(العكري) بين النّبذ الشعبي والنّخبة المضبوعة

(العكري) بين النّبذ الشعبي والنّخبة المضبوعة

الخبر: نشرت صحيفة ”جون أفريك” الأحد 25 ديسمبر 2023 تقريرا عن المقرّ الحاليّ للسّفارة الفرنسيّة بتونس الذي أصبح قبلة للمتظاهرين منذ العدوان الإسرائيليّ على قطاع غزّة يوم 7 أكتوبر الفارط، بسبب موقف باريس الدّاعم للاحتلال والمناهض للـمُقاومة الفلسـطينيّة. الصحيفة خلصت في مستهل التّقرير إلى أنّ بلادنا تعيش حراكا بات خلاله واضحا وجليّا أنّ المناخ العام يتّسم بكراهيّة كلّ ما هو فرنسيّ، وأنّ ذلك أصبح حقيقة واضحة المعالم في تونس. كما أنّ الذّاكرة التونسيّة لم تنس أنّ الاستعمار ”استوطن” الأرض طيلة 75 عاما وارتكب العديد من المجازر، مضيفة: لقد أصبحت عبارات من قبيل ”صبايحي” و”حزب فرانسا” وصما (سبّة ولعنة) لكلّ من يُتّهم بالتخابر والتعامل مع الفرنسيّين ويضع نفسه في خدمتهم.
هذا بالإضافة إلى أنّ المقر الحاليّ للسّفارة يزيد من ”خدش” الذّاكرة ويحرم روّاد وسط العاصمة من التجوال بحريّة، خاصة إذا ما تزامن الظّرف مع حدوث إضرابات أو ما شابه..بل إنّ المترو الخفيف ”يجد نفسه مضطرّا” هو الآخر للتوقّف القسريّ بساحة الجمهوريّة وعدم مواصلة سفرته باتجاه ساحة برشلونة، كما أنّ منع التّجوال في محيط السّفارة ألحق ضررا فادحا بأصحاب المحلاّت المحاذية، هذا دون أن ننسى المعاملة المذلّة لطالبيّ التّأشيرة ووقوفهم لساعات في انتظار موعد ينتهي في غالب الأحيان برفض الطّلب..

التّعليق: “صحّ النّوم يا جون أفريك”، فتقريرك هذا وما تضمّنه من استنتاجات جاء متأخّرا قرابة قرن ونصف: فهناك نبذ تونسيّ شعبيّ كاسح للغرب عموما ولفرنسا خصوصا منذ أن دنّست جيوشها أرض القيروان والزّيتونة صيف 1881، وهو ليس وليد دعم باريس لعدوان كيان يهود على غزّة، بل هو موقف مبدئيّ عقائديّ لشعب مسلم تجاه رأس من رؤوس الكفر ورائد من روّاد الاستعمار والصليبيّة. كلّ ما في الأمر أنّ النّخب الفكريّة والسياسيّة مضبوعة بالثّقافة الغربيّة وقيمها الليبراليّة حدّ الثّمالة منبهرة بالثّورة الفرنسيّة ولغة موليار حدّ النّخاع، كما أنّها مرتهنة للاستعمار مرتبطة به ارتباطا عضويّا في قيامها واستمرارها وبرامجها ومهامّها..لذلك فلا غرابة أن اتّخذت من عاصمة الأنوار مرجعا وقبلة وصنما ومعبودا، وتولّت تلميع صورة فرنسا والإعلاء من شأنها وتبييضها من الأدران الكولونياليّة واتّخذتها مثالاً يُحتذى ونموذجًا متكاملاً للتقدّم والرُّقي..كما دفعت ـ قولا وفعلا / فكرا وممارسة ـ نحو تمجيد الاستعمار والاعتراف بـ(جميله وفضائله ومحاسنه) حتّى لتكاد تترحّم على أيّامه، بل وتستعديه ـ جهارًا نهارًا ـ على الإسلام والمسلمين وتحثّه للعودة كلّما ظهرت بارقة أمل في الأمة, ودونكم الرّئيس قيس سعيّد الذي كاد أن يغمى عليه في أوّل لقاء له مع ماكرون، فانحنى عليه ـ لا شعوريّا ـ يقبّل كتفه، ثمّ استمات في تبرئة فرنسا من جرائمها الاستعماريّة في حقّنا معتبرا إيّاها (حماية)..ومنذ أن ارتمى في أحضان فرنسا، تناسى أنّه خبير في القانون الدستوريّ وتخلّى عن فكر روزا لوكسمبور وديمقراطيّتها المجالسيّة وتنصّل من مذهبه المالكيّ وفتح قلعة المالكيّة على مصراعيها أمام المذهب الشيعيّ وفرضه على مشائخ الجامعة الزيتونيّة وأحفاد الإمام سحنون، لا لشيء إلاّ لأنّ فرنسا تريد ذلك..ولإنعاش ذاكرة أيتام فرنسا ولقطائها، لا مفرّ من مواجهتهم بموقف الشّعب التونسيّ من الاستعمار الفرنسيّ، حتّى لا يتّخذوه شمّاعة للتّأصيل والمرجعيّة يعلّقون عليها ردّتهم وعمالتهم وانبتاتهم، فذلك الموقف المبدئيّ البطوليّ بمفعوله الرّجعيّ يمكّننا من تصنيف من يشاطرون فرنسا اليوم قيم الليبراليّة وعقيدة فصل الدّين عن الحياة وإعادتهم إلى حجمهم الطبيعيّ ـ حكومة وأفرادا وكتلا ومنظّمات ـ بوصفهم مستوطنات فكريّة إجراميّة وأوراما سرطانيّة خبيثة مزروعة قسرا في الجسد التونسيّ المسلم الطّاهر الذي سيلفظهم إلى مزابل التّاريخ طال الزّمان أم قصر، وإن كن اليوم ينوس بين النّبذ الشّعبي الإسلاميّ والنّخبة المضبوعة.

