في الأسابيع الأخيرة شهدت تونس موجة من المسؤولين الأوروبيين فلا يكاد يُغادر مسؤول حتّى يخلفه مسؤول آخر، وفي الأسبوع الأخير جاءت رئيسة الحكومة الإيطاليّة يوم الثّلاثاء 06/06/23 ثمّ أعلنت يوم الخميس 08/06 أنّها ستعود إلى تونس يوم الأحد 11 جوان إلى تونس في زيارة هي الثّانية ثانية في أسبوع واحد، وكانت المرّة الثّانية مع وفد أوروبي يضم رئيسة المفوضية الأوروبية ورئيس الوزراء الهولندي. هذا مع كثافة في التّصريحات كلّها يتعلّق بتونس تحذيرا من أن أي انهيار في البلد الذي يعتبر بوابة للهجرة ستطال شظاياه أوروبا كلّها. معلنين أنّ المسألة تتعلّق بالهجرة غير النّظاميّة التي أصبحت هاجسا يُقلق أوروبا كلّها بل صارت تهديدا لا يُمكن السّكوت عليه.
فالمعلن أنّ الهمّ الأوروبي يكمن في موقع تونس كونها بوّابة جنوبيّة للاتّحاد الأوروبي وأنّ الأزمة في تونس ستنتقل حتما إلى أوروبا.
ولأجل ذلك يجب أن تُحلّ الأزمة من تونس قبل أن تفاقم في أوروبا.
والمتتبّع لسيل التّصريحات الأوروبيّة والتّونسيّة يرى أنّ التّركيز كان على مسألتين:
الأولى تتعلّق بالهجرة غير النّظاميّة
الثّانية فتتعلّق بأزمة تونس الاقتصاديّة وبالتّحديد علاقتها بصندوق النّقد الدّولي.
لكنّ المشكل لا يكمن في مجرّد العلاقة بالأوروبيين ولا في المسائل المبحوثة، وإنّما يكمن في كيفيّة التّعاطي معها.
فالتّصريحات الأوروبيّة كلّها تدور حول عجز تونس وضرورة دعمها وإخراجها من الأزمة، أمّا الرّئيس ومن حوله فيتحدّث عن سيادة تونس وعلاقات النّدّ للنّدّ يقصد بذلك أنّ تونس ندّ لأوروبا وأنّه لن يقبل بمنزلة الدّون.
فهل نحن أمام تجربة جديدة في التّعامل مع أوروبا؟ هل نحن أمام عقليّة سياسيّة وديبلوماسيّة جديدة تبني طريقا في الصّخر من أجل بناء تونس جديدة يطيب فيها العيش؟
لنفهم طبيعة ما يجري لا بدّ من وضع الأمور في سياقاتها التّاريخيّة والسّياسيّة.
فأوروبا تضمّ كبرى الدّول المستعمرة التي استعمر بلدان القارّة الإفريقيّة ومنها تونس، فنظرتها إلى تونس كانت نظرة إلى بلد يجب استعمارُه، وحتّى خروج المستعمرين (جنودهم) من تونس لم يكن إلّا تغييرا في أساليب الاستعمار إذ ظلّت تونس تابعة للمستعمر وهذا الأمر راسخ لا في الذّهنيبّة الغربيّة فحسب بل أيضا في عقليّة السّياسيين التّونسيين الذين يرون في تونس بلدا صغيرا لا يقدر على الحياة دون مساعدة وأنّ تلك المساعدة لا بُدّ أن تكون أوروبيّة بالأساس. وعلى هذا تأسّست العلاقة بين أوروبا وتونس على أساس استعماريّ.
