مناعة القطيع لمواجهة كورونا… جريمة أخلاقية انبثقت من صلب الرأسمالية

مناعة القطيع لمواجهة كورونا… جريمة أخلاقية انبثقت من صلب الرأسمالية

في ظل تفشي فايروس كورونا “كوفيد19” وتجاوز عدد الإصابات المئة ألف وإعلان حالة الطوارئ في العديد من الدول حول العالم وخاصة تلك التي ينتشر فيها الفايروس وما يرافق حالة الطوارئ من قرارات تتمحور حول منع انتشار الفايروس ومحاولة حصره باتخاذ إجراءات الحجر الصحي ومنع السفر وإغلاق الموانئ والمطارات والحد من المواصلات والتجمعات البشرية وغيرها من الإجراءات، في ظل كل ذلك ظهرت بريطانيا لتتبنى سياسة تخالف كل ما سبق وهي سياسة مناعة القطيع فما هي هذه السياسة؟؟ وما الدافع وراء إتباعها؟؟ وهل تصلح في مواجهة فايروس كورونا؟؟.

ما هي سياسة مناعة القطيع؟؟

تقوم سياسة مناعة القطيع على تحصين الناس وإكسابهم مناعة ضد مرض معين وهذا من خلال طريقتين: –

– تطعيم جزء كبير من السكان ضد مرض ما وهو ما يعرف باللقاح، حيث يكون اللقاح مكوناً من فيروسات ميتة أو ضعيفة لكنها كافية لتكوين ذاكرة لدى جهاز المناعة عند الإنسان ضد المرض من دون إصابة الجسم بالمرض وبالتالي إكساب الجسم مناعة ضد المرض.

– في حالة عدم توفر اللقاح يتم ترك المرض ينتشر بين الناس دون محاولة حصره أو منع انتشاره حتى يصيب المرض نسبة معينة من السكان “ثلثي السكان” ومن ثم يقوم جهاز المناعة عند من أصيبوا بتكوين أجسام مضادة ضد المرض وإنشاء ذاكرة مناعية بعد الشفاء وعندها يتوقف المرض عن الانتشار حتى لو لم يكن جميع السكان قد طوروا ذاكرة مناعية له،وهذه هي الطريقة التي تريد بريطانيا استخدامها في مواجهة فايروس كورونا.

– ملاحظة:  إتباع هذه الطريقة في بريطانيا يتطلب أن تصاب نسبة كبيرة من السكان بين 60 و70% بالمرض ثم تتعافي، وهذا يعني السماح بإصابة أكثر من 47 مليون شخص ومع الإحصاءات الحالية التي تقول إن معدل الوفاة بفايروس كورونا هي 2.3% وأن نسبة من يتطور لديهم المرض إلى مرحلة خطيرة هي 19% فهذا يعني أن الوصول إلى مناعة القطيع في بريطانيا يتطلب موت أكثر من مليون شخص وثمانية ملايين إصابة أخرى تتطلب خضوع المريض لرعاية مكثفة لأن وضعه الصحي سيكون خطيراً وحرجاً. (الجزيرة نت15-3-2020)

ونحن هنا بصدد الحديث عن النوع الثاني من مناعة القطيع (ترك المرض ينتشر) الذي تتبعه بريطانيا حتى اللحظة في مواجهة فايروس كورونا “كوفيد-19″، حيث إلى الان لم تتخذ بريطانيا الكثير من الإجراءات الوقائية التي اتخذت في الكثير من دول العالم لمنع تفشي الفايروس رغم تسجيلها 1140 إصابة و21 حالة وفاة حتى مساء الأحد 15 مارس/آذار 2020، وقبل الانتقال إلى الحديث عن الدافع لإتباع هذه السياسة نستعرض التالي: –

هنالك أراء علمية وطبية مختلفة لمدى نجاعة أو تأييد النوع الثاني من مناعة القطيع، وهل هي فعّالة في حالة كورونا أم لا؟ فالبعض يرى بأنها تصب في صالح البشرية لأنها برأيهم سوف تثمر في النهاية بالتغلب على المرض مستقبلاً وتمنع تحوّل هذا التفشّي إلى وباء سنوي في العالم، ومن أصحاب هذا الرأي باتريك فالانس كبير المستشارين العلميين في بريطانيا، حيث قال فالانس وفق صحيفة تيلغراف “إن فكرة مناعة القطيع -Herd Immunity- ستساعد العالم في مواجهة خطر فيروس كورونا “كوفيد-19″وأنّ التضييق على انتشار الفايروس من خلال الحجر الصحي الذي تقوم به معظم دول العالم قد يتسبب بعودة المرض من جديد مستقبلاً”ً(عربي بوست 16-3-2020)، وهذا يعتبر ترجمة لخطاب رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسن الموجه للشعب البريطاني حيث قال “إنه يتعين على العائلات الاستعداد لفقد أحبائها لأن فيروس كورونا سيواصل الانتشار في البلاد على مدار الأشهر المقبلة، حاصداً المزيد من الأرواح”، وأضاف “سأكون صريحا معكم، ومع كل الشعب البريطاني عائلات كثيرة، كثيرة جداً، ستفقد أحباءها قبل أن يحين وقتهم”.

