انتحار الأطفال وأسبابه
آمنة خشارم
كثرت في الآونة الأخيرة ظاهرة الانتحار في صفوف الأطفال, فقد بلغت حوادث الانتحار ومحاولات الانتحار 45 حالة خلال الثلاثي الأول فقط من سنة 2023 كما سجّلت 6 حالات انتحار في شهر أفريل في القيروان وكذلك 5 حالات في شهر ماي، ممّا يثير الاستغراب والتساؤل فما هو سبب ذلك ؟
إنّ الانتحار ليس بالأمر الهيّن ومن يقدم عليه فالأكيد أنّ ما يعانيه هو أصعب من الموت وخاصّة عندما يكون طفلأ أو شابا في مقتبل عمره و قوّته و عنفوانه. إن قرار الانتحار راجع إلى أنّ المنتحر يرى أنّ موته خير من حياته ذلك أنّ ما يلاقيه في حياته هو شقاء وضنك. فما الذي يجعل حياة طفل أو شاب ضنكا وشقاء؟
إنّ الأسباب عديدة ومتشعّبة وأساسها هو أنّ هذا الإنسان لم تعد له جدوى من حياته ولا أيّة رغبة ولا أي غاية ولا هدف. فالأطفال اليوم للأسف الشديد يعانون ظلمّا شديدا ولا يستطيعون ولا يفقهون التعبير عنه ممّا يقودهم إلى الكآبة ومن ثمّ الانتحار، ومن أسباب ذلك أوّلا: أنّهم ومنذ نشأتهم لم يربو على أساس صحيح ولم تغرس فيهم المفاهيم الصحيحة عن الحياة وخاصّة حول العقيدة الإسلاميّة من حيث أنّنا عباد لله وحده سبحانه وأنّنا في هذه الدنيا لنحيا فيها ونحقّق الغاية الكبرى وهي مرضاة الله سبحانه وتعالى لننال الجنّة في الآخرة بحول الله فيعيش الطفل وهمّه مرضاة ربّه فلا يقدم على عمل فيه عصيان لأمره سبحانه فكيف إذا يقدم على الانتحار وهو حرام ؟
ثانيا: أنّ هذا الطفل يعيش تذبذبا وانفصاما بين عقيدته وواقع كامل يناقضها فيعيش مشوّشا فإذا ما أراد أن يتّبع دينه يجد أنّ الواقع كلّه ضدّه فيجد نفسه غريبا حتّى عن أهله فيعيش في عزلة تخنقه فالإنسان مدنّي بطبعه وهو لا يفقه لما هذا الواقع ينافي دينه
ثالثا: الطفل بطبيعته يختزن طاقة عظيمة تجعله متحرّقا لتفجيرها في واقعه في حين أنّنا اليوم نرى أنّ جميع ما يحيط به يحطّم عزائمه ويكبت طاقاته ويهدرها فلا يوجد لا دولة ولا مدرسة تصقل طاقته وتوجّهها التوجيه الصحيح, فمثلا هناك من الأطفال من يمتلك مهارة صنع آلات من مواد بسيطة فيمكن أن يكبر ويصبح عالما مخترعا يفيد دولته وأمّته ولكن للأسف أنّ كفاءاتنا لم يجدوا مكانا لهم في هذه البلاد لأنّها ببساطة مستغنية عن هذه الطاقات لصالح عدوّها الغرب. كما أنّ المناهج الدّراسيّة في بلادنا لا تراعي الفارق في طاقة الاستيعاب بين تلميذ وآخر أو في القدرات الفكريّة كما لا تعمل على اكتشاف مواهب التّلاميذ المختلفة فتؤطّر كلّ طفل بحسب ما يهواه وما يرغب في الاختصاص فيه ليبدع في ذلك المجال فيستفيد ويفيد بعلمه وهو في شغف ولكن اليوم فما يحصل هو العكس تماما فهناك برنامج منذ السنوات الابتدائية والطفل مجبر فيها على دراسته ممّا يثقل كاهل كثير من الأطفال ذلك أنّه برنامج محشوا حشوا بكميّة هائلة من المعلومات التي لا يقدر الطفل على استيعابها في سنّ مبكّر فهي تفوق طاقة معظم الأطفال فيدخل التلميذ في دوّامة من اليأس تدفعه إلى كره التعليم في حين أنّه مجبر عليه من قبل كلّ من يحيط به فيتملّكه الضيق والقلق والكآبة تدفع البعض منهم إلى الانتحار ليرتاح من كابوس الدراسة والمناهج العلميّة في بلادنا
