حدّث أبو ذرّ التونسي قال: ما إن عجَم الكافر المستعمر عود الحركات الإسلاميّة الفتيّة التي ظهرت إثر سقوط الدّولة العثمانيّة حتّى اكتشف بيسرٍ تهافتها ولامبدئيّتها وفقدانها لمشروع إسلامي وبعدها عن الطّريقة الشرعيّة في التّغيير، فاستهان بها واستبعد خطرها… وعوض القضاء عليها أمعن في تضليلها ومسخها وخيّر استعمالها وتوظيفها في صراعه البيني على ثروات المسلمين…على هذا الأساس ومنذ خمسينيّات القرن المنصرم، نجح الكافر المستعمر في استدراج الحركات الإخوانيّة إلى مربّعه السّياسي فانخرطت بكامل ثقلها في اللّعبة الديمقراطية وشاركت في الانتخابات النيابيّة والتشريعيّة ودخلت في البرلمانات المحلّية وركنت إلى الذين ظلموا…وقد استندت في تبرير هذه الجريمة إلى جملة من الشّبهات والافتراءات من قبيل عدم ترك السّاحة السياسيّة للعلمانيّين، أو الدّعوة إلى الإسلام من داخل المجالس النيّابية، أو عرض المشروع الإسلامي على البرلمان لتطبيقه…بل إنّ أمثلها طريقة قد توسّل ببعض القواعد الفقهيّة (الأصل في الأشياء الإباحة ـ جلب المصالح ودرء المفاسد…) أو ببعض (الأدلّة) من السّيرة على غرار حلف الفضول والمعاهدات المبرمة مع المشركين، أو جِوار الكافريْن المطعم بن عديّ وملك الحبشة، في تمحُّلٍ ظاهر وليّ فظيع لأعناق النّصوص واستخفاف كلّي بشرع الله…وحسبُنا فيما يلي أن نُخضع الانتخابات النيّابية لميزان الإسلام من حيث واقع البرلمانات وصلاحيّاتها وحكمها وشروط الدّخول إليها والشّبهات التي تحوم حول جوازها…عسى أن تعيها أذنٌ واعية…
واقع المجالس النيابيّة
إنّ البرلمان أو المجلس النيابي أو التّشريعي أو الوطني كلّها أسماء مختلفة لمُسمّى واحد يتمثّل واقعهُ في أنّه مجلس يتكوّن من أشخاص منتخبين بصفتهم وكلاء لتمثيل الأفراد والجماعات في الرّأي…هذا الواقع ـ أي الوكالة في الرّأي ـ يقرّه نظام الخلافة وهو موجود ومعمولٌ به في الدّولة الإسلاميّة حيث يتجسّد في شكلين أساسيّين: مجلس الأمّة الذي ينوب عن الأمّة في الشّورى والمحاسبة وإظهار الشّكوى والتظلُّم، ومجلس الولاية الذي ينوبُ عن أهل الولاية في مساعدة الوالي وتبصيره بواقع ولايتهم وإبداء الرّأي في حكمه أمام الخليفة…والبرلمان ـ وإن كان يتّفق مع مجلس الأمّة في أصل الصّلاحية (إبداء الرّأي) ـ إلاّ أنّه يختلف عنهُ جوهريًّا في مجالات الرّأي ومواطنه فضلاً عن حُكمِهِ من حيث الإلزامية أو عدمها…ويتّضح هذا الاختلاف من خلال الصّلاحيّات الموكولة إلى البرلمان والأعمال التي يقوم بها، وأبرزها خمسة…أوّلاً: التّشريع، أي وضع الدّساتير وسنّ القوانين التي تلتزم بها السّلطتان التنفيذيّة والقضائيّة…ثانيًا: انتخاب رئيس الدّولة أي صلاحيّات التوكيل في الحكم بصرف النّظر عن طبيعة ذلك الحكم…ثالثًا: منح الثّقة أو حجبها عن الحكومة على أساس الدّستور، أي المصادقة على الحكومة وإقرارها أو نزع الشّرعية والأهليّة عنها وفق الدّستور المعمول به…رابعًا: المصادقة على الاتفاقيّات التي تعقدها الحكومة مع سائر الدّول سواء الاقتصاديّة منها أو السّياسية أو الثقافيّة…خامسًا: المحاسبة على أساس الدّستور القائم أي الاعتراض بعد اتّخاذ القرار أو تنفيذ العمل بما يُجيزهُ دستور البلاد…هذه بعُجالة أهمّ صلاحيّات البرلمانات ومجالات إبداء الرّأي فيها والتي تعكس واقعها، مع ملاحظة أنّ الرّأي المقصود هو الرّأي المستند إلى العقل البشري وأنّه يؤخذ بالأغلبيّة والأكثريّة…
حُكم المجالس النيّابية
بعد تحديد واقع البرلمانات، ننتقل إلى تحقيق مناطها لكي نتمكّن من إعطاء الحكم الشّرعي في حقّها ـ ترشُّحًا وترشيحًا وعضويّةً ـ وذلك بالرّجوع إلى صلاحيّاتها وأعمالها وبذل الوسع في فهمها…فالتّشريع في البرلمان هو مناكفة لله تعالى في أخصّ حقوقه (إن الحُكم إلاّ لله)، وهو منكرٌ كبير لأنّه تشريع بشري لأنظمة وقوانين كُفريّة مناقضة للإسلام محاربة لهُ، وقد عدّهُ القرآن الكريم ربوبيّةً من دون الله (اتّخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله) كما اعتبره تحاكُمًا إلى الطّاغوت الذي أُمرنا أن نكفُر به، واتّباعًا لغير سبيل المؤمنين الذي نُهينا عنه…وانتخاب رئيس للدّولة لا يحكم بشرع الله هو توكيلٌ في حرام وهو غير جائز لأنّه يعني الرّضا بالحكم بغير ما أنزل الله والله تعالى يقول (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون): فانتخاب الكافرين هو تأييد لهم وإعانة على ظلمهم وتصديق لهم بكذبهم وكفى به إثمًا مُبينًا…ومنح الثّقة للحكومة على أساس الدّستور الوضعي هو تزكية صريحة لتطبيق قوانين الكفر ورضًى بالتّحاكم إليها من دون الشّرع ودعم للظّالمين وإثمٌ وعدوان والله تعالى يقول (وتعاونوا على البرّ والتّقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان)…
