حدّث أبو ذرّ التونسي قال: ممّا لا شكّ فيه أنّ الأحوال الشخصيّة مثّلت ـ ومازالت ـ خطّ الدّفاع الإسلامي الأخير في تونس، فإنّ فرنسا الاستعماريّة في جبروتها وصليبيّتها، ورغم أنّها حاربت الإسلام بلا هوادة في كليّاته وجزئيّاته لكنّها تجنّبت طيلة فترة الاحتلال المساس بالأحوال الشّخصية لكونها مع العبادات أكثر التصاقًا بالإسلام في المخيال الشّعبي من سائر المجالات الأخرى…لذلك وحتّى لا تثير حفائظ التّونسيّين المسلمين ضدّها أوكلت تلك المهمّة القذرة إلى ربيبها ومريدها وسادن معبد ثقافتها (بورقيبة) وجعلتها على رأس أولويّاته فأنجزها بحرفيّة وفي وقت قياسي: فبعد أقلّ من أربعة أشهر عن الاستقلال المزعوم تولّى وضع مجلّة الأحوال الشخصيّة وركب فصولها المسمومة لمحاربة الله ورسوله وتطويع الأحكام الشّرعية للمعاهدات الدّولية المغرضة ولحقوق الإنسان والمرأة والطّفل بما يفكّك الأسرة وينسف مؤسّسة الزّواج ويشيع الفاحشة والرّذيلة في المجتمع تنفيذًا لمخطّطات الكافر المستعمر ضدّ الأمّة الإسلاميّة…وقد تيسّر لهُ ذلك بفضل الصّياغة الخبيثة الماكرة لفصول تلك المجلّة الجريمة التي موّهت صبغتها القانونيّة ولبّست هويّتها التّشريعية الحقيقيّة عن العلماء فضلاً عن العامّة والدّهماء: فقد تميّزت صياغتها بالاضطراب والتّلفيق والانتقاء والمُيوعة والضّبابيّة والغموض والخلط والتّلاعب بالألفاظ، بما مكّنها من الالتفاف على الأحكام الشرعيّة ودسّ السّم في الدّسم وتمرير أحكام الكفر في جلباب الاجتهاد الشّرعي، فجاءت مخالِفةً للقرآن والسّنة مناقضة للمعلوم من الدّين بالضّرورة…ورغم أنّ كيلها قد طفح بكمّ هائل من الجراءة والصّفاقة، إلاّ أنّ المجلّة عجزت عن استهداف بعض المسائل المحكمة القطعيّة تاركةً غُصّة في حلق واضعها وحسرةً في قلبه لم يستطع أن يكتمها عن وزيره الأوّل محمّد مزالي (إنّ قضيّة المساواة في الإرث بقيت في القلب، ورغم محاولاتي لم أجد آية قرآنيّة واحدة تمكّنني من تحقيق حلمي)…هذا الحلم الذي يبدو أنّه على وشك أن يتحقّق هذه الأيّام ولكن على يدي وزيره للدّاخلية ومُزوّر انتخاباته جزّار (صبّاط الظّلام) الباجي قايد السّبسي…
آخر الطبّ (لجنة)
على أنّ مجلّة الأحوال الشخصيّة قد انتهجت في استهداف الأحكام الشرعيّة سياسة المراحل ونظام القطرة قطرة، فكان ديدنها الانتقال من التّلميح إلى التّصريح ومن الجزئي إلى الكلّي ومن المتشابه إلى المحكم متجنّبة التّصادم مع الشّعب التّونسي واستفزاز مشاعره الإسلاميّة…لذلك فقد خضعت المجلّة منذ 1956 لسيرورة تنقيحيّة تصاعديّة ممنهجة ومدروسة عُدّلت خلالها وطُوّرت عشرات المرّات نزولاً عند نزوات بورقيبة وبن علي وأهوائهما واستجابةً للمعاهدات والاتّفاقيّات الدوليّة المغرضة، فنُقيت شيئًا فشيئًا من كلّ ما يمتّ للإسلام بصلة وطُعّمت بالعديد من النّصوص المخالفة للشرع إلى أن وصلت إلى (الأيادي الأمينة) للبجبوج وحزبه نداء التّغريب والاستعمار الذي رام أن يرتقي بها إلى مصافّ العولمة والكونيّة والإنسانيّة والجندريّة وحريّة الضّمير بما يفضي بها إلى تذويب الهويّة وطمس الانتماء : فبتاريخ 13 أوت 2017 أذِن سي الباجي بإحداث (لجنة الحرّيات الفرديّة والمساواة) وعهد إليها بتقديم جملة من التصوّرات والمقترحات حول كيفيّة تدعيم الحرّيات والمساواة وحمايتها دستوريًّا واجتماعيًّا وذلك استنادًا إلى مقتضيات دستور 27 جانفي 2014 والمعايير الدّولية لحقوق الإنسان والتوجّهات المعاصرة في مجال الحرّيات والمساواة…وقد تمخّضت هذه اللّجنة بعد قرابة العام من إنشائها عن فأر ممسوخ: إذ قدّمت تقريرها يوم الثّلاثاء 12/06/2018 إلى رئيس الجمهوريّة استعدادًا لعرضه على البرلمان كمشروع قانون، وتتلخّص أبرز ملامحه المشوّهة في أربع نقاط (المساواة في الإرث ـ عدم تجريم المثليّة الجنسيّة ـ إلغاء عقوبة الإعدام ـ زواج المسلمة من كافر)… واعتبرت رئيسة اللّجنة بشرى بالحاج حميدة هذه المقترحات (مشروعًا ثوريًّا وإصلاحات تشريعيّة وفرصة لا يجب إضاعتها وقفزة كبرى رياديّة ومتقدّمة في مجال الحرّيات الفرديّة والمساواة)…ولأنّها تعلم علم اليقين أنّ تلك النّقاط لا ترتقي إلى مستوى النّقاش البنّاء النّزيه وأنّ مجرّد طرحها للنّقاش يُعدُّ نصْرًا مؤزّرًا لها، فقد ألحّت في الدّعوة إلى فتح نقاش مُجتمعي حول مضامين هذا (الإصلاح التشريعي) على أن يُديره (خبراء في علم النفس الاجتماع والعلوم السياسية والدّينية) أي العلمانيّون والملاحدة وفقهاء القصر والدّاخليّة من طينة فريد الباجي…ولأنّها تعلم علم اليقين أيضًا أنّ تلك النّقاط تمثّل استفزازًا وقحًا لمشاعر المسلمين لا يقبل به إلاّ من كانت تجري في عروقه مياه صالحة للشراب فقد أكّدت رئيسة اللّجنة على أن يكون هذا النّقاش (هادئًا ورصينًا دون فوضى أو غضب وبعيدًا عن التكفير والعنف والثّلب)….كما وتلافيًا للتّأثيرات السّلبيّة المنتظرة لهذا التّقرير الفضيحة على إنجاز الموعد الإنتخابي، فقد وقع تأخير تقديمه ونشره إلى ما بعد الإنتخابات البلديّة حتّى لا يثير احتقانًا وتوتُّرًا في الشّارع التونسي قد يُوظّف لتوجيه اختيارات النّاخبين لصالح جهة (النّهضة) دون أخرى (النّداء)…
مساواة عرجاء
قبل أن نتناول مشروع القانون الذي قدّمته اللّجنة في تقريرها بالتّحليل والنّقد من حيث أهدافه وخلفيّاته والأطراف التي تقف خلفه، من المفيد أن نعرّج على أهمّ المواضيع والمسائل التي تطرّق إليها والتصوّرات والمقترحات التي قدّمها: فقد تركّز عمل اللّجنة عمومًا على محورين أساسيّين (التّمييز بين المرأة والرّجل والانتهاكات التي تتعرّض لها الحرّيات الفرديّة) وقد تمخّض هذان المحوران عن جملة من المسائل الجزئيّة لعلّ أهمّها مسألة المساواة في الميراث، وتكمن أهمّيتها في أنّها مخالفة (مشلوق بها) للقطعي والمحكم في الشّريعة (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظّ الأنثيين)…وقد تجنّبت مجلّة الأحوال الشّخصيّة الخوض في هذه المسألة الحسّاسة ولم تتناولها إلاّ بشكل جزئي