الحلال والحرام: عقيدة سياسيّة ومقياس أعمال ووجهة نظر في الحياة

الحلال والحرام: عقيدة سياسيّة ومقياس أعمال ووجهة نظر في الحياة

حدّث أبو ذرّ التونسي قال: كنّا في الجزء الأوّل من هذه المقالة توصّلنا ـ نظريًّا ـ إلى أنّ الشّريعة الإسلاميّة قد اختزلت الكون والإنسان والحياة في معادلة الحلال والحرام أي في أفعال التكليف الخمسة بحيث لا يمكن شرعًا أن يوجد فعل للعبد أو شيء من متعلّقات ذلك الفعل خارج تلك المعادلة بما في ذلك الممارسة السياسية في أدقّ تفاصيلها وأبسط جزئيّاتها… واستنتجنا تبعًا لذلك أنّ العقيدة الإسلاميّة ووجهة نظرها في الحياة (الحلال والحرام) هي أساس الفكر السياسي لدى المسلمين: فهي التي تنحت ملامح شخصيّة السياسي المسلم وتؤسّس الوعي السياسي لديه وتحدّد له الزّاوية الخاصّة التي ينظر من خلالها إلى العالم ويستند إليها في إدراكه وحسّه وفهمه للوقائع والأحداث وتعامله معها وحكمه عليها… أمّا في الجزء الثاني من هذه المقالة فسنضيّق الخناق أكثر حول موضوع بحثنا ونحاول شيئًا فشيئًا أن ننخرط في التطبيق وأن ننزّل استنتاجاتنا على واقع التفكير السياسي في علاقته بالواقعية والمبدئيّة وعلى واقع الممارسة السياسيّة الإسلاميّة في علاقتها بالذّاتية والموضوعيّة…فما مدى ارتباط السياسة في الإسلام بالواقع وبأحكام الشّرع..؟؟ وما مدى مراوحة السياسي المسلم بين العقل والنّقل..؟؟ أي في نهاية الأمر ما مدى استيعاب معادلة الحلال والحرام للتفكير السياسي في الإسلام وما مدى انضباط السياسي المسلم بتلك المعادلة والتزامه بها أثناء تلبُّسه بالممارسة السياسية..؟؟

في السّياسة

ممّا لا شكّ فيه أنّ السّياسة في أدنى مستوياتها هي رعاية الشؤون بالمبدأ، فساس النّاس يسوسهم أي رعى شؤونهم بتنظيم علاقاتهم ودفع التظالم وفصل التّخاصم فيما بينهم وقضاء سائر حوائجهم الحياتيّة بما يقتضيه كلّ ذلك من إقامة سلطان وحكم… وكما تمارس السّياسة في ظلّ الدّولة من طرف الحكّام والأحزاب فإنّها تمارس أيضًا في غياب الدّولة من طرف الأفراد أو التكتّلات والأحزاب القائمة على أساس العقيدة الإسلاميّة التي تسعى لاستئناف الحياة الإسلاميّة…هذا النّوع الثّاني من الممارسة السياسيّة هو محلّ شاهدنا ومناط بحثنا، وهو ما اصطُلح عليه بحمل الدّعوة بما يتطلّبه من أعمال من قبيل التثقيف والصّراع الفكري والكفاح السياسي وكشف مخطّطات الأعداء وبيان خيانات الحكّام وتبنّي مصالح الأمّة وطلب النّصرة من أهل الشوكة وما إلى ذلك من النشاطات التي يُراد منها إيجاد رأي عامّ منبثق عن وعي عامّ حول أفكار الإسلام ومشروع حزب التحرير حتى يغلي قدر الأمّة وينفجر في وجه الاستعمار وأذنابه…وخلاصة القول أنّ الممارسة السياسيّة ـ سواء أكانت في ظلّ الدّولة أو في غيابها ـ لا تعدو كونها أقوالاً وأفعالاً ومتعلّقاتها من الأشياء (إجراءات ـ أوامر ـ نواهٍ ـ قرارات ـ أفكار ـ أحكام ـ خطط ـ وسائل ـ أساليب…) وهي بالتّالي منضبطة بالقاعدة الأصولية (الأصل في الأفعال التقيّد بالحكم الشرعي والأصل في الأشياء الإباحة ما لم يرد دليل التحريم) ونحن مطالبون بأن نتقيّد فيها بالأحكام الشرعيّة لأنّها داخلة تحت عموم قوله تعالى (وما آتاكم الرّسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) وقوله صلّى الله عليه وسلّم (كلّ عمل ليس عليه أمرنا فهو ردّ)… وهي أيضًا مشمولة بوجهة النّظر في الحياة وتقاس بالحلال والحرام ويُتعبّد بها أي يُرْجى من ورائها نوال رضوان الله تعالى… وسواء أتناولناها من زاوية فقهيّة بحتة أم من زاوية سياسيّة بحتة فهي تبقى أحكامًا شرعيّة مستنبطة من الدّليل الشرعي أي ممّا جاء به الوحي: فرسم الخطط ووضع الأساليب وفهم واقع الحكّام وواقع التكتّلات وارتباطاتهم بالكافر المستعمر ومحاولة اختراقهم وفضح عمالتهم وتبعيّتهم والاتّصال بالنّاس ونقاشهم ومقارعة الحجّة بالحجّة… كلّها أفعال مسيّرة بالحكم الشرعي أي بالحلال والحرام معنيّة بخطاب الشّارع المتعلّق بأفعال العباد إمّا بالفعل (واجب ـ مندوب) أو بالترك (حرام ـ مكروه) أو بالتخيير بين الفعل والترك (مباح)…بمعنى أنّ لها أحكامًا شرعيّة متعلّقة بها تمامًا كأحكام الطّهارة والصّلاة والزّكاة والصّوم والنكاح والطّلاق والحج والحيض والنفاس… وليست هي من قبيل (المتحرّك والمتحوّل والعفو ومناطق الفراغ) التي تُدار (بالتكمبين والتكتيك والفهلوة والكمباس) الذي لا يخضع للحلال والحرام… فسواء أمارسنا في حقّها الإفتاء الفقهي الجاف أو رعينا بها الشؤون ونزّلناها على أحداث السياسة ووقائعها الجارية فنحن في دائرة الحلال والحرام وعينا بذلك أم لم نعِ، قصدناه أم لم نقصدهُ…

