ماذا يجري في الجنوب: عسكرة الثروة أم عسكرة الثورة؟

ماذا يجري في الجنوب: عسكرة الثروة أم عسكرة الثورة؟

تتواصل منذ مدة احتجاجات أهالي الجنوب التونسي (تطاوين ورمادة) في مناطق عرفت باحتوائها على كميات من الذهب الأسود فضلا عن الغاز الطبيعي ضمن ما بات يعرف بحقل غدامس الذي لم تمنعه الحدود الاستعمارية من الامتداد إلى ليبيا والجزائر، لتتجدد دعوات الاعتصام والاحتجاج على إثر إطلاق أكبر مشروع طاقي في البلاد وهو حقل “نوارة” في قلب صحراء تطاوين، ليكون شاهدا على تواطؤ الحكومات ووصمة عار على جبين من يحرس نقل الغاز والنفط على امتداد 370 كيلومتر لحساب الشركات الأجنبية، دون أن يكون لأهل البلاد من ذلك نصيب، بل تفاخر الحكومة بأنها تفرض “أداءات” شكلية على نقل النفط إلى ميناء الصخيرة البترولي.

تتواصل الاحتجاجات في ظل صمت حكومي رهيب وانشغال عن حلّ أزمة انطلقت تداعياتها منذ ثلاث سنوات، وعجزت فيها الحكومة الحالية عن الالتزام بتعهدات الحكومة السابقة، متذرعة بانشغالها بمواجهة تداعيات أزمة الكورونا. بل تمادت الحكومة في غيّها لتجيب على هذه التحركات بلغة قنابل الغاز المسيل للدموع، حيث سارت على خطى سابقاتها في مواجهة تحركات أبناء الجهة بالحلول الأمنية القمعية، في وقت انشغل فيه الرئيس بزيارة إلى فرنسا، ما جعل أهالي مدنين يتحركون لفك الحصار عن المعتصمين وتضامنا مع ما شهدته ولاية تطاوين من اعتداء ممنهج على أبنائها.

أزمة، لا يبدو أنها ستتوقف عند غلق مضخة الكامور المرتبطة مباشرة بحقل البرمة، والذي ظل يعدّ لفترة من بين أكبر الحقول إنتاجا للنفط في الجنوب. وقد وقعت حادثة غلق المضخة، بعد يوم من استقالة رئيس الحكومة “إلياس الفخفاخ” وبحضور الإعلام المحلي والجيش الذي لم يمنع عملية الغلق و”تحلى بـقدر عال من المسؤوليّة والحرفيّة وضبط النفس للحيلولة دون إزهاق الأرواح والسقوط في منزلقات خطيرة”، بحسب بيان وزارة الدفاع، على عكس ما حدث في رمادة منذ أيام قليلة، حين تم قتل أصيل المنطقة “فيصل عبد الحق”رحمه الله على إثر دخوله المنطقة العسكرية العازلة وفتح تحقيق في الغرض، قبل أن ينتقل المتفقّد العام للقوات المسلّحةأمير اللواء عبد المنعم بلعاتي ليستمع بنفسه إلى ممثلين عن الأهالي المحتجين، ويعدهم بحلحلة الملف والعمل على تنفيذ بنود الاتفاق في أقرب الآجال على أن يحذروا كل الحذر من الدخول إلى المناطق العازلة…

والسؤال المطروح هنا، لمصلحة من تتم عسكرة مناطق الثروات ويُحرم أبناء الجهة من توزيع عادل لها؟

سياسة المناطق الخضراء والخطوط الحمراء

يبدو أن نصب الخيمات وتنفيذ الوفقات والمسيرات وحتى المواجهات الأمنية صار مشهدا مألوفا ومعتادا في تطاوين، فمنذ ثلاث سنوات، والحكومة تماطل أبناء الجهة دون تحقيق أيا من مطالبها، بل نجدها تداهن وتساير الحراك في الهامش المسموح به وتطلق الوعود الكاذبة لامتصاص الغضب، وتدّعي الحكمة والعقلانية وضبط النفس، ولكنّها سرعان ما تتراجع في ذلك كلّه إذا اقترب المحتجون من الخطوط الحمراء، ولا يمكننا لنا أن ننسى حادثة وفاة الشاب محمد أنور السكرافي رحمه الله بعد دهسه بسيارة أمنية، قبل أن ينتهي التحقيق بالقول أنه قتل على وجه الخطأ.

أما عن نتائج هذا الحراك، فقد نجحت سياسة المماطلة في إطلاق وعود بتوظيف 1500 شخص في “شركة البيئة والغراسات” (حكومية)، وألف آخرين بدءا من جانفي 2018، و500 مطلع العام 2019. كما قضى بتخصيص مبلغ 80 مليون دينار (حوالي 29 مليون يورو) لصندوق التنمية والاستثمار في تطاوين سنويا.

