على تونس أن تكون سيدة على ثرواتها، لا وجهة للاستثمار
جاءت اتفاقية المنحة التي وقعتها الشركة التونسية للكهرباء والغاز، وشركة تشغيل الكهرباء الايطالية «تيرنا» الإيطالية، الثلاثاء 05 من الشهر الجاري، مع المفوضية الأوروبية بقيمة 307 مليون يورو، لدعم تمويل مشروع الربط الكهربائي بين تونس وإيطاليا «إلماد»، لتنضاف إلى منحة البنك الدولي، والمقدرة بقيمة 4ر268 مليون دولار لفائدة نفس المشروع، جزء منها مخصص لبناء محطة التحويل الكهربائي من جهة تونس المدرجة في نطاق المشروع الممول من قبل مرفق التواصل الأوروبي، والمرفق هذا هو صندوق تابع للاتحاد الأوروبي للاستثمار في البنية التحتية لعموم أوروبا في مجال النقل والطاقة والمشاريع الرقمية التي تهدف إلى زيادة الترابط بين الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، مع تمويلات منتظرة من بنك الاستثمار الأوروبي و بنك الاعمار الألماني والبنك الأوروبي لإعادة الاعمار والتنمية، في ظل صمت مريب من صندوق النقد الدولي، الذي لا زال يرقب تعديل إصلاحات الرئيس قيس سعيد. وقد حضيت اتفاقية المنحة باحتفاء من السلطة في تونس، للفوائد التي ستجنيها تونس من هذا المشروع، إذ يساهم في مجابهة الزيادة المطردة في استهلاك الطاقة، وفي الخفض من مستوى الاستثمار في مجال توليد الطاقة الكهربائية، والتخفيض من الاعتماد على الغاز، الذي ارتفعت فاتورة شراء المحلي منه والأجنبي إلى نحو 2.6 مليار دولار، وأنه يساهم في خلق حوالي 200 موطن شغل مباشرة وأكثر من 2000 موطن شغل غير مباشر. إلا أن مشروع الربط الكهربائي بين تونس وإيطاليا «إلماد»، والذي تنادت الدول الأوروبية لتمويله، هو في الحقيقة الشجرة التي تخفي الغابة، فهو أحد بنود الإستراتيجية الأوروبية في سياسة تحولها التدريجي نحو الطاقة منخفضة الكربون، للحد من انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري بالتحول نحو مصادر الطاقة المتجددة. وبما أن الدراسات الدولية ومراكز أبحاثها بينت أن الإمكانيات الضخمة التي تتمتع بها منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في توليد الطاقة الشمسية حيث لا تكاد تغيب الشمس الساطعة، عن نهارها، وهي الطاقة المتجددة التي لا تنفد، وأن إنتاج الكهرباء باستخدام تكنولوجيا الطاقة الشمسية المركزة وحدها يمكن أن يفوق بعشرات المرات الطلب على الكهرباء في شمال أفريقيا والشرق الأوسط وأوروبا مجتمعة.
ومع توقع نفاد الوقود الأحفوري (الفحم والنفط والغاز) في أفق 2050 ومع ما يسببه عند حرقه لإنتاج الطاقة، من انبعاثات ضارة مثل ثاني أكسيد الكربون، فقد وجدت أوروبا في حكام تونس، سُلّال أسلافهم، ضالتها يمكنونها من وضع يدها على مقوم من مقومات منعتنا، أرضنا والشمس التي حبانا المولى عز وجل بها. راحت أوروبا تعقد معهم عقودا لا تعلم خفاياها، تحت عناوين خادعة مضللة كالشراكة، والاستثمار، وفرص التشغيل. بل نحن نشاهد رأي العين وملء السمع تنافس مختلف الفرقاء الأوروبيين على الظفر بامتياز استغلال تلك الطاقة، فهل الألمان هم أصحاب الحظ السعيد، أم الفرنسيس، أم الإنجليز؟ وإذا كان من حكمة الحكماء قولهم: “إن السعيد من اتعظ بغيره”، فإن هؤلاء لم يخجلهم عقد بيع الملح الذي ظل يهدر “بفرنك” للهكتار الواحد، وهي العملة التي لم يعد يُتعامل بها. فلم يرفّ لهم جفن، وعميت بصائرهم عن نقض ذلك العقد المشؤوم، واستصفاء ريعه لأصحاب الحق، بل إن “المهدي جمعة” أسند امتياز استغلال “سبخة الغرّة”، في شهر مارس 2014، للشركة الفرنسية نفسها، “كوتيزال” لمدة ثلاثين عام قادمة على مساحة 11200 هكتار، أو خيانة يوسف الشاهد بتمكينه ذات الشركة من مزيد التصرف في ثروة الملح لـمدة 10 سنوات إضافية. وإذا كانت الشركات الاستعمارية استطاعت أن تضع يدها على الطاقة الأحفورية لعدة عقود لم نعلم عنها شيئا: قدرها، وعائداتها، حتى قال أحد مسؤولي القطاع حين سئل عن الكمية المستخرجة أن الأمر يتم بين حكومته والناهبين لثروتنا “بالثيقة”، فلا عدّاد ولا محاسبة!!
