في ظل الأزمات التي تمر بها البلاد والتي لا تكاد تنتهي وفي إطار الإيهام بصراعات سياسية احترف فرقاؤها تمثيل أدوار الساسة الذين تقيد مواقفهم ثوابت سياسية وتحدد أعمالهم ضوابط مبدئية حتى ليخيّل إلى المراقب أن مصير البلاد يؤرقهم وأن الصراع بينهم هو صراع برامج وخيارات يراد إقناع الرأي العام بها، نجد أن الإعداد لميزانية العام القادم 2019 تسير بوتيرة رتيبة وفي فجوة من عاصفة الصراعات التي تبدو أمام عيون العامة من الناس حتى لكأن مصير البلد مرهون برأي هذا الطرف أو ذاك وهي في الحقيقة لا تختلف في منهجيتها وأهدافها ولا في أبوابها وفصولها عمّا سبقها من ميزانيات سنوات ما بعد الثورة ولا حتى ميزانيات ما قبلها حيث لم تتجاوز الأهداف المعتمدة الكلام العام من مثل: التقليص من نسبة عجز الميزانية و ترشيد النفقات وإحكام التصرف في الميزانية، دون أن نجد أيّ إشارة إلى استراتيجية سياسية لكيفية الخروج باقتصاد البلاد من الدرك الذي أردته فيه سياسات التبعية التي انتهجتها مختلف السّلط التي تتالت على البلاد لأكثر من ستة عقود.
فحمل عدم تطور الناتج المحلي الخام للبلاد، ببساطة، على التطور الهام لكتلة الأجور مما يستدعي العمل على النزول بنسبتها إلى 12.5 بالمائة من الناتج مع حلول سنة 2020 يكشف عن سعي الحكم على التغطية على الأسباب الحقيقية للأزمة الإقتصادية وإخفاء الجهات المسؤولة عنها ومن ثمّ تحميل أوزار الفشل هذا على ضحايا هذه السياسة مما اقتضي
ـ سدّ باب الإنتدابات
ـ عدم تعويض الشغورات الناتجة عن الإحالات على التقاعد العادي أو في إطار الإحالة على التقاعد قبل بلوذ السن القانونية أو أي حلة مغادرة
ـ الحد من الترقيات المستحقة
فحين تسمح سلطة لقوة استعمارية، كصندوق النقد الدولي بالتدخل المباشر لمناقشة خططها بشأن سياسات إصلاح اقتصادها الذي تسببت سياسة ذات القوة في تدميره وبدعوى مقاومة التضخم وخفض العجز في المالية العامة وبدعوى مقاومة الفقر وحماية الفقراء ومحاربة الفساد والفاسدين، تكون فصول المأساة قد اكتملت.
وحين يفرض صندوق النقد الدولي هذا على الحكومة التونسية خفض سعر صرف الدينار بدعوى تعزيز صادرات البلاد، و إنعاش اقتصادها، وبدعوى جذب الإستثمارات، والقدرة على المنافسة في الساحة الدولية بالاعتماد على سعر صرف منافس للعملة ثم لينبّه رئيس بعثة الصندوق إلى تونس، ” بيورن روتر “، ويحذّر من حدوث هبوط مفاجئ للدينار، حين قال: ” لسنا بحاجة أن يحدث ذلك بشكل مفاجئ”. وهو يعلم يقينا أن ذلك سيحدث، تكون ” الملهاة المأساة ” قد بلغت ذروتها.
وحين تتخلى هذه السلطة عن عوامل القوة المتوفرة لها، الطاقة البشرية الكفأة وثرواتها المنجمية، لأداء دورها في رعاية الشأن العام و تثبيت مكانتها على الساحة الدولية لتضعها لقمة سائغة بين أيدي القوى الطامعة كأن تجعل من جغرافيتها مجالا لاستنزاف ثرواتها ومواردها الطبيعية بدعوى الإستثمار حتى لا يبقى لها أي سلطان على ثرواتها الباطنية ثم لتمتدّ مطامع الدول الإستعمارية وشركاتها النهمة إلى مؤسساتها الربحية حتى يصبح التفريط فيها ضرورة إقتصادية وسياسة واجبة الإتباع.
وحين تهيئ هذه السلطة عديد سكانها، ليكون رافدا لاقتصاديات البلدان المهيمنة بحجة توفير مواطن العمل والقضاء على البطالة بالتهجير المنظّم أو الدّفع نحو الهجرة السرية، حتى يغدو الهروب من البلد مغنما تسعى إليه العقول والسواعد.
فلا غرابة أن تضطرب الحياة في بلد قيل عنه يوما أنه كان ” مطمور روما ” ولعله اليوم يعمل ساسته والمسلّطون عليه أن يكون ” مطمورا ” لغير أهله ليستحيل فهم مجريات الأحداث في بلادنا بعيدا عن فهم الدور الذي تقوم به هذه المؤسسات الدولية في الضغط على اقتصادها بفرض التقشف على الناس وعيش الضنك والتحكم في مختلف الأحداث بالهبوط بالحياة السياسية إلى درجة العبث بافتعال المعارك ” الدونكشوتية ” بين أغرار السياسة وصبيانها، لمحاولة الإلتفاف والقضاء على الحالة الثورية التي تجتاح البلاد العربية تحديدا، ومنها تونس، والإسلامية عامة.
فقد استطاعت القوى الإستعمارية، جعل آلية التداين الملاذ الوحيد الذي يلجأ إليه حكام هذا الزمان بل ويدفعون إليه دفعا، حتى غدا الدين العام الخارجي لتونس يمثل 71 بالمائة من الميزانية العامة عام 2018، لتستغرق مدفوعات الديون 22 بالمائة من موازنة هذا العام، مما جعل اتخاذ بعض الإجراءات الأليمة سياسة حتمية يتحمل تبعتها ضعاف الناس:
ـ مزيد من تدابير التقشف التي زادت في أسعار السلع
ـ انهيار قيمة الدينار التونسي وأثره السلبي على العائلات الفقيرة.
ـ التخفيض في الإنفاق العام على المصالح الحيوية ( التعليم، الصحة، النقل…)
ـ الترفيع في ضرائب الإنفاق غير المباشرة بحجة زيادة إيرادات الدولة.
ما قد يثير الغرابة عند من يجهلون حقيقة هؤلاء المسلطين على رقاب الناس العابثين بمصائرهم والمقامرين بمستقبلهم هو إصرارهم على البحث عن حلول لعجزهم عند من كانوا سببا في مصائبنا وآلامنا والمضي في الخضوع لهم والإستسلام لحلولهم المسمومة. فقد غدوا يقومون لأسيادهم بدور مكاتب المحاسبة التي تقوم بتوفير المعلومات للأغراض التي يرسمونها وذلك لمساعدتهم في مجالات التخطيط وإنتاج المعلومات والرقابة واتخاذ القرارات. فهم لا يتجاوزون دور الموظف الذي يكلف بعمل يسعى لإبراز قدرته على حسن الأداء دون أن يكون له رأي أو قرار.
فهذه العلاقة الغريبة بين هؤلاء الحكام وقوى الهيمنة الأجنبية لا تفسرها إلا الضمانة التي يوفرها لهم أعداء الأمة لبقاء سلطانهم بعد انقطاع الدعم الشعبي عنهم، وإعراضهم عن الأحكام والمعالجات الإسلامية للمشاكل الحياتية التي تعترض المجتمعات الإنسانية لخلو عقولهم من حقائق الإسلام ولظنهم أن مثل هذه المشاكل لم يعالجها الإسلام ولم يتطرق إليها، خصوصا فيما يتعلق بأحكام الدولة عموما وما يتعلق بماليتها ومصادر الإنفاق فيها على ما يصلح الناس وهو الأمر الذي سنتعرض له تباعا في قادم الأعداد.