التّعليم ضحيّة سياسة عضّ الأصابع بين الدّولة والاتّحاد
ظاهريّا أولت الدولة في تونس التعليم الاهتمام الذي يستحق من “بورقيبة” ووزيره “محمود المسعدي”. مرورا ببن علي, وصولا إلى الحكومات المتعاقبة بعد الثورة والفترة الحالية بقيادة الرئيس “قيس سعيد”. البداية كانت بإرساء تعليم هجين تمتزج فيه الثقافة الغربية الحداثية والهوية المحلية فكانت النتيجة إنشاء تعليم أعرج وعقيم لا يبني شخصيات قادرة على الإبداع والابتكار, وكل ما ينتجه مجرد جحافل تحسن القراءة والكتابة وتستطيع في أحسن الأحوال استغلال تكنولوجية الدول المتقدمة في مجالات محددة لا يتعدى حاجز الاستهلاك السلبي وجعل بلادنا مجرد سوق يروج فيه الغرب بضاعته..
بعد “بورقيبة” جاء “بن علي” الذي شهد التعليم في عهده انتكاسة كبرى ولم يتمّ إصلاح تربوي جديد ناجع أو انتهاج سياسة تعليم واضحة على الأقل. لقد طمست الدولة تحت قيادته كل نقاط الضوء ولو أنها أقل من أن تعد على أصابع اليد الواحدة وأدخلت التعليم في نفق شديدة الظلمة. تمت الإطاحة ب”بن علي” وساد الاعتقاد بأن البلاد سيتغير حالها إلى الأفضل وأن الثورة ستقضي على الفساد بعد أن كنست الفاسدين والمفسدين, لكن دار لقمان ظلت على حالها بل الأوضاع ازدادت سوءا على سوء خاصة في قطاع التعليم, الذي تحول إلى ساحة للتجاذبات والمزايدات الرخيصة.
الدولة أدارت ظهرها كليا للتعليم ولم تعد تعره أي اهتمام وانصرف القائمون عليها إلى تحصين مواقعهم في كراسي السلطة عن طريق التوافقات والترضيات وتحولت المؤسسات التربوية إلى ما يشبه أوكار للانحراف والجريمة, هذا دون الحديث تدني التحصيل العلمي للتلاميذ بشكل مرعب ومخيف, هذا ولم تشهد البنية التحتية أي تحسن بل أصبحت المؤسسات التربوية شبيهة إلى حد كبير بالإسطبلات خاصة في المناطق الريفية, والزائر لأعماق البلاد ستصدمه حتما الحالة المزرية للمؤسسات التربوية التي هي في الأصل منارات للعلم, لكن سياسة الدولة حولتها إلى بؤر مظلمة تنتج الجهل وتنشر التخلف..
وللدولة شريك في جريمتها التي اقترفتها ومازلت تقترفها في حق التعليم, إنها النقابات التي لم نسمع لها ولو همسا زمن “بورقيبة” و”بن علي” خوفا من البطش وطمعا في الحصول على الامتيازات التي تحصل عليها نتيجة تطبيلها وتزلفها للمقبور والمخلوع, وبمفعول الثورة لم يعد ذلك متاحا، وللإبقاء على تلك الامتيازات وضمان استمرار الحصول على المكاسب الضيقة أوعز اتحاد الشغل لنقاباته إلى شن الإضراب تلو الإضراب وتعطيل الدروس في المدارس والمعاهد دون مراعاة مصلحة التلميذ المتضرر الوحيد من الحروب الطاحنة والمتكررة بين الدولة واتحاد الشغل المدجج بالنقابات. لا أحد من الطرفين سعى إلى معالجة العلل التي يعاني منها قطاع التعليم المثخن بالجراح سببتها له الدولة ثم تكفلت النقابات بحشوها بالملح وتحريك السكاكين بداخلها. آخر الحروب الآثمة بين الدولة ونقابات التعليم حرب حجب الأعداد, علما أنه لا تكاد سنة دراسية تخلو من خلاف بين جامعتي التعليم الأساسي والثانوي وبين وزارة التربية. ولا يكاد يخلو عام من اللجوء إلى التلويح بمقاطعة العودة المدرسية أو التهديد بمقاطعة الامتحانات أو حجب الأعداد, وهذا ما يحصل اليوم, لقد تم حجب الأعداد ودخلت النقابات في سجال كريه مع الدولة متمثلة في وزارة التربية التي اختارت التصعيد وتأجيج الأوضاع فقابلت الحجب بالحجب إذ أقدم وزير التربية وهو نقابي سابق إلى حجب رواتب سبعة عشر ألف معلم مع إعفاء المئات من مديري المدارس, إضافة إلى إيقاف إجراءات التقاعد المبكر للمعلمين الحاجبين للأعداد إلى حين انتهاء البحث الذي فتحته الوزارة على خلفية حجب الأعداد. أمام هذا كله ردت نقابة التعليم الأساسي الفعل ودعت المعلمين إلى إلغاء المصادقة على الأعداد التي قاموا بتنزيلها سابقا بالفضاء الرقمي لوزارة التربية هذا ودعا الكاتب العام للاتحاد الجهوي للشغل بصفاقس إلى إضرابات قطاعية في إطار التضامن مع قطاع التعليم الأساسي ومنظوريه. دوامة من الفعل ورد الفعل وتجاذب بين الدولة والاتحاد وصل حد العبث. تعليم متهالك يحتضر ويكاد يلفظ أنفاسه الأخيرة ولا أحد يفكر ولو مجرد التفكير في انقاذه.
وزير التربية اقتفى أثر رئيسه وفي كل ظهور له يجتر سردية “قيس سعيد” من قبيل لا نسمح بزعزعة الدولة.. حريصون على تطبيق القانون وغير ذلك من الشعارات الجوفاء التي يكرر الرئيس على مسامعنا كل ما استجدت أزمة ما. الماسكون بالسلطة لا همّ لهم سوى المحافظة على الدولة ويعلنون سعيهم وحرصهم على ديمومتها واستمرارها والحال أنها دولة عقيم وان حصل وأنتجت شيئا لا يخرج مات نتج إلا نكدا. أما اتحاد الشغل ونقاباته فهو يدور في فلك الدولة ومن جنسها ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن يعكر صفوها فهو يتقاسم معها الأدوار ولا يهمه في نهاية الأمر إلا ما تجنيه قياداته من مكاسب وامتيازات. كل احتجاجاته وإضراباته وأيام غضبه التي يعلن عنها بين الحين والأخر من باب المزايدات ليس إلاّ. على الجميع أن يعلم أن الدولة واتحاد الشغل وجهان لعملة واحدة هما حارسان للنظام الديمقراطي الوضعي وإن حصل واختلفا فمن أجل مصلحة ذاتية, ولتوضيح أكثر يكفي التذكير بأن وزير التربية الحالي “محمد علي البوغديري” نقابي سابق وكان عبر عن رفضه لحجب رواتب المعلمين الذين حجبوا الأعداد في فترة تولي “حاتم بن سالم” مقاليد وزارة التربية وقال حينها “أجور المعلمين خط أحمر” الخط الأحمر اليوم تحول إلى خط بنفسجي وها هو نقابي الأمس ووزير اليوم يرقص مع الدولة بعد أن رقص إلى حد الإعياء مع اتحاد الشغل.
CATEGORIES كلمة العدد