموال بصفتهم الحكّام الفعليّين للبلاد، كما تقوم بالإشراف على الحريّات والحيلولة دون انتهاكها، أمّا رئيس الدّولة فهو أجير (نظريًّا) لدى الشّعب، (عمليًّا) لدى رؤوس الأموال ليطبّق عليهم ما ارتضوه لأنفسهم من حريّات ورأسماليّة جشعة…على هذا الأساس فإنّ نظام الحكم في المنظومة الرّأسماليّة الدّيمقراطية خادم مطيع لرأس المال وأصحابه وأجير خدوم عند الشّركات العملاقة وكبار اللّوبيّات، بحيث يجعل من أوكد واجباته تحقيق مصالحهم ،أمّا المُعدَمون والمُهَمَّشون والفقراء ومُتوسِّطُوّ الحال فيُتركون نهبا لأباطرة الاقتصاد وقطط السّوق السِّمان ويوكل أمرُ رعاية شؤونهم إلى الجمعيّات الخيريّة والمؤسّسات الاستغلاليّة والمنظومات الترقيعيّة على غرار الضمان الاجتماعي… فلا عجب أن كانت المهمّة الأساسيّة لهذه الكيانات الوطنيّة التّابعة هي إرهاب النّاس وتفقيرهم ومحاربتهم في أقواتهم وتسخيرهم للرّأسماليّين وللكافر المستعمر ،فالمسألة ليست مجرّد تقصير وتهاون بقدر ما هي سياسة مبدئيّة مقصودة لذاتها مُنتَهجة بتخطيط محكم..
استقالة كليّة
على هذا الأساس فإنّ السّلطة في تونس أضحت في وضعيّة استقالة شبه كليّة عن واجب رعاية شؤون منظوريها بوصفها عرّابًا للكافر المستعمر وناطورًا لمصالحه وقيِّمًا على نصيبه المقتطع من ثروات التونسيّين… فقد تخلّت عن تلبية الحاجات الأساسيّة للفرد (مأكل ـ ملبس ـ مسكن) وتاجرت في أوكد مرافقه العموميّة (الماء والكهرباء) ـ رغم أنّها ملكيّة عامّة ـ وها أنّها تستعدّ للتفويت فيها للقطاع الخاصّ بما يُضاعف من أثمانها… وانتصبت لجباية أموال الشّعب بالباطل (3/4 الميزانيّة ضرائب) وتركتهُ يتخبّط في الفقر والغلاء والخصاصة والتّهميش وانسداد الآفاق، وفتحت البلاد على مصراعيها أمام الاستثمار الأجنبي والقروض الرّبوية بحيث رهنت الاقتصاد بالكليّة لصندوق النقد الدّولي وشركات النّهب العملاقة…كما تخلّت عن تلبية الحاجات الأساسيّة للجماعة (تطبيب ـ تعليم ـ أمن) فخصخصت التطبيب وأخضعتهُ لقاعدة (المال مقابل الحياة) وقاعدة (لا حياة لمن لا مال له)، وحوّلت المنظومة العموميّة إلى مختبر طلاّبي وموت مؤجّل بطيء ترتع فيه مافيات الأدوية الحسّاسة والمعدّات التّالفة بما يُعرّض حياة النّاس إلى الخطر.. ورفعت عن كاهلها أعباء الإنفاق على الرّعاية الاجتماعيّة (مسنّين ـ معوقين ـ مجهولي النّسب…) وأحالتها على (المجتمع المدني) وجمعيّات (المناولة الخيريّة) بل وإلى النّوادي الماسونيّة (روتاري ـ ليونس كلوب…) التي لا تتورّع عن المتاجرة بهم بالجملة أو التّفصيل… كما حوّلت المنظومة التّربوية إلى نشاط اقتصادي رِبحي خاضع لسياسة السّوق ومجال استثمار واعد يرتع فيه الخواصّ وقفّاز محلّي لمسخ النّاشئة وتجفيف منابع الإسلام وتذويب الهويّة الإسلاميّة بأحماض استعماريّة فتّاكة…ثم مكّنت بريطانيا من العقيدة الأمنيّة والعسكريّة تصوغها حسب مصالحها بما جعل البلاد مرتعا للعصابات والمافيات التي ترتدي الزيّ الرّسمي… بل إنّ السّفراء الأجانب قد تقمّصوا دور الدّولة ونابوا عنها في أخصّ خواصّها وأوكد أدوارها ـ رعاية شؤون النّاس ـ على غرار توزيع المعونات والهبات وتفقّد مناجم الثّروات وشقّ الطّرق وبناء المدارس وتجهيز المستشفيات وزيارة مراكز الاقتراع وتلميع صورة بعض السياسيّين… بما ينفي عن هذا الكيان صفة الدّولة ويَسْلُبُه أبسط مظاهر السّيادة والسّلطان…
أزمة الصناديق الاجتماعيّة