فعلى المستوى الشّعبيّ، ورغم ظروف المجاعة ومضاعفة المجبى والفقر والحرمان والعري والقمع الوحشيّ لثورة علي بن غذاهم، ورغم خذلان الباي والغرامات الماليّة المسلّطة على المتمرّدين، ورغم اختلال موازين القوى المشطّ وتواضع الإمكانيّات عتادا وعدّة، رغم كلّ ذلك تمسّك الشّعب التّونسيّ بهويّته الإسلاميّة وانتمائه لدولة الخلافة العثمانيّة، وضجّت البلاد واشتعلت تحت أقدام المستعمر، فأعلنت المدن التونسيّة العصيان والمقاومة واستنفرت القبائل التّونسيّة من شمال البلاد إلى جنوبها للجهاد في سبيل الله بقيادة أبطال أفذاذ على غرار (علي بن خليفة النفّاتي ـ علي بن عمار العيّاري ـ منصور الهوش ـ أحمد الهمّامي..) واستماتت في الدّفاع عن عقيدتها وهويّتها وصمدت في وجه الآلة الاستعماريّة الفرنسيّة الجرّارة وكبّدتها خسائر فادحة وعرقلت تقدّمها بشكل جدّي وذلك باعتراف الفرنسيّين أنفسهم: جاء في تقرير الجنرال (لو جرو) قائد الحملة على تونس (خلاصة القول أنّ البلاد ملتهبة وأنّ ثورة عارمة تُهيّأ في الأفق وأنّ الأهالي بدون استثناء معادون لنا ولا يمكن أن نعوّل إلاّ على أنفسنا). وحتّى بعد انهزامه وانتصاب الحماية على أرضه لم يركن الشّعب التّونسيّ يوما إلى الاحتلال ولم يسلّم به بل عدّ مجرّد التجنّس بالجنسيّة الفرنسيّة كفرا ومروقا من الدّين وهبّ هبّة رجل واحد سنة 1911م ضدّ دفن متجنّس في مقبرة الجلاّز..أمّا أبرز موقف يعبّر حقيقة عن نبذ الشّعب التونسيّ لفرنسا الاستعماريّة وعدم قبوله بها أو ركونه إليها فهو تفضيل جزء كبير من القبائل التونسيّة الهجرة إلى إيالة طرابلس الغرب على مساكنة (الرّومي بو برطلّة) والرّضا بحكمه: فسنة 1885 تعرف في المخيال الشّعبي التونسيّ بـ(عام الهجّة) أي الهجرة القسريّة، حيث هاجر قرابة 250 ألف شخص (حوالي سدس الشّعب التونسيّ) رفضا منهم لهذا المحتلّ الكافر المتنافر معهم عقائديّا..وهو موقف معبّر يرى في الفرنسيّين (نجاسات) لا يجوز الاتّصال بهم فيزيائيّا ماديّا فضلا عن تبنّي عقيدتهم ووجهة نظرهم في الحياة، كما أنّه قمّة في الأنفة والإحساس بشرف الانتماء الإسلاميّ، يذكّرنا بموقف الفاتحين الذين كانوا لا يسكنون في مدن المشركين، بل يؤسّسون مدنا أخرى على غرار القيروان والكوفة والبصرة والفسطاط وفاس..