وخفيّ وغير مباشر عبر الفصل (191) الذي قنّن الوصيّة الواجبة وحصرها في الأحفاد اليتامى دون سائر الأقربين وحدّد قيمتها وجعلها بمثابة الميراث لأبناء من توفّي قبل أبويه، وهذا استدراك باطل على الشّرع ونسخ لأحكام الإسلام…أمّا مشروع قانون اللّجنة فقد نصّ الفصل 146 منه بكلّ صراحة ووقاحة على مبدأ المساواة بين الجنسين في الميراث وحرّية تقسيم الإرث بين المرأة والرّجل والأبناء والبنات والأب والأمّ والزّوجين، واقترح لذلك خيارين اثنين: إمّا الحرّية الكاملة للأبوين في تقسيم التّركة بين أبنائهما، وفي حال الخلاف وعدم الرّضا يضمن الخيار الثّاني للمرأة حقّ المطالبة بالمساواة في تقسيم الميراث، أي أنّ هذا الفصل الأعرج والأخرق يطلق يديك في مخالفة الشّرع إذا ميّزت المرأة على الرّجل، أمّا إذا حصل العكس وتضرّرت المرأة فإنّه يجبرك على المساواة في الميراث، وفي كلتا الحالتين هناك تعدٍّ على أحكام المواريث في الإسلام…والأخطر من كلّ ذلك أنّ مشروع قانون اللّجنة يساوي في الميراث بين الأبناء الشّرعيين والأبناء غير الشّرعيّين بعد أن ينسبهم إلى غير آبائهم في إثم مضاعف ظلمات بعضها فوق بعض…
النّسب واللّقب العائلي
أمّا في باب المساواة بين الأطفال فقد تضمّن مشروع قانون اللّجنة في فصله عدد (16) تنصيصًا على إلغاء أحكام الفقرة الثالثة من الفصل الثالث من القانون عدد (75) المتعلّق بإسناد لقب عائلي للأطفال المهملين أو مجهولي النّسب وتعويضها بما يلي (وللطّفل الذي تثبت بُنُوّته جميع الحقوق التي للإبن على أبيه) وذلك في مخالفة صريحة لكافّة الآراء الشرعية المتعلّقة بالمسالة : فالذي عليه الجمهور أنّ ابن الزّنى يُنسب شرعًا إلى أمّه ولا يُنسب إلى أبيه ويرث من الأمّ وقرابتها وترثه الأمّ وقرابتها، وذلك لقوله صلّى الله عليه وسلّم (الولد للفراش وللعاهر الحجر)…وقد شذّ بعض العلماء وقالوا بإلحاق ابن الزّنى بأبيه إذا ادّعاه وطالب به ولم يُنازعه فيه أحد ولم تكن أمّه فراشًا لأحد، وفي هذه الحالة يتحصّل على حقوقه كاملة من أبيه بوصفه ابنا لهُ…إلاّ أنّ مجلّة الأحوال الشخصيّة وضعت أبناء الزنى في منزلة بين منزلتين: فلاهي أثبتت لهم النّسب حقيقة ولا هي نفته عنهم، واكتفت بإسناد لقب الأب لهم مع الحقّ في النّفقة والرّعاية فقط، دون الميراث رغم أنّها تورث الإبن المتبنّى…وهي بذلك تكون قد أعرضت عن الفقه الإسلامي برأييه المشهور والشّاذ وعمدت إلى الاقتباس من القوانين الغربيّة فأجبرت الأب على الاعتراف بالابن وأسندت له بعض حقوقه ومنعت عنه البعض الآخر فلا هو نُسب إلى أبيه فعليًّا ولا إلى أمّه…وقد حاول الفصل (16) من مشروع قانون اللّجنة تلافي هذه الثّغرة فوقع فيما هو أشنع منها: إذ خالف الحكم الشّرعي من جهتين مخالفة مضاعفة، فنسب ابن الزّنى للأب دون موجب شرعي بالاستناد إلى التحليل الجيني وشهادة الشهود فقط، ثمّ مكّنه من كافّة الحقوق التي للإبن على أبيه دون موجب شرعي أيضًا لأنّ الأب أنكرهُ ولم يستلحقه ولم يطالب به…كما نصّ هذا الفصل أيضًا على إلغاء مفهوم ابن الزّنى (صوْنًا لكرامة الطّفل) بما يطمس نسبه الأصلي نهائيًّا ويمكّنه من الذّوبان في نسبه الجديد وإن لم يثبت بشكل قطعي…كما طالب مشروع قانون اللّجنة بحرّية اختيار اللّقب العائلي للأبناء (لقب الأب ولقب الأم) في حركة مجّانية تؤسّس لفوضى الأنساب وتكرّس اختلاطها…