بين المبدئيّة والواقعيّة

لئن كان التفكير في المطلق هو (حكم على واقع) فإنّ التفكير السياسي يتميّز بأنّ واقعه يتعلّق برعاية شؤون الناس وأنّ حكمه عليه لا بدّ أن يتمّ حسب مبدأ ووجهة نظر في الحياة…

هذا التعريف يعكس ارتباط الواقعية بالمبدئية في التفكير السياسي: فهو ينطلق من الواقع المراد علاجه ثم يرتقي إلى المبدأ، بمعنى أنّه واقعي بوصفه تحقيقًا لمناط عملي وليس بحثًا في افتراضات خياليّة وهو مبدئي بصفته علاجًا لحالات واقعيّة حسب مبدأ معيّن…فالواقعيّة والمبدئيّة والموضوعيّة والذاتيّة والعقل والنّقل تتقاطع كلّها وتتضافر وتتكامل في عمليّة التفكير السياسي أي في نقل الواقع إلى الدّماغ وربطه بالمعلومات السابقة والخروج بحكم عليه…فالسّياسي المسلم ينطلق من الواقعيّة والموضوعيّة والعقل في فهم الواقع وينتهي إلى المبدئيّة والذاتيّة والنّقل في معالجة ذلك الواقع حسب نصوص الشرع: فوصف الواقع وتحقيق مناطه مجالُه العقل ولا يحتاج إلى أدلّة شرعيّة بقدر ما يحتاج إلى المعلومات المتعلّقة به ودراستها بعمق… لكن, حين نريد أن نعيّن موقفنا من هذا الواقع أي الحكم عليه ومعالجته لابدّ حينئذٍ من البحث عن الدّليل الشرعي ولا يجوز للعقل أن يتدخّل، فالذي يعيّن موقف المسلم تجاه الوقائع هو الشرع وحده وينحصر دور العقل في فهم النصّ…فالسياسي المسلم موضوعي واقعي عقلاني حين ينقل الواقع المبحوث إلى الدّماغ بأمانة ودون تأثيرات جانبيّة، وهو مبدئي ذاتي فقيه حين يباشر الحكم على ذلك الواقع من زاوية العقيدة الإسلاميّة… وبالمحصّلة فهناك علاقة جدليّة بين التفكير السياسي والفقه الشرعي: فلئن كان الفقه هو (العلم بالمسائل الشرعية العملية المستنبطة من الأدلّة التفصيليّة) فإنّ التفكير السياسي هو (حكم حسب المبدأ الإسلاميّ على واقع يتعلّق برعاية شؤون النّاس)، فكلاهما ربط للواقع بنصوص الكتاب والسنّة للخروج بالحكم الشرعي وكلاهما استنباط لمعالجات مبدئيّة إسلاميّة وتنزيل لها على واقع عملي معيّن…فالتّفكير السياسي في الإسلام تفكير شرعي والأعمال السياسية أحكام شرعيّة والسياسة باب من أبوب الفقه يتطلّب تحرّي النّصوص والأدلّة قبل مباشرة الفعل والسياسي المسلم يتعبّد الله بالعمل السياسي فيحرص على أن تكون ممارسته على الوجه الذي يريده الله بعيدًا عن الواقعيّة والمصلحيّة والأهواء…