إزاء هذه المواقف الشعبيّة المشرّفة تقابلنا المواقف المخزية للنّخبة المتفرنسة وأيتام فرنسا ولقطائها من السّاسة والمفكّرين والإعلاميّين الذين استماتوا في الدّفاع عن أمّهم (العكري) وتبييضها من جرائمها تجاه الشّعب التونسيّ أثناء الحقبة الاستعماريّة: فسنة 2020 تقدّمت كتلة ائتلاف الكرامة في البرلمان بلائحة في شكل بيان سياسي باسم مجلس النوّاب تطالب فيها فرنسا بالاعتذار عن جرائم الاحتلال المقترفة في حق تونس والتونسيين طيلة أكثر من سبعة عقود من الاستعمار وتقديم تعويضات للدّولة التونسية وللضحايا التونسيين بالإضافة إلى نشر الأرشيف الاستعماري الذي تكتّمت عنه فرنسا وامتنعت إلى يوم الناس هذا عن عرضه للعموم أو حتى للبحث العلمي..وأثناء مناقشة اللاّئحة تجشّأ (نوائب) الشعب بما انطوت عليه مجارير أضغانهم من رخص وذلّ وعمالة وانبطاحيّة وعداء للهويّة، على غرار (سالم لبيض) الذي حوّل طلب الاعتذار إلى تركيا (لأن الاحتلال العثماني هو من أوصل تونس إلى الحماية) أو (عبير موسي) التي ألحّت على وجوب المحافظة على علاقاتنا بفرنسا (لأن لنا معها فائضًا تجاريًّا وتستوعب قرابة المليون عامل تونسي) أو (علي لعريّض) الذي اعتبر اللاّئحة (مضرّة بالمصالح العليا لتونس)..وقد تجاوزت التفاعلات أسوار البرلمان لتؤثّث البلاتوات التلفزية والإذاعية بما هو أقذع وأقذر لاسيّما على ألسنة فلول الدّساترة والتجمّعيين وبقايا (الحركي) الذين برهنوا بصفاقة عجيبة أنّهم فرنسيّون أكثر من فرنسا نفسها، على غرار وزير خارجيّة الباجي قائد السبسي (أحمد ونيّس) الذي اعتبر فرنسا الاستعمارية وما اقترفته من فظاعات بمثابة الأمّ الرّؤوم التي تُربّي ابنها التونسي غير الرّاشد وعلينا أن نردّ لها جميلها (فرانسا كيف كنّا في الجهل والتخلّف ربّاتنا وثقّفتنا وردّتنا دولة)..؟؟ وكما كان منتظرًا فقد أسقط البرلمان لائحة الاعتذار تلك بالضّربة القاضية وبشبه إجماع  والشّيء من مأتاه لا يُستغربُ: فما كان للاستعمار أن ينجح ـ بصرف النّظر عن موازين القوى ـ لو لم يكن في جزء من مكوّنات الشّعب المستعمَر قابليّة الخضوع للاستعمار..

بصرف النظر عمّن يقف وراءها والغايات السياسيّة المشبوهة الكامنة طيّها، فإنّ لهذه اللاّئحة ـ شئنا أم أبينا ـ بُعدًا رمزيًّا يضع كرامة الشّعب التونسي وشرفه في الميزان: فإسقاطها ـ بأي شكل ولأي سبب ـ يعني واقعيًّا وعمليًّا أنّ الشعب التونسي المسلم الأبيّ الذي ديست كرامته وانتُهكت أعراضه وامتهنت مقدّساته ومُسخت هويّته وصودرت ثرواته طيلة أكثر من سبعة عقود، قد فقد بوصلته العقائدية وتاه عن مركز تنبّهه الحضاري واستحال جثّة بلا روح فضرب صفحًا عن هذه المظالم والجرائم في حقّه واستكان إلى جلاّده وركن إلى ظالمه وذاب فيه وفقد أي إحساس بالعزّة والكرامة والسؤدد ورضي بالذل والهوان واعتبر كل تلك الفظاعات من باب (الحماية والترشيد والتأهيل) واستحال عرّابًا للاستعمار وناطورًا على (حقّه في ثرواتنا)..ناهيك وأن الصّحافة الفرنسية تلقّفت خبر سقوط اللاّئحة باحتفاء مبالغ فيه وأوّلته التّأويل السالف حيث علّقت جريدة (لوفيغارو) في صفحتها الأولى (التونسيّون يرفضون مطالبة فرنسا بالاعتذار) وهذه لعمري كبيرة في حقّ تونس القيروان والزّيتونة وشعبها أحفاد العبادلة والفاتحين: فالاحتلال الفرنسيّ الصليبيّ الاستعماريّ وإرثه المشين ارتبط في الضّمير الجمعيّ للتونسيّين بالدّم والمجازر المروّعة وبالسّعي المحموم لطمس الهويّة عبر الفرنسة والتنصير والتجنيس بما يؤكّد هذا الاعتذار ويضاعف من رمزيّته لاسيّما مع المواقف الفرنسيّة المتصلّبة: فرغم أنّها لم تتورّع عن مطالبة تونس بتعويضات ماليّة ضخمة عن المنشآت التي خلّفتها في البلاد والأراضي التي استصلحتها والأموال التي صرفتها أثناء الحقبة الاستعماريّة (هكذا ؟؟) إلاّ أنّها استكثرت هذه الأيّام على الشّعب التونسيّ مجرّد اعتذار شكليّ يجعلها في حلّ من جرائمها البشعة تجاهه. بل إنّ (مارين لوبان) رئيسة الجبهة الوطنيّة الفرنسيّة لم تتورّع عن تهديد سيف الدّين مخلوف بضرب تونس بالقنبلة النوويّة في حال أصرّ بجديّة على تحريك ملفّ الثروات المنهوبة من طرف فرنسا..

أ, بسّام فرحات

CATEGORIES
Share This