الإعدام والمثليّة
من المسائل الحسّاسة التي تناولها مشروع قانون اللّجنة أيضًا مسألة عقوبة الإعدام، حيث سعى لإلغائها جزئيًّا أو كليًّا، فاقترح حلّين للتعاطي معها: الأوّل يدعو صراحةً للقطع معها وإلغائها نهائيًّا استجابةً للتوجّهات الدّوليّة…أمّا الحلّ الثاني فيبقي عليها مع تقييدها وتحجيمها والاقتصار في الالتجاء إليها على الجرائم التي أدّت إلى الموت فقط…وهذا مخالف صراحة للأحكام الشرعيّة ولفلسفة الإسلام العقابيّة: فالإعدام حدّ من حدود الله في الكثير من المواطن بوصفه طريقة وكيفيّة دائميّة إمّا لحفظ النّفس (قتل القاتل) أو لحفظ العقيدة (قتل المرتدّ) أو لحفظ النّسل (رجم الزّاني) أو لحفظ الدّولة (حدّ الحرابة)… فالإعدام في الإسلام علاج شرعي والتخلّي عنه لا يحلّ المشاكل بقدر ما يُفاقمها وهذا بيت القصيد ومراد الكافر المستعمر…كما تطرّق مشروع قانون اللّجنة ـ في حركة لا أخلاقيّة صفيقة ـ إلى مسألة المثليّة الجنسيّة مطالبًا بإباحة هذا السّلوك الشاذّ الذي تترفّع عن مثله الحيوانات، مقترِحًا حذف الفصل 230 من المجلّة الجزائيّة الذي يجرّم الشّذوذ الجنسي…وحفاظًا منه على (كرامة) المثليّين، نصّ مشروع القانون على استبعاد العمل بالفحص الشرجي الذي يثبت الجريمة على مرتكبها بالقطع، وفي كلّ هذا ما فيه من تزيين للمنكر وتشجيع على الفسق والفجور ومخالفة للمعلوم من الإسلام بالضّرورة: فاللّواط من أشنع المعاصي والذّنوب وأشدّها حرمة وقبحًا، وهو من الكبائر التي يهتزّ بها عرش الرّحمان، وحدُّه شرْعًا القتل البتّة: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم (من وجدتموه يعمل بعمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به)…وسيذكر التّاريخ في مزبلته أنّ أعضاء اللّجنة التسعة (بشرى بالحاج حميدة ـ عبد المجيد الشّرفي ـ سليم اللّغماني ـ صلاح الدّين الجورشي ـ سلوى الحمروني ـ درّة بوشوشة ـ مالك غزواني ـ إقبال الغربي ـ كريم بوزويتة) نادوا بتقنين المثليّة وطالبوا بإباحة اللّواط وعدم تجريم الشّذوذ الجنسي، وكفى بذلك خزيًا وعارًا أبديًّا لهم…أمّا تونس القيروان والزّيتونة وشعبها المسلم الابيّ فأعظم منهم وأسمى من فجورهم وحيوانيّتهم وصدق الله العظيم حيث قال (وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون) ـ النّمل 48 ـ
مؤسّسة الزّواج
