12 ماي بين سنتي 1881 و 2020

12 ماي بين سنتي 1881 و 2020

تاريخ الشعوب والأمم، وحاضرها ومستقبلها، لا تتحكم فيه الظواهر الفلكية ولا قوانين الفيزياء: تطبيقية كانت، أم تجريبية، أم نظرية, وإنما تخطه مواقف الرجال، وتحبره العلاقات وتؤثر فيه الغايات وسلم الأولويات التي يرتبها الفاعلون، وتحوي كل ذلك السياسة وزواريبها. ويحسم الأمور في الأخير وعي الشعوب. ولماهية ذاك الوعي الدور الرئيس في دعم علو همة القيادة أو فتح الباب لخيانتها وذلك بالسكوت عما تجترئه من أسباب السقوط في وهدة الخنوع والخضوع والبقاء على هامش التاريخ.

     تقترن ذكرى 12 ماي 1881 تاريخ إمضاء حاكم تونس يومها الباي محمد الصادق لوثيقة الاستسلام  لسلطة المستعمر الفرنسي الكافر بالحوار الذي أجرته قناة فرانس 24 مع رئيس حكومة سلطة انتخابات صائفة 2019. هذا الحوار رتب لإشباع غرور فرنسي غبي، وهما منهم أن بلدهم ودولتهم لا زال لها اعتبار ووزن في الحياة الدولية، وظفت فيه الدوائر السياسية الفرنسية والإعلامية الانهيار الفكري والسياسي الذي تتصف به الأوساط الحاكمة في تونس لإشباع غرورهم ذاك.

    إلا أن السؤال الذي يثيره هذا الحوار الذي أجراه رئيس الحكومة هذا  مع القناة المذكورة وبإدارة أحد الإعلاميين التونسيين، هو هل تغيرت عقلية حكام تونس اليوم عن نظرائهم الذين أمضوا على وثيقة باردو الخيانية؟ وذلك لتشابه الظروف الموضوعية التي حفت بإمضاء تلك المعاهدة وتصرفات حكام اليوم، من حيث وقوعهم تحت سطوة التدخل الأجنبي بتبنيهم لفكره وتصوره عن الحياة، وإتباعهم سننه حَذْوَ القُذَّةِ بالقُذَّة، حتى باتت سياسة الاقتراض من الدوائر الاستعمارية، ورضا المستعمرين عنهم، شهادة فلاح يفخرون بها. فساسة اليوم لم يعضهم التاريخ، حيث أن تونس لم تقترض من الخارج، مطلقا قبل سنة 1863. بل إن تونس، الولاية في دولة الخلافة، لم تكن مدينة لأي جهة، داخلية كانت أم خارجية إلى حدود سنة 1837. وأن 18 سنه ( 1863 ــ 1881 )من سياسة الاقتراض ونهب المال العام، كانت كافية لتسليم البلاد إلى الأعداء.

         12 ماي 1881 كان الفريق الفرنسي الذي أدار فصول الصراع السياسي والعسكري، والذي فرض شروطه على باي تونس، تحت إشراف غرفة العمليات المنتصبة بوزارة الحرب الفرنسية في باريس وهي التي كانت تعدل فصول الخطة، بحرفية، وحسب ما تقتضيه التطورات الميدانية من أجل الوصول إلى احتلال البلاد وحمل الباي على الاستسلام، ضمن خطة عامة للقوى الأوروبية رسمها فكر نشأ “في أحضان” مؤتمري ويستفاليا سنة 1648 وفيينا 1815 للهيمنة على العالم، والإسلامي منه  خاصة، فكان دعم القوات البحرية لدول أوروبية  كبرى، تأكيدا لذلك، إذ شاركت في غزو بلادنا واحتلاله ومساندة لفرنسا كل من الباخرة البريطانية  “مرنارش” والايطالية “ماريا بيزا” والاسبانية “ساراغوزا” والترتغالية “فاسكو دي غاما” بعد أن قررت القوى الأوروبية أن تكون تونس من نصيب فرنسا.