رابعا: الأطفال اليوم يعيشون في أسرهم واقعا صعبا لأنّ أغلب الأمّهات يشتغلن لكسب القوت بسبب ضيق ذات اليد كما لا ننسى الأطفال الذين يعانون من طلاق والديهم, فيعيش الطفل في نقص للحنان وللإحاطة يجعله مضطربا قلقا حتى أنّه إذا ما وقع في مصيبة أو مشكل لا يجد والديه حذوه ليأخذوا بيده ويوجّهوه لينتشلوه ممّا يؤرّقه فهو لازال غظّا لم يكتسب بعد تجارب في حياته ولا يدرك ما هو الصواب والخطأ خاصّة في واقعنا اليوم فكلّه أهوال ومخاطر فالمفاسد تحيط به من كل جانب من مخدّرات ومسكرات وملهيات ومن شذوذ ومن أفكار هدّامة تردي به إلى المهالك
خامسا: الطفل اليوم لم تعد له غاية في هذه الدنيا فحتى الأطفال المتميّزين في دراستهم والشغوفين بها فسرعان ما يفتر هذا الشغف لأنّه يجد أنّ غيره مِمّنْ نال الشهادات الجامعيّة لم يصل إلى مبتغاه لم يجد وظيفة أو لم يستطع إنجاز ما كان يحلم به من مشاريع في حياته فيتوجّه إلى الضياع والألهيات والتفاهات حتى ينسى ما يعانيه أو يقرّر الانتحار. إلى جانب كلّ هذا نجد الألعاب الإلكترونيّة التي تستدرج الأطفال نحو الانتحار
إنّ حالة الكآبة التي يعيشها الأطفال والشباب اليوم نتيجة اليأس من أن يعيشوا حياة طبيعيّة كريمة تجعلهم إمّا أن يغرقوا في التفاهات أو العزلة أو الانتحار وهذا كلّه لأنّنا لا نعيش بنظام ربّاني يحقّق لنا الطّمأنينة والرّاحة والسّكينة فالله سبحانه يقول “فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى، وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا”
فتشريع رب العالمين كفيل بأن يزرع الأمل في الحياة ويفجّر الطاقات فهذه جنبات التّاريخ تسطّر في طياتها بطولات أطفال عظام فهذا سيّدنا علي افتدى النبيّ صلى الله عليه وسلّم بنفسه عندما آمن بأنّه رسول الله جاء بالحق وعمره ثماني سنوات والأرقم بن أبي الأرقم آمن بالنبي وفتح بيته ليجتمع فيها الصحابة ليثقّفهم بثقافة الإسلام رغم ما في ذلك من مخاطر وهو ابن اثنتي عشرة سنة وهو نفس عمر أسامة ابن زيد كذلك عندما قاد جيش المسلمين ليحارب الرّوم وقد شهد له النبيّ بالكفاءة ممّا عزّز ثقته بنفسه فترتفع بذلك همّته عاليا ويبتغي معالي الأمور كما نشأ على ذلك محمّد الفاتح وغيره فحقّقوا الانتصارات التي لم يحقّقها غيرهم وهم في ريعان شبابهم لأنّهم نشأوا وهمّهم وغايتهم كانت عظيمة
اللّهم نسألك خلافة راشدة تنتشل أبناءنا ممّا يعانونه من ألم وضيق وضياع وتنير لهم الطريق نحو حياة كلّها أمل وعزّ في أحضان الإسلام