بدأ الخلل يتسلّل إلى الصناديق الاجتماعيّة في تونس منذ أواسط التسعينات مع التحوّلات الجذريّة التي شهدها المجتمع: فقد أضحت التركيبة السكّانية تشكو من التهرّم وارتفع أمل الحياة إلى (75 سنة) وسجّلت شريحة المتقاعدين طفرة غير مسبوقة لم تواكبها طفرة موازية على مستوى الانتدابات يمكنها تغطية النّزيف لاسيما مع تنامي الوعي الحقوقي والصحّي… فانحشرت منظومة الضمان الاجتماعي برمّتها في أزمة خانقة تؤذن بهزّات اقتصاديّة واجتماعيّة حادّة…فقد شهدت الصناديق الاجتماعيّة عجزًا ماليًّا ما فتئ يتفاقم إلى أن تجاوز سنة 2015 المليار دولار (قرابة 2000 مليون دينار) وقد فشلت كلّ المحاولات الترقيعيّة لوزارة الماليّة في سدّ هذا العجز… ولا غرابة من تآكل هكذا منظومة مجعولة لسدّ عجز النّظام الرّأسمالي وغرقها في بحر من المشاكل التي تنسلُ من بعضها البعض: فقد نصّبت نفسها راعيةً لشؤون الأُجراء وأعفت الدّولة من أوكد واجباتها وأحالت أمر هذه الرّعاية إلى النّاس أنفسهم من جراياتهم الخاصّة وجعلت نفسها وسيطًا بينهم في هذا الجرم المشهود وشاهد زورٍ على تقاعس الحكومة، كما استحلّت أموال الأُجراء دون وجه شرعيّ في شكل إتاوات شهريّة تُقتطع بالإكراه لترهق كاهل الأجير وتُضعف راتبه الهزيل ـ سواءٌ أتمتّع بخدمات الصّناديق أم لم يتمتّع بها ـ وهو تعاملٌ تتحقّق فيه أركان الاستغفال والتحيّل والابتزاز جميعها… وحتّى هذا الدّور المشبوه لم تضطلع به هذه الصّناديق بنزاهة: فخدماتها متردّية وتغطيتها سطحيّة جزئيّة هزيلة محفوفة بشروط مجحفة وتعقيدات إداريّة بيروقراطيّة تعجيزيّة تجعل منها (داخلة في الرّبح خارجة مل خسارة)… كما أنّ التّمتّع بخدماتها ـ على فرض تحقّقه ـ يمتهن كرامة الإنسان، إذ يُقدَّم في شكل منّة وصدقة بمثابة التسوّل وفي ظروف لا إنسانيّة ناهيك وأنّ منظومة التّداوي في المستشفيات العموميّة أصبحت في ذهنيّة سواد النّاس كناية عن الفقر والخصاصة والاندراج في أدنى درجات السلّم الاجتماعي…
حلول مسمومة
منذ سنة 2015 أخذت الحكومة تتحسّس طريقها نحو الخروج بمنظومة الضمان الاجتماعي من مأزقها وتجاوز أزمة الصناديق الاجتماعيّة، وبدأت الملامح العامّة للحلول تتّضح شيئًا فشيئًا مدفوعةً قيصريًّا بإملاءات صندوق النّقد الدّولي: فهذا القاتل الاقتصادي المأجور والذراع الاستعمارية الفتّاكة يوقع الدّول في أحابيل قروضه الرّبوية ثمّ يُخضِعها للابتزاز الرّخيص فيتدخّل بين القسط والآخر في أخصّ شؤونها السّياديّة فارضًا عليها سياسات عدميّة مُهلكة لضمان تحقيق هدفين، أوّلاً: استرجاع الدّيون مثقلةً بالفوائد والخدمات ولو على حساب البلاد والعباد، ثانيًا: تكريس الاستعمار وفرض خياراته الاقتصادية والسياسية والثقافيّة…على هذا الأساس، دفع صندوق النقد الدّولي نحو إعادة هيكلة الصناديق الاجتماعية في تونس مقترحًا (الزيادة في نسبة الاقتطاع ـ الترفيع في سن التقاعد ـ التقليص في مجال تدخّل الدولة ـ رفع الدّعم عن المنظومة الصحيّة والعلاجيّة)… وعلى حسّ هذه المقترحات/الإملاءات صيغ القانون الجديد المتعلّق بالترفيع في سنّ التقاعد، وهو ليس حلاًّ جذريًّا للمشكلة بقدر ما هو تأجيل لها والتفاف حولها يستنزف جرايات الأجراء ويُرهق صحّتهم ويكرّس استقالة الدّولة: فهذا القانون انحاز إلى الصناديق الاجتماعيّة ونظر إلى الأزمة بعيونها دون الأخذ بعين الاعتبار رعاية شؤون المضمون الاجتماعي، كما تعامل مع الأزمة بمنطق الرّبح والخسارة فكان همّه تقليص هامش الرّعاية ومدّتها ومجالاتها وتوسيع هامش الاقتطاع ومدّته ومجالاته وتضييق الخناق على الأجير للحدّ أكثر ما يمكن من فرص تمتّعه بحقّه في الرّعاية الاجتماعيّة التي يموّلها عمليًّا من حرّ ماله في شكل اقتطاعات شهريّة… ووفق هذا المنطق الرّأسمالي الجشع لا نستغرب أن يقع اقتراح التخفيض في أمل الحياة بالإعدامات الجماعيّة أو إبطال التقاعد جملةً وتفصيلاً وفرض إجباريّة العمل من المهد إلى اللّحد لتغطية عورة المنظومة الرأسماليّة وضمان سداد القروض الربويّة وإطلاق يد المستعمر في مقدّرات البلاد…