الجريمة في تونس، أمر طارئ أم أزمة نظام؟
مقدمة:
شهدت تونس الفترة الأخيرة جرائم بشعة أثارت الرأي العام وأحدثت جدلا واسعا حول سبب تفاقم هذه الظاهرة وكيفية التصدي لها، فهناك من يرجع أسباب الجريمة للتراخي الأمني والتشريعي في التعامل مع هذه الظاهرة وقد طالب هذا الشق بتفعيل عقوبة الاعدام، في حين يرى شق اخر أن الأزمة أعمق من ذلك بكثير لأنها حسب رأيهم هي أزمة نظام وبالتالي فان معالجتها والتصدي لها لا يكون بمجرد تفعيل العقوبات الرادعة ولا بزيادة التشريعات الزجرية، وإنما بالبحث بعمق في أسباب هذه الظاهرة والمعالجات الفاعلة التي تقضي عليها.
وفي هذا الإطار نظمت جريدة التحرير منتدا حواريا تحت عنوان: الجريمة في تونس، أمر طارئ أم أزمة نظام؟ بحضور الضيوف:
-الأستاذ فتحي بن مصطفى الخميري، محامي لدى محكمة التعقيب وعضو حزب التحرير.
-الأستاذ عماد الدين حدوق، محامي لدى محكمة التعقيب وعضو حزب التحرير.
-الأستاذ خبيب كرباكة، باحث في القانون الخاص وعضو المكتب الاعلامي لحزب التحرير تونس.
-الدكتور الأسعد العجيلي، أستاذ جامعي ورئيس المكتب الإعلامي لحزب التحرير تونس.
تعريف الجريمة
وقد استهل هذا المنتدى الاستاذ فتحي الخميري بتعريف الجريمة بأنها حالة غير طبيعية مخالفة للسير الطبيعي للمجتمع تستهدف الاهداف العليا أو القيم العليا للمجتمع، فاستهداف هذه القيم بسلوك خارجي اي بفعل مادي هو الذي يسمى جريمة، كأن يقع استهداف النفس البشرية بالقتل أو أموال الناس بالسرقة، أو أعراضهم بالاغتصاب، أو انتهاك سيادة الدولة بالتمرد عليها واستهداف أمن الناس بقطع الطريق وغيرها من الأعمال الإجرامية، أما من ناحية التصدي لها فقد بين الاستاذ فتحي الخميري بإنه يعتمد بالأساس على المنظومة السائدة والمتحكمة وعادة ما يكون بالطرق الامنية قبل الجريمة للحيلولة دون وقوعها او بعد الجريمة لايقاف المجرمين وتقديمهم للمحاكمة، كما يقع التصدي لها من خلال القضاء بتشديد العقوبة على المجرمين.
سبب الجريمة
ثم عقب الاستاذ عماد الدين حدوق حول تعريف الجريمة بأنه يختلف من مبدأ إلى اخر، فالفكر الغربي عرف الجريمة من خلال العلوم الاجتماعية بأنها عبارة عن ظواهر تظهر بسبب الفقر والحرمان، أما في المبدأ الشيوعي فهي مظاهر سببها حالة التناقضات في المجتمع، ثم بين أن الجريمة في الفقه السياسي الاسلامي هي مخالفة الحكم الشرعي بارتكاب الحرام او الامتناع عن القيام بالواجب.
بعد ذلك تطرق الأستاذ عماد الدين حدوق إلى أسباب الجريمة في تونس بأنها ترجع بالأساس إلى المنظومة الغربية المتحكمة في المجتمع والتي تسخر الامكانات من أجل توفير مناخات تنتج الجريمة وتترعرع فيها.