حِرمة بيّنة
أمّا حجب الثّقة عن الحكومة على أساس الدّستور الوضعي فهو تحاكم إلى الطّاغوت وقد نهانا الله عنه نهيًا صريحًا (يريدون أن يتحاكموا إلى الطّاغوت وقد أُمِروا أن يكفروا به)، وقس على ذلك المحاسبة على أساس الدّستور الوضعي القائم: فهي مطالبة صريحة بتطبيق أنظمة الكفر والالتزام بها من دون الإسلام وهذا أيضًا تحاكم إلى الطّاغوت…بقيت صلاحيّة المصادقة على الاتّفاقيّات: فهي تقنين وإنفاذ لاتّفاقيّات مشبوهة مع الغرب الاستعماري قائمة على قوانين الكفر تفتح له باب التّدخل في شؤون المسلمين ونهب ثرواتهم على مصراعيه وتجعل للكفّار سبيلاً على البلاد والعباد والله تعالى يقول (ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً)…وبناءً على هذا المناط يحْرُم شرعًا المشاركة في الانتخابات البرلمانيّة ـ ترشُّحًا وترشيحًا ـ والدّخول إلى المجالس النيابيّة لسنّ قوانين الكفر أو إخضاع الإسلام لرأي الأغلبيّة أو انتخاب رئيس علماني أو تزكية وزارة تتحاكم إلى الطّاغوت أو محاسبة الحُكّام على أساس دستور وضعي أو التّفريط في مقدّرات المسلمين لأعدائهم، فهي وكالة في حرام فيها مباشرة عمل كفر وإقرار بواقع كفر…
بين الحرمة والجواز
إلاّ أن هذه الحرمة المغلّظة تبقى رهينة مناطها الكُفري الذي تعلّق بها، أمّا إذا ما تغيّر المناط لصالح محاسبة الحكّام على أساس الإسلام والصّدع بكلمة الحقّ دون خوف أو مجاملة أو نفاق فإنّ دخول المسلم إلى البرلمان يصبح جائزًا وإن لم يكن واجبًا…ودليل ذلك مستمدٌّ من فعل الرّسول صلّى الله عليه وسلّم كان يغشى مجالس المشركين ونواديهم لتبليغهم رسالة الإسلام والتّفاعل معهم، كما أُثر عنه دخوله لدار النّدوة في قريش ـ وهي بمثابة البرلمان اليوم ـ لإقامة الحجّة وقول كلمة الحقّ، فليس في ذلك إقرار بواقع الكفر بقدر ما هو اعتماد لمنبر كفر واعتلاء لمنصّة كفر من أجل الدّعوة لتغيير واقع الكفر…وكان حزب التّحرير قد شارك في الانتخابات البرلمانيّة الأردنية سنوات (1954 ـ 1956) ورشّح مجموعة من شبابه منهم الشيخ أحمد الدّاعور الذي وصل إلى مجلس البرلمان وأبلى البلاء الحسن ـ مُحاسبةً وكفاحًا وكشفًا ونقدًا ونقضًا و فضحًا ـ ممّا اضطرّ النظام الأردني إلى وضعه رهن الإقامة الجبريّة…
شروط الجواز
إلاّ انّه لا بدّ من توفّ جملة من الشّروط لجواز المشاركة في الانتخابات البرلمانيّة ـ ترشُّحًا وترشيحًا وعضويّة ـ تتلخّص في النّقاط التّالية…أوّلاً: أن يكون المترشّح سافرًا متحدّيًا معتبرًا النّظام القائم نظام كفر وحكمًا بغير ما أنزل الله يجب قلعه من أساسه…ثانيًا: أن يقدّم نفسه للنّاخبين بوصفه وكيلاً عنهم في المحاسبة على أساس الإسلام لا في سنّ التشاريع الوضعيّة وممارسة صلاحيّات النوّاب…ثالثًا: أن يتّخذ من البرلمان منبرًا لإبداء الرّأي الشرعي وحمل الدّعوة الإسلاميّة…رابعًا: أن لا يقترح أي قانون وضعي ولا يصوّت لصالحه مطلقًا…خامسًا: أن لا يشارك في انتخاب أيّ رئيس دولة يحكم بالدّستور الوضعي وما انبثق عنه من قوانين…سادسًا: أن لا يمنح الثّقة لأيّة حكومة يشكّلها رئيس الدّولة…سابعًا: أن يحاسب على أساس الإسلام وأن لا يطالب بتطبيق القوانين الوضعيّة أو الالتزام بدستور الكفر…ثامنًا: أن لا يؤدّي القسم على احترام دستور الكفر والمحافظة عليه تحت أي ظرف من الظّروف…ويجدر بنا أن نُنوّه إلى أنّ هذه الشّروط تبقى شبه نظريّة لأنّها صعبة التحقّق في واقعنا: فقد تفطّن الكافر المستعمر ووُكلاؤه إلى إمكانيّة استثمار المجالس النيابيّة فاشترط شروطًا مجحفة للتّرشيح لا يقبل بها إلاّ من لا خير فيه وسدّ بذلك جميع منافذ البرلمانات أمام المخلصين من الأمّة…(يتبع)