بين العقل والنّقل

غير أنّ هذا الجانب العقلاني الموضوعي الواقعي في التفكير السياسي والممارسة السياسية هو نفسُه داخل في دائرة الحلال والحرام محكوم بمعادلة أحكام التكليف الخمسة لأنّه ثابت بالدّليل الشرعي ومنصوص عليه في مصادر التشريع بالقطع: فالنّقل أي الشرع هو الذي عيّن لنا متى نعتمد على العقل والواقع ونغلّب الجانب الموضوعي الواقعي ومتى نعتمد على النصّ والدّليل الشرعي ونغلّب الجانب الذاتي المبدئي… فتقسيم الآراء إلى أربعة أنواع والتفريق بينها حسب مجالاتها وميادينها (رأي تشريعي ـ رأي فكري ـ رأي فنّي ـ رأي مجرّد مؤدّي إلى العمل) ثم التّعامل معها بما تقتضيه طبيعتها وواقعها من حيث الاعتماد على العقل أو النّقل، هذا التصوّر هو في حدّ ذاته اجتهاد شرعي أي بذل للوسع في استنباط الأحكام الشرعيّة من أدلّتها التّفصيلية: فكون الرّأي التشريعي يتوقّف على النّصوص الشرعيّة والعبرة فيه بقوّة الدّليل بصرف النّظر عن موقف الأغلبيّة هو حكم شرعي ثابت بصريح القرآن الكريم (إنّ الحكم إلاّ لله ـ فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى الله والرّسول…) وثابت بصحيح السنّة المشرّفة حيث لم يرضخ الرّسول صلّى الله عليه وسلّم لرأي غالبيّة المسلمين في صلح الحديبيّة وأمضى العقد وقال (إنّي عبد الله ورسوله ولن أخالف أمره ولن يضيّعني)…وكون الأمور الفكريّة والفنيّة التي تحتاج إلى خبرة وبحث وتعمّق وإمعان نظر العبرة فيها بالصّواب ويُرجع فيها لأهل الاختصاص دون اعتبار لأكثريّة وأقليّة هو أيضًا حكم شرعي ثابت بالقرآن الكريم (فاسألوا أهل الذّكر إن كنتم لا تعلمون) وبالسنّة المشرّفة حيث نزل الرّسول الأكرم في بدر عند رأي الخبير العسكري الحباب بن المنذر وتخلّى عن رأيه ولم يستشر أحدًا… وكون الرّأي المجرّد المؤدّي إلى العمل الذي لا يتطلّب رويّةً وإعمال فكر يؤخذ فيه برأي الأكثريّة ويكون رأيُها مُلزمًا ولا دخل للفقهاء والفنيّين في ذلك هو أيضًا حكم شرعي ثابت بالكتاب (وشاورهم في الأمر) وبالسُنّة المشرّفة حيث نزل الرّسول الأعظم في أُحد عند رأي الغالبيّة وخرج لملاقاة قريش خارج المدينة وترك رأيه ورأي كبار الصّحابة… فهي أحكام شرعيّة ثابتة بأدلّتها الشرعيّة من الكتاب والسنّة، وإنّ العمل بمقتضاها واجب في حقّ المكلّفين داخل في دائرة الحلال ومخالفتها إثم يعاقب عليه وهو في دائرة الحرام… فعدم الأخذ بالأكثريّة في الرّأي المجرّد المؤدّي إلى العمل أو عرض الآراء التشريعيّة أو الفنيّة والفكريّة على استفتاء شعبي هو فعل حرام، ونحن عندما نوكل أمر تحقيق المناط السياسي بالشكل المطلوب إلى عقولنا بمنتهى الواقعيّة والموضوعيّة ليس معنى ذلك غياب الحكم الشّرعي أوسكوت الشرع بل نكون قد حكّمنا الشّرع وانصعنا للحكم الشّرعي والتزمنا به…فسواء اعتمدنا على العقل والواقع أم على النّقل والأدلّة الشّرعية فنحن في قلب دائرة الحلال والحرام…

