لماذا خسر علماء الزّيتونة معركتهم مع تيّار التّغريب العلماني؟ (3)
الحمد لله والصّلاة والسّلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
حركة اللّجنة التّونسية الجزائرية:
ذكرنا في المقال السّابق أنّ بعض المشايخ (وهم: الشيخ إسماعيل الصفائحي والشيخ صالح الشّريف والشيخ محمد الخضر حسين) قد مكنّتهم الهجرة من القيام بأعمال مؤثّرة تخدم النازلة التونسية وتقضّ مضاجع الاستعمار الفرنسي. ولعلّ من أهمّ الأعمال التي قام بها هؤلاء العلماء مشاركتهم الفعلية في تأليب الرأي العام الإسلامي والعالمي ضدّ الاستعمار الفرنسي، وتنسيقهم مع الدولة العثمانية لبعث حركة جهاد وثورة ضد حكم فرنسا في شمال إفريقيا.
ففي سنة 1916م “قرّرت الحكومة العثمانية أن تؤسّس في الآستانة هيئة لغزو شمال إفريقيا بالاتفاق مع رجالهااللاجئين… وفي سنة 1917 -1918 تشكلّت في الآستانة هيئة كانت تعمل لمحاولة جديدة، هي جمع أسارى المغاربة في ألمانيا وتركيا، وتنظيمهم ضمن فرقة واحدة تزوّد بالسلاح والذخيرة، وترسل عن طريق الغواصات لطرابلس. وكان مقرّرا أن يرأسها علي باش حانبة بنفسه ليكون مندوبا عن الخليفة العثماني لتحرير مسلمي الشمال الإفريقي من الاستعمار المسيحي”(1). والثابت وفق جملة من المصادر، أنّ هذه الهيئة كانت تضمّ ضمن رجالاتها الشيخ محمد الخضر حسين والشيخ إسماعيل الصفائحي والشيخ صالح الشريف.
قال محمد مواعدة عن الشيخ محمد الخضر حسين: “قام ببعض المهمات السياسية بألمانيا منها الاتصال بأسرى الحرب المغاربة وتوجيههم للمشاركة في تنظيم ثورة مسلحة في شمال إفريقيا ضد الاستعمار الفرنسي، وكان في كل ذلك يتعاون مع بعض الوطنيين التونسيين الذين هاجروا إلى تركيا وألمانيا وخاصّة الزعيم علي باش حانبة الذي استقرّ بالآستانة وأخيه محمد باش حانبة والشيخ إسماعيل الصفايحي القاضي الحنفي السابق بتونس والشيخ صالح الشريف أحد علماء جامع الزيتونة”(2).
وقال علي الرضا الحسيني في ترجمة عمّه محمد الخضر حسين: “رحل إلى ألمانيا مرّتين للاتصال مع الأسرى من أبناء المغرب، وأقام فيها تسعة أشهر في عام 1917، ثمّ أقام فيها مدّة سبعة أشهر عام 1918م. ومن رفاقه هناك: الشيخ صالح الشريف، وإسماعيل الصفايحي… وأقام مع إخوانه المجاهدين في برلين (اللجنة التونسية الجزائرية) التي تهدف إلى تحرير بلاد المغرب والدفاع عن قضاياها ” (3).
ويبرز بيتر هاينه دور الشيخ صالح الشّريف قائلا: “نتيجة الاحتلال الفرنسي لتونس كان صالح الشريف التونسي واحدا من العلماء الكثيرين الذين هاجروا من وطنهم الواقع تحت وطأة الاحتلال. ففي عام 1900 هاجر أولا إلى استنبول ثمّ بعد ذلك إلى دمشق. وفي استنبول قابل وزير الحربية العثمانية الذي اصطحبه معه إلى ليبيا حيث كان الوزير أنور باشا يبذل جهده لتنظيم المقاومة ضد الغزو الإيطالي عام 1911. ويقال إنّ أول من أعلن الحرب المقدّسة في العصر هو صالح الشريف” (4).ثم قال: “فقد قام صالح الشريف بتكوين لجنة من المهاجرين من شمال إفريقيا، سمّاها “لجنة تحرير تونس والجزائر”، وقد أصبح رئيس هذه اللجنة”(5).
والخلاصة: فقد نشط هؤلاء العلماء بدعم من الدّولة العثمانية من أجل إحداث ثورة ضد الحكم الفرنسي في شمال إفريقيا، وكانت نشاطاتهم مؤثّرة وفاعلة؛ الأمر الذي أقلق فرنسا “فأصدرت أمرا عليا عن طريق باي تونس في 12 جويلية 1917م يقضي بحجز أملاك مجموعة من التونسيين منهم: محمد باش حانبة، إسماعيل الصفائحي، صالح الشريف”(6). وأمّافيما يتعلّق بالشيخ محمد الخضر حسين، فقد قال في شأنه ابن أخيه علي الرضا الحسيني: “وأصدرت سلطات الاحتلال في تونس حكما عليه بالإعدام غيابيا… كما أصدرت السلطات الفرنسية أمرا مؤرخا في 15 جوان 1917م بحجز أمواله في تونس وبيعها”(7).
تنبيه حول مسألة الهجرة:
ذكرنا فيما سبق حركة الهجرة وبيّنا دور بعض العلماء في نصرة القضية أو النازلة التونسية، ولكن علينا هنا أن ننبّه إلى مسألة وهي: أنّ العلماء الذين أبرزنا دورهم من قبل لم يهاجروا مباشرة بعد انتصاب الحماية وإنما هاجروا بعد استقرار فرنسا في تونس وتثبيت حكمها؛ فالشيخ إسماعيل الصفائحي هاجر بعد 24 سنة من الاستعمار، والشيخ صالح الشريف هاجر بعد 25 سنة، والشيخ محمد الخضر حسين هاجر بعد 31 سنة. وللعلم، فقد طرحت مسألة الهجرة كحكم شرعي بعد انتصاب الحماية مباشرة وفشل المقاومة المسلحة في صدّها؛ وقد تميّز الشيخ محمد بن عبد الله المرزوقي شهر الشرع (ت1895م) “بإصداره الفتوى التي كفّرت من يرفض الهجرة من التونسيين بعد فشلهم في المقاومة”(8). وقد استجاب كثير من الناس إلى هذه الفتوى؛ فكانت “الهجرة ظاهرة اجتماعية كبيرة لأنها شملت أعدادا غفيرة من سكان البوادي ونسبة تتراوح ما بين ربع وثلث السكان التونسيين”(9).
موقف علماء الزيتونة من بعض المسائل والأحداث:
قلنا فيما سبق، إنّ موقف علماء الزيتونة من انتصاب الحماية الفرنسية لم يكن موقفا قويا؛ إذ إنّ المتوقع منهم الدعوة إلى الجهاد ومقاومة المحتلّ بالسّلاح وعدم الرضوخ لمستعمر أتى ليفرض نظامه الكفري على بلد مسلم ونهب خيراته، ولكنّ أغلبهم سكت عن هذا الأمر واكتفى بالإنكار القلبي بل من العلماء من ثبّط عزائم المقاومة ودعا إلى الاستسلام وهو ما رأيناه عند الحديث عن موقف شيخ الإسلام (أكبر سلطة/رتبة دينية) أحمد/حميدة بلخوجة. وستناول هنا بعض المسائل والأحداث الهامّة التي شهدتها البلاد بعد انتصاب الحماية، والتي تعدّ من وجهة نظر تاريخية من مظاهر مقاومة الشعب التونسي لسياسة فرنسا الاستعمارية، مع بيان موقف العماء منها.
-
أحداث الجلّاز (الزلّاج):