إن النقطة المركزية في السياسة هي رعاية الناس لتحقيق أقصى ما يمكن تحقيقه من قيم الحكم التي من أجلها كان الحكم وبانعدامها ينعدم الحكم الرشيد، أويختلّ. ويسود الظّلم على قدر ما نفقد من تلك القيم.
غاية السياسة في الإسلام هي رعاية شؤون الناس الرعاية الكريمة. ولا يجوز للحكم أن يحيد قيد أنملة عن هذه الغاية الحكم.
فالنّاس في دولة الخلافة محاطون بالرعاية ضعيفهم قبل قويّهم، انظر إلى قول أبي بكر الصدّيق حين تولّى الخلافة: “الضعيف فيكم قويّ عندي حتّى آخذ له حقّه، والقويّ فيكم ضعيف عندي حتّى الحقّ منه”.
أمّا في الدّيمقراطيّة فالقويّ يأكل الضعيف، ولا اهتمام للسياسيين إلا بالأقوياء أصحاب المال والأعمال (وهم الفئة الأقلّ في كلّ مجتمع) ويبدأ هذا الاهتمام منذ سباق الوصول إلى كراسيّ الحكم، فمن يموّل الحملات الانتخابيّة؟ ومن يُغدق الأموال؟ ومن يشكّل السلطة التشريعيّة؟ ومن ينصّب الرئيس؟
لم يعد خافيا على أحد أنّ المال هو عصب السياسة في الممارسة الغربيّة العلمانيّة، وصاحب المال هو الفاعل السياسيّ الحقيقيّ هو المؤثّر في المشرّع ولصالحه تُسنّ القوانين أو تلغى، وهو المؤثّر في السلطة التنفيذيّة فتعطيه السّند بل تشاركه شراكة أساسها المال ليكون الحكم في النّظام الرأسمالي الدّيمقراطي شركة تجاريّة ربحيّة ليست السلطة التنفيذيّة إلا مجلس إدارتها.
هكذا سيطرت القيمة المادّية على الحكم وهيمنت على الشعوب، فما هي قيم الحكم الإسلامي التي يسعى لتحقيقها؟ وهل يسعى الحكم في الإسلام إلى تحقيق القيمة الماديّة؟
نقصد بالقيمة المادية في هذه السطور المال، الثروة، الربح المادي… :
فهل القيمة المادية هي غاية الحكم الإسلامي وأساسه بحيث يجعل الناس أرقاما ويكون السلطان والحكم كشركة تجاريّة غايتها الرّبح؟ وهل يجوز أن تكون الفئة الحاكمة (الأحزاب الحاكمة على وجه الخصوص) شركة تدير الشأن العامّ بغاية الربح؟ وهل تكون الدّولة في أزمة حين يكون إنفاقها على النّاس أكثر من دخلها؟؟؟
يكثر على ألسنة المسؤولين في تونس وهم يصفون الأزمة، أنّ شركة الخطوط الجوّيّة خاسرة، وأنّ شركة الكهرباء الحكوميّة خاسرة، وأنّ شركة المياه الحكوميّة خاسرة، وأنّ الدّولة تدفع كثيرا للموظّفين….. ومن أجل ذلك تراهم يتحدّثون أنّه للخروج من الأزمة لا بدّ من تعبئة موارد الدّولة بمعنى أن تصبح مداخيل الدّولة أكثر من نفقاتها. ولذلك لا حلول عندهم خارج نطاق التفكير الربحي التّجاري، فعلى النّاس أن يدفعوا ثمّ يدفعوا ثمّ يدفعوا ثمن الخدمات التي تقدّمها الدّولة، وفي نفس هذا الإطار جاء حديثهم عن الخوصصة وتدخّل القطاع الخاصّ الذي بدؤوا يمكّنونه من أهمّ صلاحيّات الدّولة (رعاية الصّحة والتعليم)، وحديثهم عن التفويت في القطاع العامّ لا ينتهي والتبرير عندهم أنّ الدّولة خاسرة (هكذا)، والخاسر لا يستطيع أن يواصل، وهكذا صار التّفكير داخل الوسط السياسي أن تتخلّى الدّولة عن مهامّها في الصّحة والتعليم والنّقل وغيرها من القطاعات لفائدة القطاع الخاصّ. والقطاع الخاصّ بطبيعته تجاريّ لا همّ له إلا الربح والربح الوفير.