     12 ماي 1881 كان الفريق التونسي، المقابل لخصمه الفرنسي، في وضعية انهزامية، انفعالية، لا يقوده عقل  ولا تضبطه استراتيجية مرسومة، بل اختزل المشهد قول الباي، بعد إمضائه لوثيقة استسلامه: “لم تبق فائدة في المقاومة لقد شغلتنا أهواؤنا عن الاهتمام بأيّ شيء سواها” فريق يقوده باي لفه الجبن والخوف والجزع، أمضى حفاظا على “شرف” لم يذرف عليه دمعا، وهل بقي من شرف لحاكم تستباح بلاده ويقتحم عليه العدو سدة حكمه متعللا باجتناب اهراق الدماء، وقد أحيط ببطانة سوء ألهته عن الحكم الشرعي بوجوب دفع العدو الصائل، وهو يعلم علم اليقين إذكاء  شعلة الجهاد ضد الغزاة كفيل باستنفار المسلمين  المتحفزين للقيام بواجبهم والمنتظرين لإشارة القيادة، وهو يدرك أن تحوله من تونس إلى القيروان كفيل بحشد الرجال وراءه، والدفاع عن البلاد والتصدي للأعداء، إلا أن الهمة الواهنة قعدت به وأذكى  ذلك فيه حاشية من الخونة على رأسهم  وزيره الأكبر مصطفى بن إسماعيل الذي رتب سرا مع العدو خيوط الخيانة، رغم معارضة بعض المخلصين كمحمد الدلاجي شيخ المدينة وأحمد ابن الخوجة شيخ الإسلام، ومحاولاتهم اليائسة لدفعه أن يكون رجلا.

      إلا أن عقدة المسرحبة  الكبرى كانت تهديد الباي محمد الصادق من قبل الجنرالات الفرنسيين الغازين أنه في حال  رفضه إمضاء وثيقة الاستسلام وتسليم البلاد للغزاة، بأنه سيعزل وسينصب بدلا منه، أخاه ” الطيب باي ” القابع بقصره بالمرسى في استعداد كامل لخدمة العدو الكافر وتسليمه البلاد لو أصر الباي على عدم الإمضاء.

     12 ماي 2020 لم يتغير المشهد على مستوى القيادة وكامل الوسط السياسي:

            ــ قبول بالتدخل الأجنبي في شؤون البلاد، سفراء وقناصل الدول الأوروبية، ورجال المال والأعمال الأجانب، وفرضهم الامتيازات التجارية والجبائية.

            ــ ظهور فكرة الانفصال عن دولة الخلافة بدفع وتزكية من هذه القوى الاستعمارية الكافرة، منذ أوائل القرن التاسع عشر، توازيها اليوم سياسة محاربة الدعوة للخلافة واستئناف الحياة الإسلامية.

            ــ فرض فكرة عهد الأمان، وبداية الانحراف عن التقيد بالحكم الشرعي، التي وضعت أساسا كقاعدة فكرية تقوم على بنودها شرعية التدخل الأجنبي، ثم قُنن الوضع بإصدار دستور 1861، الأب الشرعي لوثيقة باردو 12 ماي 1881. وهو الامتداد السياسي الذي لا يزال يسيطر على الحياة السياسية التي تحكم العلاقات القائمة اليوم. بعد دستور، “التأسيسي”، أصبح الحديث عن ظروف صدوره، مضيعة للوقت، بل يكفي التذكير بالضغوط التي مارسها صندوق النقد الدولي للتعجيل بالموافقة على دستور “الثورة”، وسفر باي تونس، سنة 1860، إلى الجزائر المحتلة ليطلع إمبراطور فرنسا “نابوليون الثالث” على نسخة الدستور المزمع إصداره.

           ــ في الكومسيون المالي وصندوق النقد الدولي من جهة، ومصطفى خزندار ونظراؤه اليوم من جهة أخرى، غنى عن شرح خطر وجرم السياسة الاقتصادية والمالية المتبعة اليوم.     

     إذا كان رئيس الحكومة يخاطب الناس في يوم ذكرى إمضاء بلده وثيقة الاستسلام من خلال منبر إعلامي للدولة المستعمرة ولا يرى في ذلك أي ضير، فأي معنى للتاريخ وأحداثه؟ وأي دروس مستفادة من خيبات الماضي؟ إلى أين يسوق حكام اليوم، البلاد؟ وهل هم مدركون للخطر المحدق بها، في ضوء تصرفات وخيانات وهزائم من سبقوهم ممن حكموها البارحة؟

    إلا أن ظنهم أن الأمر قد استتب لأسيادهم الغربيين وأنهم في حرز من المحاسبة تحت هذه الحماية، فقد أعماهم جهلهم عن إدراك أن الأمة، اليوم، ليست كحالها أمس. قد لا يجانب المرء الصواب، القول بأن قراءة التاريخ قضية حياة أو موت للشعوب، فلنفتح أعين شبيبتنا على تاريخ أمتها والعلم الذي تعيش فيه.  

    ” وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِين” (23) ــ فصلت ــ

أ, عبد الرؤوف العامري

CATEGORIES
TAGS
Share This