والبعض يرفضها ويرى أنها مقامرة بحياة الشعوب والناس، وفي ذلك تقول المتحدثة باسم منظمة الصحة العالمية مارغريت هاريس “نحن لا نمتلك المعلومات العلمية الكافية عن هذا الفايروس إذ لم يقض وقتاً كافياً وسط السكان حتى نتمكّن من تحديد ما يفعله من الناحية المناعية، إذ يعمل كل فايروس بطريقة مُختلفة داخل الجسم ويُحفّز ملفاً مناعياً مُختلفاً، ويُمكننا الحديث عن النظريات بالطبع ولكنّنا نُواجه في الوقت الحالي وضعاً يجب أن ننظر خلاله إلى العمل”.(عربي بوست 16-3-2020)

ويصف أنثوني كاستيلو أستاذ صحة الطفل الدولية هذا التكتيك بالخاطئ والخطير حيث يقول “إن فكرة تحوُّل الدول من الاحتواء إلى تخفيف حدة الانتشار هي فكرةٌ خاطئة وخطيرة”، وتساءل كاستيلو “حول ما إذا كان فايروس كورونا سيُؤدي إلى مناعة قطيع أم هل يُشبه الإنفلونزا التي تظهر سلالاتٌ جديدة منها سنوياً وتحتاج تكرار اللقاح؟ وقال لا يزال أمامنا الكثير لنتعلّمه حول الاستجابات المناعية لفايروس كورونا”، وأضاف “هذه ليس استراتيجية هذا استسلام”، ومن جهته يرى جيريمي روسمان المُحاضر في علم الفايروسات بجامعة كينت “أنه في حال إبطاء انتشار الفايروس مع الاعتماد على مناعة القطيع فقط لحماية الأشخاص الأكثر عرضةً للخطر فسيكون علينا انتظار إصابة 47 مليون شخص بالعدوى -في بريطانيا-“.(عربي بوست 16-3-2020)

الدافع لإتباع هذه السياسة:

بغض النظر عن الخلاف الطبي بخصوص مناعة القطيع واختلاف أيهما يصب في صالح البشرية طبياً، فإن بريطانيا تبنت هذه السياسة لسبب واحد وهي أنها تنسجم مع المبدأ الرأسمالي الذي يقدس المنفعة والمادة، وإن حاولت تغليف ذلك برأي طبي ومسوغ حماية البشرية مستقبلاً.

وذلك أن بريطانيا ترى بأن سياسة مناعة القطيع سوف تؤدي إلى خسائر بشرية، ولكنها تكاد تكون محصورة في فئة عمرية تكرهها الدول الرأسمالية وتعتبرها عبئا عليها، وهي فئة كبار السن ومن يعانون من أمراض مزمنة ومعظمهم متقاعدون لا تستفيد الدولة منهم -عوائد الضريبة- وهذا بنظرها أفضل بكثير من اتخاذ إجراءات يترتب عليها خسائر اقتصادية بالمليارات، وهذا ليس بجديد على الإنجليز وهم الذين قاتلوا بجنود مستعمراتهم السابقة في إفريقيا وآسيا لاحتلال العالم وكذلك فعلوا حتى مع حلفائهم، فهم أصحاب مقولة سنقاتل حتى أخر جندي فرنسي، في الحرب العالمية الثانية، والان لسان حالهم سنواجه كورونا حتى أخر مسن وعاجز ومريض في بريطانيا وسنواجه الفايروس بنشر الفايروس تطبيقا لمقولتهم “داوني بالتي كانت هي الداء”!!

هل تنجح هذه السياسة في مواجهة كورونا؟؟

إن الناظر إلى هذه السياسة التي اتبعتها بريطانيا يرى بأنها سياسة لا تمت للإنسانية بصلة وتشبه قانون الغاب -يموت الضعيف ليعيش القوي- وأن مجرد طرحها يكشف عن بشاعة وتوحش النظام الرأسمالي، بينما الأصل أن تكون النظرة إلى البشرية نظرة رعاية شؤون وهي منع تفشي المرض أو الوباء والعمل على محاصرته قدر الإمكان مع العمل على تطوير علاج ولقاح يساعد البشرية على تخطيه وإن فشل ذلك وانتشر المرض وخرج عن السيطرة فإن النوع الثاني من مناعة القطيع يحصل بشكل تلقائي بفضل جهاز المناعة الذي خلقه الله في جسم الإنسان، أما تَعَمُّد ترك المرض والوباء ينتشر فهذا هو الإجرام بعينه ولذلك كانت تلك السياسة المتوحشة سياسة ناجحة في التخلص من فئة معينة من البشر وليس في مواجهة المرض، وسياسة لا تمت للإنسانية بصلة وحتى من تحدث بها من الأطباء هو قد تأثر بالقيم والمفاهيم الرأسمالية وأصبح ينظر من منظورها.