فهل يجوز أن تُدار شؤون الشعوب بهاته العقليّة الربحيّة النفعيّة؟
نعم هكذا تُدار شؤون الشعوب تحت الحكم الديمقراطي الرأسمالي، وهكذا وقعت الشعوب كلّ شعوب العالم تحت هيمنة حيتان المال وأرباب الشركات العابرة للقارّات، حيث تحكّمت فئة لا تتجاوز ال5 في المائة في أكثر من 80 في المائة من ثروة العالم. ولم يشذّ الأمر في تونس التي أرادها العلمانيّون الديمقراطيّون “حداثيّة” فهم سائرون بها (بتوجيه من صندوق النقد العالمي) أن تسيطر فئة قليلة على غالبيّة الثروة، وتأخذ بيدها القطاعات الحيويّة وعلى رأسها الصحّة والتّعليم…
العالم يكتوي اليوم بهذا النّوع من التفكير. ويبحث عن نمط جديد وإطار فكريّ عقائديّ مختلف لا تكون فيه الدّولة رابحا أو خاسرا بل راعية شؤزن معتنية بالإنسان باعتباره محطّ العناية والرعاية.
وفيما يلي نعرض طريقة التفكير السياسيّة في الحكم في الإسلام.
إن الحكم الإسلامي لا تطفوا على سطح مجموع تطبيقاته في الحكم أي نوع من التجارة، أو التفكير الربحي، فدولة الخلافة ليست شركة ربحيّة وليس الخليفة فيها وسيطا تجاريّا، ولا أثر للنقود مقابل الخدمات والرعاية، فليست دولة الخلافة شركة خدمات تكون رعايته وخدمتها للرعية مضبوطة برسوم مالية حيث لا تتحرك الدولة بالرعاية إلا إذا قبضت ثمن خدمتها. ولا يكون الحكم الإسلامي المتمثل في الحاكم ومن ينوبه في التفيذ بائعا للثروة التي تحت تصرفه أو في ملكيته…. .
الرعاية بمقابل نقدي لا وجود له في الحكم الإسلامي. ولا في التفكير السياسي الإسلامي فالخدمات المقدمة من الحاكم هي خدمات بموجب وجوب خدمة الحاكم للمحكوم كخدمة الأم لرضيعها والحاكم في الحكم الإسلامي ما دام مرتبطا بعقد البيعة فليس له أجر ولا يطلب من الناس أجرا. وهذا الواجب أيضا كوجوب خدمة و رعاية من تجب نفقتهم بلا مقابل مادي
ومهما كان مفهوم الشركة في الإسلام أو في الثقافة الغربية أوالإشتراكية أو أي تعريف ممكن : فإن الحكم الإسلامي لا يدخل تلك التعاريف في مفهوم الرعاية الواجبة عليه لأنه نظام رعاية وجد من أجل الرعية ولا غاية ربحية مالية من وجوده ولا يجوز أن يتحول بحجة عدم قدرة الدولة على نفقاتها فتضرب رسوما تتحول شيئا فشيئا إلى حقوق للدولة على الناس وجب الوفاء بها كما نره ماثلا في أنظمة الحكم الوضعية.