من المواضيع الحسّاسة التي طفح بها كيل مشروع قانون اللّجنة جملة من المسائل المتعلّقة بالزّواج، وأولاها مسألة زواج المسلمة بغير المسلم، حيث طالبت اللجنة بمطلق الحريّة للمرأة في أن تتزوّج من تشاء دون اعتبار للموانع الشّرعية…وقد كانت مجلّة الأحوال الشّخصيّة في الفصل (14) من كتاب الزّواج أهملت عمدًا ذكر اختلاف الدّين لغاية خبيثة، أمّا تقرير اللّجنة فكان أكثر جرأة وطالب صراحةً بعدم اعتباره مانعًا من موانع الزّواج…وغنيّ عن الذّكر أنّ هذا مخالف للمعلوم بالأدلّة القطعيّة: فلا يحلّ شرعًا للمسلمة أن تنكح كافرًا إلاّ أن يُسلم لقوله تعالى (ولا تنكحوا المشركين حتّى يؤمنوا ولعبدٌ مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم) ـ البقرة 221 ـ وقوله تعالى (فإن علمتوهنّ مؤمناتٍ فلا ترجعوهنّ إلى الكفّار لا هنّ حِلٌّ لهم ولا هم يحلّون لهنّ) ـ الممتحنة 10ـ المسألة الثّانية تتعلّق بالمهر أو الصّداق: فقد طالبت اللّجنة بإلغائه من عقد الزّواج بحجّة أنّه (يهين كرامة المرأة) وهذا يُبطل العقد حسب المالكيّة لأنّه يُخلّ بركن من أركانه كما جاء في مختصر الخليل (ورُكنه وليّ وصداق ومحلّ وصيغة)، فإلغاء المهر هو استهداف ممنهج ومقصود لعقد الزّواج ومواصفاته الشّرعية…المسألة الثّالثة تتعلّق بالعدّة: وكانت مجلّة الأحوال الشخصيّة قد خلطت عمدًا بين عدّة المطلّقة الآيسة التي تُحسب بالشّهور وعدّة المطلّقة ذات الحيض التي تحسب بالإقراء…أمّا مشروع قانون اللّجنة فقد طالب بإلغاء مدّة العدّة (ثلاثة قروء أو أربعة أشهر وعشرًا) بالنّسبة للمطلّقات والأرامل اللّواتي يردن الزّواج من جديد على أن يكون الإلغاء جزئيًّا مقتصرًا على حالتي فقدان الزّوج أو وفاته قبل عمليّة البناء…وهذا ـ إلى جانب كونه مخالفًا للشرع ـ فهو خطير لأنّه يعزل آليّة التّثبّت من براءة الرّحم وهي آليّة شرعية هامّة لحفظ الأنساب والحيلولة دون اختلاطها، قال تعالى (والمطلّقات يتربّصن بأنفسهنّ ثلاثة قروء)…
حملة مفتعلة
بعد هذا الاستعراض السّريع لأهمّ المسائل التي تناولها مشروع قانون لجنة الحرّيات الفرديّة والمساواة نخلص دون عناء إلى أنّنا بإزاء فقّاعة سياسيّة وزوبعة استعماريّة في فنجان إسلامي: فالقضيّة برمّتها مفتعلة وغير مقصودة لذاتها بقدر ما اعتُمدت مطيّةً لاستهداف الأحكام الشرعية المتعلّقة بالأحوال الشخصيّة الإسلامية، أمّا الحريّة والمساواة والكرامة والحقوق فما هي إلاّ عناوين برّاقة دسمة يُمرّر عبرها السمّ الزّعاف…وممّا يدعم هذا الاستنتاج أوّلاً: أنّ هذه الحملة قد تناولت مسائل جانبيّة جزئيّة ثانويّة ليست لها علاقة عضويّة مباشرة بما ادّعته الّلجنة لنفسها من تدعيم الحرّيات وتكريس المساواة وحمايتها دستوريًّا واجتماعيًّا…فمسائل من قبيل (العدّة ـ المهر ـ الإعدام ـ اللّقب العائلي ـ المثليّة ـ الميراث…) ليست مسائل حرجة وأكيدة ومُلحّة تتوقّف عليها حياة النّاس وحرّيتهم ومكانتهم الاجتماعيّة…كما أنّ تناولها لم يكن بالشّكل الذي يحقّق الهدف المعلن: فكيف نخلّص المهر ممّا يخلّ بكرامة المرأة مع الإبقاء عليه..؟؟ ما علاقة العدّة بحرّية المرأة ومساواتها بالرّجل..؟؟لم اقتصرنا على عدّة الفقدان وعدّة قبل الدّخول دون سائر أنواع العدّة…؟؟ ما علاقة اختيار اللّقب العائلي بالحرّية والمساواة وكيف يتحقّق ذلك بين الأبناء في الأسرة الواحدة..؟؟ أليست مصطلحات (الطّفل المهمل ومجهول النّسب) تخدش الكرامة، فلم نبقي عليها ونلغي مصطلح (ابن الزّنى)..؟؟ وممّا يدعم ذلك الاستنتاج أيضًا أنّ المسائل المطروحة تبدو مسقطة على المجتمع غير منبثقة من رحمه ولا هي إفراز طبيعي لما يعتمل فيه من قضايا ومشاكل وهذا مخالف للسّنن الاجتماعيّة: فالأصل في المشاكل التي يفرزها المجتمع أن تعكس غليانًا شعبيًّا وامتعاضًا عامًّا يستفحل أمره ويتحوّل إلى ظاهرة اجتماعيّة ممّا يضطرّ السّلطة إلى التدخّل لتجد له الحلول العاجلة…لكن ما حصل مع هذه اللّجنة وتقريرها هو العكس تمامًا: فنحن بإزاء قضيّة من ورق وُلدت أصلاً في بطون التقارير المخابراتيّة في شكل تعليمات للتّنفيذ سرعان ما احتُضِنت سياسيًّا ورُوِّج لها إعلاميًّا لتحقّق هدفها المتمثّل في الاستهداف المجاني للشّرع الإسلامي…
وإذا عُرف السّبب
نصل الآن إلى السّؤال المركزي: من وراء هذه اللّجنة المشبوهة بما تجرّه وراءها من مشروع استعماري محارب لله ورسوله..؟؟ إنّ ما تضمّنه مشروع قانون لجنة الحريات الفرديّة والمساواة من تنقيحات وتعديلات وفصول مستهدفة للأحكام الشرعيّة المتعلّقة بالأحوال الشخصيّة الإسلاميّة هو في الواقع التزام حرفي بقرارات البرلمان الأوروبي وتوصيات المجلس العالمي لحقوق الإنسان وخضوع ذليل للضغوطات الصّادرة عنهما…فالمادّة (14) من قرار البرلمان الأوروبي المؤرّخ في 14/09/2016 نصّت صراحةً على الطّلب الرّسمي من تونس إقرار المساواة في الميراث وعدم تجريم المثليّة وإلغاء عقوبة الإعدام مقابل منحها جملة من المساعدات…وقد كان وزير العلاقة مع الهيئات الدستورية والمجتمع المدني وحقوق الإنسان المهدي بن غربيّة قد التزم في الدّورة (36) للمجلس العالمي لحقوق الإنسان بتاريخ 15/09/2017 بتنفيذ جملة من التّوصيات تتعلّق بمسألة ملاءمة القوانين المتعلّقة بالأحوال الشخصيّة وحقوق الإنسان والحريات مع مقتضيات دستور 2014 والالتزامات الدّولية ذات الصّلة…وقد جدّد الوزير هذا الالتزام في الدّورة (37) المنعقدة بتاريخ 28/02/2018 حيث أكّد تشبّث تونس الراسخ بحقوق الإنسان بكلّ أبعادها السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة مؤكِّدًا العزم على مواصلة العمل مع جميع الهياكل الأمميّة والانفتاح على التّعاون مع كلّ الأطراف الدّولية في مجال حقوق الإنسان…هذا دون أن ننسى أنّه في نفس الأسبوع الذي قدّمت فيه اللّجنة تقريرها لرئيس الدّولة وبتاريخ 18/06/2018 التقى المهدي بن غربيّة بالرّئيسة الجديدة لمكتب المفوّضية السامية لحقوق الإنسان بتونس (تيريزا ألبيرو) وتباحث معها حول سبل تعزيز التعاون القائم بين الوزارة والمفوّضية ومتابعة تنفيذ البرامج والمشاريع المشتركة وتعزيز الشّراكة مع مكوّنات المجتمع المدني وقطاع الإعلام لنشر ثقافة حقوق الإنسان والتعريف بمبادئها الكونيّة…وإذا عُرف السّبب بَطُل العجب…