ولنلق نظرة سريعة على مسألة الهجرة التي جعلوها محور اللقاءات والاتّفاقات
لم تكن جموع المهاجرين الذين كانوا ينتقلون من إفريقيا ومنها تونس يمثّلون مشكلة لأوروبا بل على العكس كانت كلّ الأبواب مفتوحة لهم، هذا كان بعد أن خرجت الدّول الأوروبيّة محطّمة من الحرب العالميّة الثّانية، فكانت في حاجة إلى السّواعد لتعيد بناء نفسها فكانت السّواعد من بلدان الجنوب هي الأداة التي عوّلت عليها الحكومات الغربيّة حينها في إعادة البناء، ومع أواخر سبعينيات القرن الفائت، انتهت فترة إعادة الإعمار، فانتهى بذلك دور العمال المهاجرين (من بلدان المغرب العربي وإفريقيا جنوب الصحراء). و“انتهت الأشغال” وبدأت فترة انحسار سَعَت فيها كثير من الدول الأوروبية إلى التّخلّص من هذه “الأجسام الغريبة” أو على الأقل إغلاق الأبواب أمام الوافدين الجدد. ففرنسا مثلا فرضت ابتداء من سبتمبر 1986 تأشيرة دخول على مواطني عدد كبير من دول الجنوب، ثم سارتْ على خطاها عدة دول أوروبية.
ومعَ تأسيس الاتحاد الأوروبي في عام 1993 واتفاق الدول المُنضمّة إليه على إدراج “اتفاقيات شنغن” في التشريعات الأوروبية المُشتركة ومع توسّع “فضاء شنغن” وتزايد عدد دُوله تدريجيا، بدأت أسوار “القلعة أوروبا” تَعلُو كل يوم أكثر مُعلنة لمليارات البشر في دول المغرب العربي وجنوب الصّحراء أنهم غير مرغوب فيهم ويتوجب عليهم عبور الجحيم لكي يصلوا إلى “الجنة”.
هكذا سدّت أوروبا المنافذ أمام المهاجرين وأعلنت بكلّ صلف أنّهم غير مرغوب فيهم وسنّت سياسات هجرة صلبة لا ينفذ منها إلّا من تريده أوروبا وتحتاج إليه. ولأجل ذلك وضعت إجراءات مهينة لا للنّاس فقط بل للدّول أيضا
ومع تزايد شُروط الحصول على التأشيرة -التي أصبحت عملية غربلة حقيقية قائمة على معيار التميّز الاجتماعي-الاقتصادي أو العلمي- وتتالي قرارات الرفض للمطالب، أيقن عدد كبير من الراغبين في السفر إلى أوروبا أنهم لن يصلوها عبر المعابر النظامية وأنهم يجب أن يَعبروا الحدود بطرق “غير قانونية”. فكانت “الحَرقة” أو الهجرة غير النظامية المُستمرة بكل مآسيها التي تزايدت حتّى صارت بحار بلادنا تفوح برائحة الموتى.
إذن فمسألة الهجرة مسألة استعمار نهب البلدان وجعل أهلها فقراء، حتّى ضاقت البلدان بأهلها الذين قرّروا تركها بحثا عن حياة عساها تكون كريمة. وهي في ذات الوقت مسألة حكّام لا يرون السّياسة إلّا تبعيّة لأوروبا.
هذا بالنّسبة إلى مسألة الهجرة أمّا مسألة الاتّفاق مع صندوق النّقد الدّولي:
فقد شهدنا وسمعنا كلّ التّصريحات الأوروبيّة تدعو إلى إتمام الاتّفاق مع الصّندوق، وفي هذا السّياق يتمّ التّرويج أنّ الرئيس قيس سعيّد هو من يرفض إملاءات الصّندوق وأنّه يريد اتّفاقا دون إملاءات. وبدت الصّورة وكأنّ الجميع من الدّاخل والخارج يسعون خلف الرئيس ليوافق وهو الممانع المتمنّع، والحقيقة أنّ الرئيس لا يُمانع لأنّ الممانع لا يجلس مع الصّندوق أصلا لأنّ الاتّفاق معه يعني بالضرورة الخضوع لشروطه، وهذا يعرفه الرئيس ومع ذلك جعل حكومته ووزراءه يجتمعون وخبراء الصّندوق، حتّى تمّ وضع برنامج لتونس، لكنّ المشكلة ليست في رفض الرئيس إنّما في رفض الصّندوق إتمام الاتّفاق لأنّه يريد رفعا كاملا عن الدّعم بما فيه دعم المحروقات وبيع المؤسّسات العموميّة، وما يؤكّد هذا الأمر أنّ رفع الدّعم صار أمرا واقعا معيشا ولم يبق إلّا رفعه عن المحروقات وهي الخطوة التي “رفضها” الرئيس، لأنّها مستحيلة التطبيق حاليّا، وقد قدّم وزراء الرئيس مقترحا للصّندوق يعد برفع الدّعم عن المحروقات بداية من سنة 2024 حتّى تحريره بشكل كامل في 2026. ممّا يدلّ أنّ المفاوضات مازالت جارية لإقناع إدارة الصّندوق بالتأجيل ليس إلّا. وفي هذا السّياق تسعى أوروبا إلى “دعم” تونس في مفاوضاتها مع إدارة الصّندوق ممّا يعني أنّ أوروبا تريد من تونس الموافقة والالتزام وتريد من الصّندوق بعض المرونة حتّى يمكن تطبيق الاتّفاق.