الجريمة سببها تخلي الدولة عن دور الرعاية لصالح الرأسماليين
ثم بين الدكتور الأسعد العجيلي أن المشكلة الأساسية تكمن في الخطأ الجسيم الذي ارتكبه مفكرو الغرب الذين أرادوا انقاذ شعوبهم من دكتاتورية تحالف رجال الدين مع القياصرة والملوك فأوقعوهم في دكتاتورية تحالف جديد أشد وحشية وظلما وفتكا وهو تحالف رجال المال مع الطبقة السياسية الحاكمة، حيث تخلت الدولة عن دورها في رعاية شؤون الناس لصالح فئة قليلة في المجتمع وهي فئة الرأسماليين التي تكاد تكون هي الفئة الحاكمة في المجتمع والتي تستخدم المال السياسي القذر لشراء الذمم لتسخير اجهزة الدولة لخدمتها، فأصبحت الدولة في ظل هذه المنظومة الجديدة تسخر اجهزتها من أجل رعاية مصالح رجال المال وإعطائهم من الحقوق ما يمكنهم من نيل السعادة والملذات على حساب الاغلبية الساحقة في المجتمع.
وفي المقابل فإن هذه الغالبية الساحقة ترى أن الدولة قد تخلت عنهم وعن رعاية شؤونهم وأن التشريعات التي تتبناها تقلل وبشكل غير عادل من حقوقهم في بلوغ سعادتهم، وهذا يؤدي بقسم منهم إلى التفكير والقيام بأعمال مخالفة لهذه القوانين. على سبيل المثال فإن المناطق المحرومة في تونس التي تحتج في تطاوين وغيرها ترى بأن الدولة قد تخلت عنهم وعن حل مشاكلهم في التنمية وتوفير أسباب الحياة الكريمة لهم، ولكنها بالمقابل تسخر امكانياتها لخدمة الشركات الاجنبية والمتحالفين معها من رؤوس المال الفاسدين، وغالبا ما تقابل احتجاجاتهم باللامبالات وهو ما يسبب الحنق والنقمة على الدولة وربما تحرك البعض لنيل رغباتهم خارج القانون اذا لم تكن نوازع ذاتية تردعهم.
ومثل ذلك في أمريكا، فإن الناس يطالبون بحظر بيع الأسلحة، لكن هذا يقابل بصمت من قبل الحكومة وكبار مالكي وسائل الإعلام وشركات بيع الأسلحة التي تعمل على مضاعفة ثرواتها لأقصى حد على حساب أمن المجتمع.
القيم الغربية تهدم المجتمع في تونس
ثم تدخل الأستاذ خبيب كرباكة وأرجع الجريمة إلى القيم التي تقوم على أساس المنظومة الغربية التي تصور الحياة بأنها المنفعة وأن السعادة هي نيل أكبر نصيب من المتع الجسدية، فالركض وراء المتع والشهوات كغاية للحياة، والانطلاق من مسألة الحريات، والفردية، والنفعية، هي السبب وراء الجريمة
ثم بيّن أنّ عدم وضع القيم الغربية التي تنشرها الدولة عبر الاعلام والتعليم موضع محاسبة سيقود إلى ارتفاع في معدلات الجريمة، مما يؤدي إلى تشريعات إضافية ترمي بثقلها على النظام التشريعي، وستفضي إلى إحباط لقوات الشرطة، واكتظاظ للسجون وتقنين قوانين إضافية متعلقة بها، وستؤدي إلى تفاقم نقاط الضعف في المجتمع واستهلاك ضخم للمقدرات والموارد العامة.
تفعيل عقوبة الاعدام وزيادة التشريعات الزجرية
كما أظافة الأستاذ فتحي الخميري أنه مهما تم من تشريع قوانين جديدة ومهما صرف من وقت أو مال على عمليات الشرطة فلن يكون هذا هو المخرج، كما بين أن المسألة لا تكون بمجرد تفعيل حكومة الاعدام، لان المعالجة لا بد أن تكون شاملة ومتكاملة، فالمعادلة الصحيحة حسب رأيه هي في اتباع منهج الإسلام مصداقا لقوله تعالى: فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى.