و”مرفق التواصل الأوروبي” القائم على الاستثمار في البنية التحتية لعموم أوروبا في مجال النقل والطاقة والمشاريع الرقمية، وهو يعمل على الاستعاضة عن هذه الطاقة التي استنزفتها شركاتهم، باستبدالها بطاقة نظيفة متجددة، يعمل في خضم التنافس عليها بين القوى الاستعمارية، أن يمكن لشركاته الناهبة بإحكام القبضة على البُنى التحتية لإنتاج الطاقة البديلة، الأرض والشمس، تحت عنوان سياسة تحرير المرافق العمومية وفتحها للمنافسة بين الخواص. تلك السياسة التي فرضتها الدول الكبرى، باسم التحولات العالمية العميقة، وجعل الدولة تنسحب من القطاعات الهامة وإتاحة الفرصة أمام الخواص للاضطلاع بمهام كانت حكرا على الدولة. فاقتضى الأمر تغييرات قانونية، فكان عقد “اللزمة” الصادر في 01 أفريل 2008، والذي يفوّض بمقتضاه شخص معنوي عمومي (الدولة، أو شركة وطنية) إلى شخص عمومي أو خاص، التّصرف في مرفق عمومي أو استعمال أو استغلال أملاك أو معدات عمومية. وعلى هذا صار للسلطة الحق في إسناد “اللزمة” المتعلقة باستغلال الطاقة الشمسية، وذلك باستعمال أو استغلال أملاك (الصحراء التونسية)، أو معدات عمومية، إلى الجهات القادرة ماديا وفنيا، وتحت هذا العنوان لن تكون هذه “الجهات القادرة ماديا وفنيا” إلا خارجية، أوروبية مثلا. وعلى هذا، فإن كانوا قد أمضوا عقودا نهبت بها ما في باطن الأرض، فإننا اليوم نشهد إعادة كتابة فصول الجريمة ثانية، بسلبنا ما فوقها وتحت سمائنا.
فقد آن التنبيه عاليا أن لا أحد يملك حق التفريط في مقدرات شعب، وتمكين عدوه منه، فإن عجز فلا يفجر. أما وقد أقر هذا القانون أن الأمر متعلق بمرفق عمومي، فإن التفريط فيه خيانة للعهد، وفجور أعظم. فالتفريط في حق عام، فإنه مع الحطّ من سيادة الأمة على مقدراتها، ومن سلطانها على أرضها وسمائها، فهو أمر معيق لنهضتها ورقيها…
ــ فالدولة هي التي عليها واجب الإشراف التفصيلي على كل أطوار الإنتاج، ويدها هي القائمة على مجمل المحصول، ولها كامل الحق في استئجار الفنيين والخبراء، وإبرام العقود مع الشركات، برسم الإجارة، مقابل معلوم محدد لا مجال فيه للملكية الدائمة.
ــ والدولة لا تملك بأي وجه، أن تحول دون “التونسي” بوصفه حامل للتابعية، وحقه في الانتفاع بالطاقة الشمسية بالقدر الذي يلزمه لحاجته واستعماله المباشر لعمله. بل على الدولة أن تعمل على تمكينه من كل مقومات الاستثمار الممكنة، بحسب طاقتها. فهل يعقل أن تمكن كارتلات النهب العالمي من كل ظروف مصّ دمائنا، ونحول دون المرء منا ونصبه ألواح خلايا شمسية توفر له قدرا من الطاقة تيسر له عيشه؟
ــ والدولة التي تحترم نفسها هي التي ترسم إستراتيجية مضبوطة تقوم على أمرين:
الأول: إعداد مزيد من الرجال القادرين على فك أسرار هذا العلم، ولا تعدم أمتنا من مثلهم، بل فلنا من المهندسين والخبراء والطلبة ما يكفي لإيجاد النواة الصلبة لذلك.
الثاني: أن تفتح المجال واسعا لكل من يريد الاستثمار في هذا المرفق، كصناعة ألواح الخلايا وتركيبها وصيانتها، حتى نملك ناصية هذا المرفق.
أما مسألة الاتجار في الطاقة المستدامة فذلك تحدده السياسة الخارجية، وأما بعد قول الرسول صلى الله عليه وسلم: “الناس شركاء في ثلاث الماء والكلأ والنار”، وطاقة الشمس من النار، فلم يبق لمُتمعّك في جهله أن يفتري على الناس بادعاء أنه قائم على مصالحهم، فصحراؤنا وطاقة شمسنا من نعم الله علينا فهي ليست، لأحد، سوقا للاستثمار.
CATEGORIES كلمة العدد