في الدّليل الشّرعي

وكون الممارسة السياسيّة أحكامًا شرعيّة مسيّرة بالحلال والحرام يفترض أنّ لكلّ فعل سياسي ـ كليًّا كان أم جزئيًّا ـ دليلاً شرعيًّا أي نصًّا تفصيليًّا يكون حجّةً على أنّ المبحوث عنه حكم شرعي لا عقلي، فالأفعال ومُتعلّقاتها من الأشياء لا يجوز أن تُعطى حكمًا من أحكام التّكليف إلاّ إذا كان هناك دليل شرعي على ذلك الحكم، لاسيما ونحن في معمعان الصّراع الفكري والكفاح السياسي حيث تتكثُّف الأحداث وتتسارع وتيرتها وتتدافع الخطط والدّسائس والمؤامرات والعملاء والأفكار الهدّامة والمشاريع المسمومة…من هذا المنطلق فإنّ دائرة الأحكام الشرعيّة المتّسعة مبدئيًّا اتّساع الأعمال السياسيّة سُرعان ما تضيق شيئًا فشيئًا كلّما انتقلنا من الكتاب إلى السنّة إلى القواعد الكليّة إلى نوعيّة الدّلالة نفسها (دلالة الالتزام ـ دلالة الاقتضاء ـ دلالة التّنبيه والإيماء ـ دلالة الإشارة…) ماسِحةً بحُكمها جميع أعمال الممارسة السياسيّة بحيث لا تنغلق إلاّ وقد استوعبت كلّ فعل فيها وكلّ وسيلة أو أسلوب وصبَغتُه بالحلال والحرام مصداقًا لقوله تعالى (ما فرّطنا في الكتاب من شيء)…فنصوص القرآن الكريم أوجبت على المسلمين حمل الدّعوة الإسلاميّة بما تقتضيه من أعمال سياسيّة: فأوجبت إقامة كتلة للاضطلاع بتلك المهمّة (ولتكن منكم أمّة يدعون إلى الخير) وحثّت المسلمين على تبليغ رسالة الإسلام (وأوحي إليّ هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ) ورغّبت في ذلك ومدحت فاعله (ومن أحسن قولاً ممّن دعا إلى الله وعمل صالحًا وقال إنّني من المسلمين)… كما رسمت تلك النّصوص طريقة حمل الدّعوة للرسول الأعظم وحدّدت له معالمها ومراحلها (يا أيّها المدّثر قم فأنذر…فاصدع بما تؤمر…) ونبّهته إلى هَناته (عبس وتولّى…واصبر نفسك مع الذين يدعون ربّهم…) وزوّدته بمادّة للصّراع الفكري والكفاح السياسي (ويل للمطفّفين… تبّت يدا أبي لهب… وإذا الموؤودة سُئلت… عُتلٍّ بعد ذلك زنيم… ألكم الذّكر وله الأنثى… أفلا ينظرون إلى الإبل…) وفي كلّ هذا ما فيه من درس عملي لحملة الدّعوة العاملين اليوم على استئناف الحياة الإسلاميّة…