مسؤولية الدولة في نشر الفساد والجريمة
وقد حمّل الأستاذ عماد الدين حدوق مسؤولية الدولة في نشر الرذيلة والفسق والتفسخ الأخلاقي من خلال الاعلام الموجه لضرب القيم الرفيعة في المجتمع قصد انشاء جيل غريب عن دينه وبيئته الاسلامية، كما بيّن جريمة الدولة في الكثير من المجالات بما فيها نشر الموت الزئام من خلال فتح الحدود لانتشار فيروس كورونا معتبرا ذلك عملية قتل ممنهجة اتبعتها الدولة وهو يرتقي إلى درجة الجريمة الموصوفة.
فلسفة العقوبات في الاسلام وفي الفكر الغربي
ثم عرّج الدكتور الأسعد العجيلي أن العقوبات الحالية موجودة فقط لتمنع المجرمين المدانين أنفسهم، لتحد من نيلهم تحقيق المتع والشهوات فقط، وهي رسالة سلبية للمجرمين ولغيرهم بأنه مهما ارتكبوا من جرائم فان العقوبة ليست على قدر الجريمة مما يساعد في انتشار الجريمة، وبين أن المشكلة القائمة تكمن في افتقار المشرعين الى مقياس ثابت وقطعي يحدد العقوبة اللازمة لكل جريمة باعتبار أن الانسان ناقص وهو عرضة للاختلاف والتفاوت والتناقض والتأثر بالبيئة التي يعيش فيها كما بين أن المعالجة لا تتم من خلال العقوبات فحسب بل لا بد من معالجة متكاملة تتناول جميع مناحي الحياة.
وبيّن أن المقياس الصحيح والثابت لتحديد العقوبة هو الذي يستند الى قوة غير محدودة وهو الله الذي خلق الانسان ويعلم ما يصلح به، قال تعالى: “ألا يعلم من خلق وهو اللظيف الخبير”، لذلك كانت العقوبات في الاسلام زواجر وجوابر، فهي تجبر الانسان عن عقوبة الآخرة وتزجر غيره عن ارتكاب الجرائم، قال تعالى: “ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب”، فإيقاع القصاص هو الذي أبقى الحياة عندما تنزجر المجموعة عن القيام بمثل ما قام به من وقع عليه القصاص.
كيف تصدى الاسلام للجريمة
وكانت كلمة الختام للاستاذ خبيب كرباكة الذي بين أن الإسلام كوِّن مجتمعا ترى الجريمة فيه حالة استثنائية لا أصلا، ذلك لأن غاية المسلم في الحياة إنما هي نوال رضوان الله تعالى، فلا تتحقق سعادة المسلم إلا إذا سعى لنيل رضوان الله.
من هنا كان المسلم شديد الحرص على مراقبة سلوكه في الشئون كلها، كبيرة كانت أم صغيرة، واضعا بعين الاعتبار أنه سيسأل عنها في الدار الآخرة أمام الله تعالى.
ونتيجة لذلك نجد أن أعماله هذه إما أن توصله للجنة أو للنار، وهذا يشكل لديه دافعا لإحسان عمله، فيسير أعماله وفقا لأوامر الله وينتهي عن نواهيه، هذا الدافع الإيماني ينمي وبقوة لدى المسلم شعور التقوى ومراقبة الله عز وجل والخوف منه في كل شأن يتعلق بحياته.
وهذا الأمر (تقوى الله) يتحول إلى أداة فعالة قوية تمنع من التوجه نحو الجريمة، لأن الشخص يستحضر دائما عواقب تصرفاته، فالله تعالى يذكرنا في كتابه العزيز بقوله: “ونحن أقرب إليه من حبل الوريد”، تظهر نتائج هذه النظرة بأن يكون الإنسان هو الشرطي على تصرفات نفسه بوازع من إيمان وتقوى ومخافة لله تعالى، وطاعة للسلطان المطبق لأحكام الله في الأرض، ومسؤول عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بشكل واضح ومغاير تماما لنتيجة ما رأيناه في مجتمعاتنا الحالية.