فأين مصلحة تونس في هذا؟ أين الممانعة والتّصدّي؟ إنّنا لا نرى إلّا بيعا للبلد ولكنّه في صورة الممتنع الرّافض.
تونس شأن تونسيّ أم أوروبيّ؟؟
فهل القول بالسّيادة الوطنيّة واستقلال القرار الوطني التي لا ينفكّ الرّئيس عن تكرارهما مؤشّر على عقليّة سياسيّة جديدة في تونس؟
التّغيير الحقيقي لا يكون كلاما دون أفعال، وما نسمعه من الرّئيس كلام ولا فعل بل الأفعال تُناقضُه ففي الوقت الذي يتكلّم فيه الرئيس عن الاستقلال والسّيادة يستقبل قادة أوروبا يكلّمونه في شؤون تونس الدّاخليّة ويُشركهم في الأمر بل ما رأيناه في الأسابيع الأخيرة أنّ الشأن التّونسيّ تحوّل إلى شأن أوروبيّ بمشاركة تونس، فإيطاليا مثلا تتحدّث في كلّ المحافل عن تونس (في اجتماعات مجموعة السّبعة، وفي اجتماعات البرلمان الأوروبي، وفي اللقاءات الثّنائيّة مع الجزائر أو ألمانيا أو أمريكا ….).
فما شأن إيطاليا بأزمة تونس الماليّة؟ أليس الأمر داخليّا؟ ومن سوّغ لـمفوض الاتحاد الأوروبي للاقتصاد باولو جينتيلوني (في تصريحات تلفزية نقلتها وكالة نوفا للأنباء يوم الخميس 8 جوان 2023 ) الحديث عن استقرار تونس وتجنب التخلف عن السداد.
ثمّ أين الاستقلال حين يتكلّ “جينيلوتي هذا انّ “المفوضية لديها برنامج جاهز سيضاف إلى برنامج صندوق النقد الدولي” قائلا: “نحن نعمل على تسهيل برنامج جديد لصندوق النقد الدولي”. المسؤول الأوروبي يتحدّث عن برامج اقتصاديّة تمّ وضعها لتونس، منها ما وضعه الصّندوق ومنها ما وضعه الاتّحاد الأوروبيّ. ثمّ ها هو الاتّحاد الأوروبيّ يعيّن مسؤولا آخر قارّا في تونس مهمّته الشأن الاقتصادي (مراقبة أم متابعة أم تحكّم؟) لا فرق. أليس
فأين السّيادة؟ لماذا يقرّر الأوروبيّون مصير تونس؟ أليس هذا عدوانا صريحا على تونس؟
وإذا علمنا أنّ أوروبا مستعمر قديم جديد، فقدوم قادتهم ليس إلّا عدوانا متواصلا على بلادنا واستقبالهم وإدخالهم إلى بلادنا هو إدخال عدوّ يبتغي العدوان. فهل ينفع بعد ذلك أن نتحدّث عن الاستقلال والسّيادة أم هو مجرّد حديث للتّخدير؟