في الأساليب السياسيّة

غير أنّ نصوص القرآن الكريم جاءت في شكل أصول وأحكام عامّة وخطوط عريضة وهي محدودة في العدد لا يمكن لها ـ حسابيًّا ـ أن تُغطّي الأعمال السياسيّة في تجدّدها وتنوّعها، فكيف نعالج اللاّمحدود بالمحدود..؟؟ ورغم ذلك فإنّ تلك النّصوص القرآنيّة قادرة على استيعاب الممارسة السياسيّة في أدقّ تفاصيلها وأبسط جزئيّاتها،فهي عميقة المعاني عامّة المقاصد مُتّسعة لاستنباط أحكام متعدّدة كما أنّ أحكامها مُتّسعة بدورها للانطباق على مسائل كثيرة…صحيح أنّ وسائل وأساليب حمل الدّعوة والعمل السياسي ليس كلّ واحد منها مشمولاً بدليل خاصّ به على سبيل الاستقصاء ولكنّها عمليًّا لا تحتاج إلى ذلك فيكفي الدّليل العامّ الذي يدلّ على أصلها ـ أي النّصوص المذكورة في وجوب حمل الدّعوة ـ لسدّ ذلك الشّغور…ورغم أنّ تلك الأساليب أفعال ولا يصحّ أن تجري إلاّ حسب الأحكام الشرعيّة ـ فالأصل في الأفعال التقيّد بالحكم الشرعي ـ إلاّ أنّ الدّليل الشرعي على أصلها جاء عامًّا فيشمل كلّ ما تفرّع عنها من أفعال ويزوّدها بأدلّة: فقوله تعالى (ولتكن منكم أمّة…) دليل شرعي على إقامة تكتّل سياسي لاستئناف الحياة الإسلاميّة، وهو دليل شرعي أيضًا على كلّ الأفعال الفرعيّة المقتضية أو المترتّبة عن ذلك الحكم (تخصيص مقرّ ـ إعطاؤه إسمًا ـ تزويده بقانون أساسيّ ـ شروط عضويّته ـ روزنامة عمله ـ تمويله…) وهي كلّها أفعال متفرّعة عن (ولتكن منكم أمّة…) ويشملها الدّليل العامّ بدلالته لأنّه لم يأت دليل جزئي خاصّ بها فدليلها هو دليل أصلها وهكذا جميع الأساليب…فالدّليل العامّ على وجوب حمل الدّعوة (وأوحي إليّ هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ) يدلّ بدلالة الالتزام على إباحة استنباط شتّى الأساليب الكفيلة بتغطية جميع الأعمال السياسيّة التي يقتضيها حمل الدّعوة مهما تعدّدت وتنوّعت، لأنّ هذه الأساليب فرع عن ذلك الأصل فتكون داخلة فيه وتأخذ حكمه.

الأدلّة من السنّة

وبالتّوازي مع دلالة الالتزام والاقتضاء تولّت السنّة المشرّفة ملء الفراغات غير المغطّاة مباشرة بأصول الأحكام القرآنيّة مضطلعة بمهمّتها المتمثّلة في تخصيص العامّ وتقييد المطلق وتفصيل المُجمل مصداقًا لقوله تعالى (لِتُبيّن للنّاس ما نُزّل إليهم)… فكانت المرحلة المكيّة ـ مناط بحثنا ـ درسًا عمليًّا في السّياسة ونموذجًا متكاملاً لطريقة حمل الدّعوة واستئناف الحياة الإسلاميّة: ففيها وقع تأسيس الكتلة في دار الأرقم وتثقيف الصّحابة وتكوين الشخصيّات الإسلاميّة عبر الإفراغ والملء ثمّ الانخراط في التّفاعل بكلّ أعماله (صراع فكري ـ كفاح سياسي ـ كشف المخطّطات ـ تبنّي المصالح…) إلى أن أخذ الرّسول الأكرم يتّصل بالقبائل لطلب النّصرة منها سواء أثناء موسم الحجّ أو في مواطنها الأصليّة خارج مكّة، ونحن مُطالبون شرعًا اليوم بالنسج على منواله والقيام بتلك الأعمال بصفتها أحكامًا شرعيّة واجبة الإتّباع (وما آتاكم الرّسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا)… فكما عمد الرّسول الكريم إلى نقض الأسس والمفاهيم الفاسدة التي قام عليها المجتمع القرشي ننقض اليوم المفاهيم الغربية المسمومة السّائدة في مجتمعنا… وكما كان يبث الأفكار الجماعيّة الصّحيحة ويحاول تجميع النّاس حولها نبث اليوم المفاهيم الإسلاميّة الصّافية النقيّة ونحاول إيجاد رأي عامّ حولها… وكما واجه رموز الفساد في قريش (أبا جهل ـ أبا لهب ـ الوليد بن المغيرة…) نواجه اليوم حكّام الأمّة الفجرة وعملاء الغرب وصنائعه من السّاسة والمفكّرين… وكما طلب الرّسول الأكرم النّصرة من أهل القوّة والمنعة رؤساء القبائل العربيّة نطلب اليوم النّصرة من العسكريّين والأمنيّين وشيوخ العشائر وقادة الجماعات المسلّحة…وكما كان الرّسول يواجه عبادة الأصنام وينقضها ويهاجم تطفيف الكيل ووأد البنات وغيرها من الأفكار الجاهليّة التي قام عليها المجتمع المكّي ننقض اليوم الثقافة الأجنبيّة ومفاهيمها المنحطّة (الوطنيّة ـ القوميّة ـ الاشتراكيّة ـ الديمقراطيّة ـ الواقعية ـ المصلحيّة…)…فطريقة تغيير المجتمع اليوم واستئناف الحياة الإسلاميّة بإقامة الخلافة هي نفسها التي رسمها لنا الرّسول صلّى الله عليه وسلّم: إيجاد رأي عامّ حول أفكار الإسلام الصّحيحة بالطريق السياسي ثمّ التغيير على الحكّام والعمل على قلب النظام المتحكّم في المجتمع…