هذا على مستوى الوعود، أما على أرض الواقع، فقد وقع استغلال الأحداث والمواجهات الأمنية السابقة في كل من جزيرة قرقنة بصفاقس ومنطقة الفوار بقبلي ومنطقة الكامور بتطاوين للإعلان رسميا من قبل وزارة الدفاع ووزارة الطاقة والمناجم والطاقات المتجددة عما سميّ بالمنشآت الحساسة والحيوية كمناطق عسكرية محجرة يقوم الجيش بحراستها ومنع الدخول إليها ولو بالسلاح، وذلك استنادا إلى الأمر الرئاسي عدد 90 لسنة 2017 المؤرخ في 3 جويلية 2017، والذي جاء في فصله الخامس ما نصه:

“يخول للتشكيلات العسكرية المكلفة بحماية المناطق العسكرية المحجرة وتأمينها اللجوء لاستعمال كل الوسائل المتاحة للقوة، لصد كل اعتداء أو هجوم يستهدف الأفراد أو المنشأة بما في ذلك مقاومة أعمال التخريب ومحاولة الدخول بالقوة”. وهذا النص القانوني الصادر بعد استشارة السبسي لمجلس أمنه القومي يفرض على قوات الجيش استعمال كل الوسائل المتاحة للقوة في حالة تعمد أحدهم الاعتداء على المنشآت ومحاولة غلق المضخة وتعطيل الإنتاج، وهو أمر لا نجده مثلا مع شركة فسفاط قفصة التي يتم تدميرها وتعطيل إنتاجها على الملأ وأمام أعين الجميع، ما يعني أن هناك جهة تدفع نحو تخريب وتدمير الشركات الحكومية، في الوقت الذي يتم فيه تأمين مصالح الشركات الأجنبية وخاصة منها البريطانية.

ولذلك لا يستبعد أن تستغل الأحداث الأخيرة في الكامور إلى عسكرة مناطق الثروات في الجنوب أيضا، لتأمين مصالح الإنجليز، على غرار المناطق التي تم إعلانها في وقت سابق، وهي كما يلي:

  • قبلي: مركز معالجة النفط بالصابرية، محطة إنتاج بدوار الغريب بالفوار.

  • قابس: محطة المعالجة النهائية لحقل نوارة بغنوش.

  • صفاقس: المنطقة الصناعية بالصخيرة، مركز الربط مع الشركة التونسية للكهرباء والغاز ببنسلهون، مركزي المعالجة حنبعل وصدربعل بنقطة أين تتم معالجة الغاز الذي ينتجه حقلي “ميسكار” و”صدربعل”، محطة معالجة الغاز بقرقنة، ومركز تجميع شركة TPS .

  • القصرين: محطة ضخ الغاز أولاد مرزوق بفريانة.

  • القيروان: محطة ضخ الغاز بالسبيخة.

لماذا الجنوب التونسي؟

أعلنت شركة “أنديبندنت ريسورس بي آل سي”البريطانية أواخر سنة 2015 عن اكتشافها لاحتياطات نفطية جديدة في تونس في حوض غدامس النفطي، في منطقة ” قصر حدادة ” بولاية تطاوين. وأوضحت الشركة على موقعها الرسمي أن هذه الاكتشافات تقدر بقرابة 77 مليون مكافئ برميل نفط أي بين 15 و175 مليون برميل.

وقالت الشركة أن هذه الاكتشافات هامة جدا على المستوى التجاري رغم انخفاض أسعار النفط في هذه الفترة. هذه الشركة يديرها مسؤول العلاقات الاستثمارية سابقا في شركة بريتش بتروليوم ويدعى “جراغ كولمان”.

من جهة أخرى، فقد أهدت حكومة يوسف الشاهد 4 حقول من الغاز الطبيعي إلى بريطانيا وتقاسمت معها الخامس، لتترك للحكومة اللاحقة مهمة حماية الناهبين…

فقد نشر موقع ليدرز، خريطة رسمية لوزارة الدفاع تظهر مدير الشركة البريطانيةSenirus Energy  وهو يضع يده على موقع إنتاج شركته، أما نسب تقاسم الإنتاج فهي موجودة على الموقع الرسمي لهذه الشركة، والتي جاءت لتحل مكان شركة Winstar Tunisia BV الكندية، وهذه النسب تتوزع كما يلي:

  • حقل Sabria:الضخم في قبلي والقريب ضمن رخصة “زعفران”، %45للشركة البريطانية إلى نوفمبر 2028.

  • حقلChouech Es Saida،%100 للشركة البريطانية إلى ديسمبر 2027.

  • حقل Ech Chouech:في تطاوين:%100للشركة البريطانية إلى جوان 2022

  • حقلSanrhar: %100للشركة البريطانية إلى ديسمبر 2021

  • حقلZinnia: %100 للشركة البريطانية إلى ديسمبر 2020.