وإبعادا لمفهوم الشركة ومفهوم الإجارة عن السلطان الإسلامي فإن الحاكم في النظام الإسلامي ليس أجيرا بحسب عقد البيعة الذي بينه وبين الأمة الإسلامية ولا عقد البيعة عقد شراكة بينه وبين أرباب المال بقصد الربح، وحسبك أن تعرف أنّ الحاكم في دولة الخلافة ليس موظّفا بأجرة إنّما هي بدل تفرّغ يُحَدّدُ للحاكم ليقتات منه مقدرا بما كان يتحصل عليه قبل تسلمه مقاليد الحكم. بما يكفيه ليتفرّغ لمهمّته في رعاية الشؤون. (وهذا مفصل في مضانّه) وهذا أمر في غاية الأهمّيّة لو تدبّرته، فالإسلام لم يجعل الحكم غنيمة إنّما هو مسؤوليّة وفقط مسؤوليّة لا ينتظر منها مقابلا مادّيا له أو لأولاده أو أقاربه وأصحابه.
ثم إنّ الحكم في الأصل (وكما حدّده الإسلام) رعاية وعناية لا جباية، فلا تتعلّل دولة الخلافة بقلّة الموارد فتفرض الرسوم والضرائب التي ما فتئت في ظلّ الرأسماليّة تتلون وتتنوع بذريعة أنّها مقتطعة لصالح الدولة.
إن الغوص في غور ألأحكام الخاصة بالمال في الدولة الإسلامية لا يستفاد منه مطلقا أن الحكم الإسلامي يقصد الربح بل هو خادم و راع، يأخذ فقط تكلفة الرعاية، من أملاك الدولة أو من الأملاك العامّة أمّا الأملاك الفرديّة فلا يجوز له المساس بها إذ حرّم الرسول صلّى الله عليه وسلّم أخذ مال مسلم دون طيب نفس منه.
وهذا هو محل الشاهد في مقالنا هذا: فلا يجوز فرض الضرائب الدّائميّة على النّاس كما هو حال الحكم اليوم في تونس وفي العالم حيث صارت جباية الأموال من كل طريق، ومن كلّ النّاس (دون مراعاة الفقر والغنى) وأسبغوا عليها الشرعية القانونية. وما هي إلا أكل لأموال الناس بالباطل، من ذلك مثلا العقوبات المالية على كلّ كبيرة وصغيرة من المخالفات الإدارية حتى تحول المخالفون إلى مصدر ثروة للدولة تطلق أعوانها يترصّدون النّاس ويتعقّبونهم بل يصطادونهم لإيقاع العقوبات الماليّة، في عمل أشبه بعمل قطّاع الطّرق.
أمّا في دولة الخلافة فليس للضرائب باب في الاقتصاد الإسلامي ولا هي معدودة في أصول موارد بيت المال أو فروعها. بل هي من حيث الأصل حرام وأكل لأموال الناس بالباطل.
نعم قد تشحّ موارد الخزينة العامّة (بيت المال)، فلا تتوقّف الرعاية، فمن أين تأتي الدّولة بالمال؟
إمّا أن تقترض من الأغنياء دون ربا، ثمّ تفي بالدّين وحت اليسر بلا نقصان إلا أن يتطوع الأغنياء فيبقونها في يد الدولة خدمة لأمتهم.
أو أن تفرض ضرائب وقتيّة وعلى الأغنياء فقط من أجل الرعاية (في الأمور الأساسيّة).
هذه كانت لمحة عن عقليّة الحكم التي يبنيها الإسلام، عقليّة رحمة للعالمين تضع الانسان في الموضع اللائق به فتهتمّ به وترعاه وتسدّ حاجاته الأساسيّة فردا كان أم جماعة، ودون مقابل ماديّ ولا ترى نفسها صاحبة فضل أو مزيّة، إنّما هو واجبها الذي أوجبه الشّارع الحكيم.
فشتان بين أنظمة وضعية الوضيعة جعلت الحكم غنيمة لا تبالي إن عاش ضعفاء النّاس كالأغنام أو ماتوا، وبين فكر بناه وحي نزّله ربّ العالمين.
قال تعالى:(مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَىٰ وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ ۚ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا ۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ [ سورة هود، 24 ]