القواعد الكليّة

آخر عمليّة مسح لما يمكن أن يتركه الكتاب والسنّة من فجوات في الأحكام والأدلّة المتعلّقة بالأعمال السياسيّة توكل إلى القواعد الشرعيّة سواء العامّة أو الكليّة: فكما يكون الاستدلال بالأحكام الشرعيّة المستنبطة من الكتاب والسنّة يكون أيضًا بالقواعد الشرعيّة، ولا يقال هنا إنهّا مجرّد قواعد وضعها الفقهاء ولا تقوم مقام الحكم الشرعي، لأنّ القواعد الكليّة هي أحكام شرعيّة استُنبِطت من الأدلّة كأي حكم من الأحكام: فقاعدة (الوسيلة إلى الحرام محرّمة) مثلاً استُنبطت من قوله تعالى (ولا تسُبّوا الذين يدعون من دون الله فيسُبّوا الله عَدْوًا بغير علم)… فالقاعدة الكليّة تجعل الحكم بمثابة العلّة التي تدور مع المعلول وجودًا وعَدَمًا فتملأ بذلك الفراغات وتزوّد سائر الأعمال السياسيّة بالأحكام والأدلّة وتُدرجها في دائرة الحلال والحرام… أبرز مثال على مفعول هذه القواعد هو قاعدة (ما لا يتمّ الواجب إلاّ به فهو واجب) فهي تجعل من خطاب الشّارع شاملاً الواجب وأيضًا ما لا يمكن القيام بهذا الواجب إلاّ به: فوجوب الشيء يوجب وجوب ما لا يتمّ إلاّ به، أي أنّ التكليف بالشيء يقتضي التكليف بما لا يتمّ إلاّ به.. من ذلك مثلاً أنّ إقامة خليفة واجب والقيام بهذا الواجب لا يتأتّى على الوجه الصحيح بالعمل الفردي لأنّ الفرد عاجز عن القيام به، فكان لا بدّ من تكتّل جماعة من المسلمين قادرة على الاضطلاع بالواجب، فصار واجبًا على المسلمين أن يقيموا ذلك التكتّل وإلاّ أثموا لقعودهم عمّا لا بدّ منه لأداء الواجب…ومن ذلك أيضًا أنّ حمل الدّعوة واجب والقيام به لا يتأتّى على الوجه الصحيح إلاّ بفهم واقع المنطقة المستهدفة فصار واجبًا على حملة الدّعوة أن يفهموا واقع المجتمع ومقوّماته وواقع الأمّة ومكوّناتها وواقع الحكّام وارتباطاتهم وعلاقتهم بالأمّة وواقع السياسة المحليّة والدوليّة وواقع التكتّلات الحزبيّة والحركات الجماعيّة ومدى قدرتها على التّأثير، كلّ ذلك من أجل الاضطلاع بواجب الكفاح السياسي…وقس على ذلك سائر القواعد من قبيل (الأصل في الأشياء الإباحة ما لم يرد دليل التحريم) أو (الوسيلة إلى الحرام محرّمة) أو (لا ضرر ولا ضرار) أو (استصحاب الحال)… فهي تزوّد سائر أعمال الممارسة السياسيّة بالأحكام والأدلّة وتدرجها في دائرة الحلال والحرام بامتياز…

أ, بسام فرحات

CATEGORIES
TAGS
Share This