إن البشرية في ظل النظام الرأسمالي بات يُنظر إليها من باب الربح والخسارة المادية والمالية وليس من باب رعاية الشؤون، وحتى الدول التي اتخذت أقصى الإجراءات في مواجهة كورونا فهي إما أنها ترى بأن ذلك يصب في مصلحة الدولة ومنع انهيارها وسقوط نظامها الرأسمالي وإما خوفا من ضغط الرأي العام وغضبه في حال لم تتخذ تلك الإجراءات وأرادت مثلاً تبني سياسة بريطانيا التي بدأت أيضاً تحت ضغط الرأي العام والقطاع الصحي، ومن ذلك رسالة مفتوحة وجهتها مجموعة من 229 عالماً من جامعات المملكة المتحدة ينتقدون فيها توجهات الحكومة وتصريحات كبير المستشارين العلميين فالانس حول مناعة القطيع ويطالبون باتخاذ تدابير تمنع انتشار المرض، ومما جاء في الرسالة “إن تدابير التباعد الاجتماعي مثل منع التجمعات والحجر الصحي وتعطيل المدارس والجامعات والعمل من المنزل ستبطئ بشكل كبير معدل انتشار المرض في المملكة المتحدة وستنقذ آلاف الأرواح “(الجزيرة نت 15-3-2020)، وقد بدأت الحكومة تحت هذا الضغط باتخاذ إجراءات وإطلاق تصريحات محاولة من خلالها ممارسة الخداع والالتفاف على الشعب فتدّعي أنها سوف تستمر في سياستها -مناعة القطيع- لأنها تصب في خدمة البشرية ولكن مع توفير العزل لكبار السن والمصابين بأمراض مزمنة كأن من يشعل النار بالهشيم يستطيع حماية جزء بداخله ومختلط به..

أي أن الدافع في كل الأحوال ليس الطب وحماية الناس ورعايتهم وإنما النظرة النفعية عند الدول، وهذا طبيعي لأن المبدأ الرأسمالي بطبيعته وجد لخدمة أصحاب رؤوس المال ودولهم ومصالحهم وتسخير عامة الناس لخدمتهم وليس لرعاية شؤونهم والحفاظ على حياتهم، فإن كانت مصلحة الرأسماليين تتطلب الحفاظ على حياة الناس فعلوا وإن لم يكن كذلك تركوهم للموت كما كانوا يفعلون مع العبيد حيث كانوا يحافظون على العبد طالما أنه قوي فإن هرم أو ضعف أو مرض يقتلونه أو يتركونه يموت جوعاً.

أما مبدأ الإسلام فهو يقوم على رعاية شؤون الناس وحمايتهم والدفاع عنهم وهو لا يقيم وزنا للخسائر الاقتصادية عندما يتطلب ذلك، بل هو يستخدم المال لتلك الرعاية وليس لتكديسها في يد فئة قليلة وكذلك فإن الإسلام لا ينظر لكبار السن والمرضى على أنهم عبء وحمل على الدولة ولا بأس في التخلص منهم إن لاحت فرصة لذلك بل ينظر إليهم بذات النظرة التي نظر بها إليهم وهم شباب وأصحاب قوة، وهذا ما فعله عمر بن الخطاب خليفة المسلمين حينما رأى عجوزاً يهودياً يتسول فقال له مالك يا شيخ؟ فقال الرجل: أنا يهودي وأتسول لأدفع الجزية، فقال عمر: والله ما انصفناك نأخذ منك شاباً ثم نضيعك شيخاً والله لأعطينك من مال المسلمين، وأعطاه عمر ـ رضي الله عنه- من بيت مال المسلمين.(ابن القيم في أحكام أهل الذمة)

والبشرية اليوم في ظل غياب دولة الخلافة دولة الإسلام فإنها باتت تفتقر إلى هذا النوع من الرعاية، وهي عما قريب إن شاء الله سوف ترى عدل الإسلام ورعايته في ظل دولته التي ستملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد أن ملئت ظلماً وجوراً.

د إبراهيم التميمي

عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في الأرض المباركة فلسطين

CATEGORIES
TAGS
Share This