الحلال والحرام: عقيدة سياسيّة ومقياس أعمال ووجهة نظر في الحياة
حدّث أبو ذرّ التونسي قال: كنّا في الجزء الأوّل من هذه المقالة توصّلنا ـ نظريًّا ـ إلى أنّ الشّريعة الإسلاميّة قد اختزلت الكون والإنسان والحياة في معادلة الحلال والحرام أي في أفعال التكليف الخمسة بحيث لا يمكن شرعًا أن يوجد فعل للعبد أو شيء من متعلّقات ذلك الفعل خارج تلك المعادلة بما في ذلك الممارسة السياسية في أدقّ تفاصيلها وأبسط جزئيّاتها… واستنتجنا تبعًا لذلك أنّ العقيدة الإسلاميّة ووجهة نظرها في الحياة (الحلال والحرام) هي أساس الفكر السياسي لدى المسلمين: فهي التي تنحت ملامح شخصيّة السياسي المسلم وتؤسّس الوعي السياسي لديه وتحدّد له الزّاوية الخاصّة التي ينظر من خلالها إلى العالم ويستند إليها في إدراكه وحسّه وفهمه للوقائع والأحداث وتعامله معها وحكمه عليها… أمّا في الجزء الثاني من هذه المقالة فسنضيّق الخناق أكثر حول موضوع بحثنا ونحاول شيئًا فشيئًا أن ننخرط في التطبيق وأن ننزّل استنتاجاتنا على واقع التفكير السياسي في علاقته بالواقعية والمبدئيّة وعلى واقع الممارسة السياسيّة الإسلاميّة في علاقتها بالذّاتية والموضوعيّة…فما مدى ارتباط السياسة في الإسلام بالواقع وبأحكام الشّرع..؟؟ وما مدى مراوحة السياسي المسلم بين العقل والنّقل..؟؟ أي في نهاية الأمر ما مدى استيعاب معادلة الحلال والحرام للتفكير السياسي في الإسلام وما مدى انضباط السياسي المسلم بتلك المعادلة والتزامه بها أثناء تلبُّسه بالممارسة السياسية..؟؟
في السّياسة
ممّا لا شكّ فيه أنّ السّياسة في أدنى مستوياتها هي رعاية الشؤون بالمبدأ، فساس النّاس يسوسهم أي رعى شؤونهم بتنظيم علاقاتهم ودفع التظالم وفصل التّخاصم فيما بينهم وقضاء سائر حوائجهم الحياتيّة بما يقتضيه كلّ ذلك من إقامة سلطان وحكم… وكما تمارس السّياسة في ظلّ الدّولة من طرف الحكّام والأحزاب فإنّها تمارس أيضًا في غياب الدّولة من طرف الأفراد أو التكتّلات والأحزاب القائمة على أساس العقيدة الإسلاميّة التي تسعى لاستئناف الحياة الإسلاميّة…هذا النّوع الثّاني من الممارسة السياسيّة هو محلّ شاهدنا ومناط بحثنا، وهو ما اصطُلح عليه بحمل الدّعوة بما يتطلّبه من أعمال من قبيل التثقيف والصّراع الفكري والكفاح السياسي وكشف مخطّطات الأعداء وبيان خيانات الحكّام وتبنّي مصالح الأمّة وطلب النّصرة من أهل الشوكة وما إلى ذلك من النشاطات التي يُراد منها إيجاد رأي عامّ منبثق عن وعي عامّ حول أفكار الإسلام ومشروع حزب التحرير حتى يغلي قدر الأمّة وينفجر في وجه الاستعمار وأذنابه…وخلاصة القول أنّ الممارسة السياسيّة ـ سواء أكانت في ظلّ الدّولة أو في غيابها ـ لا تعدو كونها أقوالاً وأفعالاً ومتعلّقاتها من الأشياء (إجراءات ـ أوامر ـ نواهٍ ـ قرارات ـ أفكار ـ أحكام ـ خطط ـ وسائل ـ أساليب…) وهي بالتّالي منضبطة بالقاعدة الأصولية (الأصل في الأفعال التقيّد بالحكم الشرعي والأصل في الأشياء الإباحة ما لم يرد دليل التحريم) ونحن مطالبون بأن نتقيّد فيها بالأحكام الشرعيّة لأنّها داخلة تحت عموم قوله تعالى (وما آتاكم الرّسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) وقوله صلّى الله عليه وسلّم (كلّ عمل ليس عليه أمرنا فهو ردّ)… وهي أيضًا مشمولة بوجهة النّظر في الحياة وتقاس بالحلال والحرام ويُتعبّد بها أي يُرْجى من ورائها نوال رضوان الله تعالى… وسواء أتناولناها من زاوية فقهيّة بحتة أم من زاوية سياسيّة بحتة فهي تبقى أحكامًا شرعيّة مستنبطة من الدّليل الشرعي أي ممّا جاء به الوحي: فرسم الخطط ووضع الأساليب وفهم واقع الحكّام وواقع التكتّلات وارتباطاتهم بالكافر المستعمر ومحاولة اختراقهم وفضح عمالتهم وتبعيّتهم والاتّصال بالنّاس ونقاشهم ومقارعة الحجّة بالحجّة… كلّها أفعال مسيّرة بالحكم الشرعي أي بالحلال والحرام معنيّة بخطاب الشّارع المتعلّق بأفعال العباد إمّا بالفعل (واجب ـ مندوب) أو بالترك (حرام ـ مكروه) أو بالتخيير بين الفعل والترك (مباح)…بمعنى أنّ لها أحكامًا شرعيّة متعلّقة بها تمامًا كأحكام الطّهارة والصّلاة والزّكاة والصّوم والنكاح والطّلاق والحج والحيض والنفاس… وليست هي من قبيل (المتحرّك والمتحوّل والعفو ومناطق الفراغ) التي تُدار (بالتكمبين والتكتيك والفهلوة والكمباس) الذي لا يخضع للحلال والحرام… فسواء أمارسنا في حقّها الإفتاء الفقهي الجاف أو رعينا بها الشؤون ونزّلناها على أحداث السياسة ووقائعها الجارية فنحن في دائرة الحلال والحرام وعينا بذلك أم لم نعِ، قصدناه أم لم نقصدهُ…
بين المبدئيّة والواقعيّة
لئن كان التفكير في المطلق هو (حكم على واقع) فإنّ التفكير السياسي يتميّز بأنّ واقعه يتعلّق برعاية شؤون الناس وأنّ حكمه عليه لا بدّ أن يتمّ حسب مبدأ ووجهة نظر في الحياة…