وبحسب الرئيس المدير العام للشركة المدعو  Jeffrey Auld، فقد تحصلت الشركة على ائتمانات من البنك الأوروبي للإنشاء والتعمير BERD ووضعت مبلغا ماليا على ذمة الحكومة بعد أن طالبها رسميا بإخماد حراك تطاوين وإيجاد حل للاعتصامات المتكررة والمعطلة للإنتاج كي لا يتم الإخلال بتعهدات الشركة للبنك المذكور، ولذلك يبقى التساؤل مطروحا حول أسباب توجيه الأنظار وحصرها في الصمام الرئيسي للأنبوب الرابط بين حقل البرمة (الذي تستغله شركة Eni الإيطالية) ومحطة الضخ بالكامور والتابع للشركة التونسية الايطالية لاستغلال البترول “سيتاب”، ذلك الحقل الذي يذكرنا باغتيال مدير شركة ajip الإيطاليةإنريكو ماتي، في ستينات القرن الماضي، عند احتدام الصراع على الغاز والنفط في شمال إفريقيا، لتعود نفس هذه الشركة لاحقا إلى البرمة، بشروط جديدة وضعها الإنجليز في غفلة من الشعب.

هذا وقد نظمت شركة” Anglo tunisian Oil and Gaz Limited  بتاريخ 1 أكتوبر 2019 بتونس حفل استقبال تم خلاله الإعلان عن اقتناء أسهم الشركة البترولية “مادكو انارجي”وذلك بحضور وزير الصناعة والمؤسسات الصغرى والمتوسطة سليم الفرياني وبإشراف مباشر من سفيرة بريطانيا بتونس ” لويز دي سوزا” وقد حضر اللقاء أيضا كل من المدير التنفيذي للشركة ” James Berwick “ومهدي بن عبد الله الرئيس الفخري لغرفة التجارة التونسية البريطانية، ومدير شركة شال (بريتش غاز سابقا).

وتجدر الإشارة أن شركة””Anglo tunisian Oil and Gazقد اقتنت سندات محروقات شركة” مادكو” المتواجدة بالجنوب التونسي على غرار امتياز استغلال “بئر طرطر” ورخصتي البحث “جنوب رمادة”و”جناين الوسطى” في إطار عقد مقاسمة مع المؤسسة التونسية للأنشطة البترولية والتي تتمتع أيضا بحقوق والتزامات رخصة البحث برج الخضراء بالإضافة إلى امتيازي استغلال بخليج الحمامات ” كوسوموس” و”ياسمين”، ما يعني أن هذا الاستثمار بل الاستحمار هو “طويل الأمد” وفق الرؤية البريطانية.

هذا كله يقتضي عسكرة مناطق الثروات في الجنوب المنسي، عبر توظيف ورقة الجيش، وجعل أبنائه مجرد عسس وحرس لعمليات النهب المنظم للثروة.

إلى متى السكوت عن إهانة المؤسسة العسكرية في تونس؟

الأصل في الدول التي تحترم نفسها، أن يكون الجيش حاميا للبلاد والعباد من أعدائهم، لا حاميا للأعداء من أبناء البلد وحقوقهم الشرعية والمشروعة، ولذلك لم تخف أمريكا مثلا سياستها في العالم منذ البداية، حيث كان كان الرئيس جيمي كارتر أول من سك مصطلح “الدم مقابل النفط”، ليمرّ إلى فرض العنجهية الأمريكية بمنطق القوة.

أما الإنجليز، فخبثهم ودهاؤهم وتلوّنهم، يجعلهم يعتمدون أسلوب الاختراق الذي يقوم أساسا على الأعمال المخابراتية حتى لا تكاد تراهم في المشهد في الوقت الذي يتحكمون في كل تفاصيله، ويكفي أن نشير في هذا الصدد إلى خبر تعيين “جون سورز” مديرا غير تنفيذي لشركة “بريتش بتريوليوم”البريطانية، والذي كان يشغل رئيسا لجهاز استخبارات المملكة المتحدة في الفترة ما بين 2009 و2014، ليسلط تعيينه الضوء على تقاطع طويل الأمد بين العقلية الاستعمارية وأبعاد إنتاج النفط، ما يتطلب أجهزة مخابرات قوية لشركات النفط العابرة للقارات. فإلى متى الصمت عن توظيف الجيش في لعبة قذرة، بالتفاوض حينا وعسكرة مناطق الثروات أحيانا، في الوقت الذي يجب فيه شرعا أن تلعب الجيوش دورا حاسما في مستقبل الأمة الإسلامية ولصالح مشروعها الحضاري لا لشركات النهب الاستعمارية؟ قال تعالى: “وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر”.

وسام الأطرش

CATEGORIES
TAGS
Share This