كما بيّن الأستاذ خبيب أن الدولة الإسلامية التي ستقوم في القريب العاجل إن شاء الله تعالى، لن تحتاج لموارد ضخمة تستخدمها في حرب الجريمة، لن تحتاج لكمية ضخمة من أجهزة المراقبة في الشوارع والمحال التجارية، للقبض على المجرمين، ولن تحتاج لجهاز شرطة ضخم قائم من أجل محاربة الجريمة. وبشكل مشابه، فإن الرغبة العارمة لدى المجتمع الإسلامي، لنيل رضوان الله تعالى، سيفرز عقلية جماعية تتمثل في رأي عام يجعل المعارف الشرعية هي معارف المجتمع، والمنكرات التي أنكرها الشرع منكرات يحاربها المجتمع، بحيث تطغى هذه القيم حتى على منافع محدودة قد تتعارض معها تتعلق بالأفراد، فيقدمون منفعة تطبيق الشرع على ذواتهم.
هذا لأن المسلم يعتبر التعدي على حرمات الله تعالى ذنبا وجريمة يجب الوقوف بحزم في وجهها، فقد أمر الإسلام المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقد قال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان. رواه مسلم من حديث أبي سعيد الخدري.
أما ما يخص غير المسلمين القاطنين في الدولة الإسلامية، فإن عدالة الإسلام ستشكل دافعا لديهم لمنع الجريمة، هذا الأمر سيشكل جبهة موحدة من جميع رعايا الدولة ليقفوا سدا منيعا في وجه الجريمة.
ثم ختم قوله بأنه لا بد من وجود فئة قليلة ستعمل على مخالفة أوامر الإسلام، ولأجل هؤلاء نرى أن الإسلام قد وضع نظاما كاملا في العقوبات، لا يهدف إلى الحد من قدرات المعتدين، بل غايته زجر الآخرين عن اقتراف الجريمة أو التفكير في اقترافها، فعلى سبيل المثال، فيما يخص السرقة نجد القرآن الكريم قد قال “والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم” المائدة 38.
وخلاصة القول: نجد في الإسلام الفرد بوازع من التقوى، والجماعة من خلال اهتمامها بالمحافظة على المجتمع، والدولة من خلال محافظتها على حسن تطبيق الشرع، كل هذا مجتمعا يضمن حسن تطبيق الإحكام الشرعية على كافة الأصعدة، وهذا يؤدي إلى تشديد الخناق على الجريمة في المجتمع.
مقارنة تاريخية
ثم عرج الاستاذ خبيب كرباكة بنظرة متفحصة في التاريخ الإسلامي، حيث نجد أن التاريخ شاهد على هذا كله، فنجد مثلا أن الإمام مالك رضي الله عنه عندما عين قاضيا على المدينة، انتظر عاما كاملا قبل أن تعرض عليه أول مظلمة ليحكم فيها، كما أن السجلات المحفوظة من محاكم المدن الإسلامية الكبرى كدمشق وبغداد وإسطنبول والقاهرة تظهر أن نوعية الجرائم التي قضى فيها القضاة أقضيتهم هي أساسا من نوع القضايا الاجتماعية العادية كالطلاق والاختلاف بين التجار على قضايا مالية عالقة بينهم.
ونجد أن القضايا التي تعلقت بالقتل أو النهب أو الاغتصاب لا تقترب ولا بشكل من الأشكال من نسبة بسيطة جدا مما عليه معدلات أمثالها في الغرب اليوم.
وختما نقول:
إنه في الوقت الذي تعاني فيه المجتمعات التي تحتكم للشرائع الوضعية من ارتفاع معدلات الجريمة، يظهر الإسلام آلية كاملة للتعامل معها بشكل يعالجها من جذورها، والله نسأل واليه نبتهل أن يكرم المسلمين بقيام دولة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة لانقاذ البشرية بنشر الخير والهداية للعالمين.
الدكتور الأسعد العجيلي، رئيس المكتب الاعلامي لحزب التحرير بولاية تونس
ولا يفوتنا أن ننوّه بخصوص تأخير موعد البث المباشر للمنتدى الذي كان بسبب تعمد السلطات إرسال فرقة أمنية عطلت تعمدت إغلاق باب المكتب, وقد أصدر المكتب الإعلامي بيانا في ذلك نصه التالي: