بعد تسعة أشهر من تنظيمه: مؤتمر الإستثمار “تونس 2020” تجديد لعقود الاستعمار بغطاء الاستثمار

بعد تسعة أشهر من تنظيمه: مؤتمر الإستثمار “تونس 2020” تجديد لعقود الاستعمار بغطاء الاستثمار

تعيش تونس منذ الثورة إلى اليوم عجزا وانهيارا كبيرين على المستوى الاقتصادي, عجز كاد يكون مزمنا في نَظر المسؤول الأوروبي الذي أشرف على تحويرات حكومية ووزارية عديدة, مُنِيَت جميعُها بالفشل والخروج من باب العاجزين, إلى أن قرر المسؤول الكبير الإشراف بنفسه عن تنظيم الطريق والسماح للبعض بالمرور إلى مكاتب الحكم لسدّ الشغور ورَفض البعض الآخر, بطريقة أو بأخرى. وكان ليوسف الشاهد الدور بعد فشل سبع حكومات استظلّت جميعها بظِلّ صاحب البيت الأوروبي, ولمّا علِمَ منها العجز أنها دورها أنزلها من الرّكح.

أشهُر وسنوات تعدّدت فيها صيحات الفزع من هنا وهناك, دون أن يُذكر السبب الفعلي الذي أفضى إلى هذه الحالة المعيشيّة الرثة, ما سرّعَ من وتيرة تهافت الناهبين على البلاد وفتح أبوابها من كل الجهات, فوُضِعت السِّيَرُ الذاتية على مكتب المسؤول.. وبعد نظر وتمحيص استقرّ الرأي على يوسف الشاهد رئيسا للحكومة “الجامعة” “حكومة الوحدة الوطنية”.. واشتغلت أبواق المساندة وانتصبت الأيادي المصفقة واصطفّ المبايِعون والمهنئون لتثبيت العرش الحكومي الهجين, وكان من أبرز خطوات إدخال الشاهد بالقوة وتقديمه للعلن هو ذاك

المؤتمر الدولي للاستثمار “تونس 2020” الذي نظّمته تونس في نوفمبر 2016 والذي حظي بدعاية إعلامية فاقت المعهود.

مؤتمر أعِدّت له كل الظروف واللوازم اللوجستية والسياسية والإعلامية لإنجاح عملية إقناع المشاركين فيه بجدوى المساهمة في دفع نسق الاستثمار -على حد قولهم حينها-, فأحِيطَ بهالة إعلامية كبيرة داخليا وخارجيا, وجنّدت كلّ المؤسسات العمومية والخاصة والمنظّمات, ورُوِّج على أنه المنقذ لتونس ومخرجها الوحيد من الأزمة الاقتصادية الخانقة.

 إنتفت الاختلافات والتقاطعات بين الأحزاب والسياسيين من حكام ومعارضة واتفقوا على تمرير رسائل وفاق وسياسي واجتماعي للزوّار وصدرت بيانات سياسية مساندة للمؤتمر ومشجعة لمثل هكذا مبادرة, وتمّ اعداد مجلة جديدة للإستثمار والتسويق لما تحتوية من قوانين منفتحة ومرنة تكفل فرصا أوسع للنجاح وتقلِّص من معوقات الاستثمار وتدفع به نحو نسق أسرع.

حصيلة المؤتمر: أموال طائلة ووعود بلا حدود

تلقّت حكومة الشاهد خلاله تعهّدات كثيرة ودعما وهبات قالوا أنّها كفيلة بتحقيق نسبة نموّ في حدود 4 بالمائة سنة 2017 مع احتمال بلوغ نسبة 7 بالمائة في أفق ثلاث سنوات.

وللتذكير بخلاصة المؤتمر فقط:
–  شارك فيه أكثر من 2000 فاعلا اقتصاديا تونسيا وأجنبيا وكان من المفترض _وفق ما قالوا حينها_ أن تنطلق تونس بمعيّة شركائها في إنجاز 64 مشروعا عموميا و34 مشروعا مشتركا بين القطاعين العام والخاص و44 مشروعا خاصّا تشمل عشرين قطاعا حيويّا في البلاد.

– تم توقيع اتفاقية بقيمة 10 مليار دينار وهو ثلث ميزانية الدولة وتعهّدت قطر بمنح تونس مليار و250 مليون دولار وتعهّدت باريس بضخّ 250 مليون أورو كلّ سنة على مدى خمس سنوات وتعهّدت تركيا بدعم تونس بـ600 مليون دولار منها ثلث كمنحة وثلث استثمار وثلث قرض عدا المساعدات العينية بالتجهيزات والآليات. كما تعهّدت الكويت بمنح تونس قرضا ميسّرا بـ 500 مليون دولار, فيما تعهدت كندا بـ 24 مليون دولار وتعهّدت السعودية بدعم قدره 800 مليون دولار من ضمنها هبة بـ100 مليون دولار. هذا وقّدمت سويسرا اعتمادات بـ250 مليون دينار لتشغيل الشباب على مدى خمس سنوات وأعلن البنك الأوروبي للاستثمار بتوفير تمويلات بقيمة 2500 مليون دولار على مدى خمس سنوات, إضافة إلى البنك العالمي بمليار دولار على مدى خمس سنوات, وأعلنت الشركة المالية العالمية (تابعة للبنك العالمي) عن توفير 300 مليون دولار لدعم القطاع الخاص, وأعلن الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي عن تمويل مشاريع عمومية في تونس بقيمة 3300 مليون دينار وغير ذلك من التعهّدات والمنح.

ذاب جليد الوعود ولم نرى منهم غير الوعيد

عجز بالأرقام

وعود تهاطلت من كل حدب وصوب وحصيلة أموال قاربت ال 15 مليار أورو, وفي المقابل تمر الأيام والأشهر وتنقشع غيوم الوعود فلا يبقى للشعب ما يتطلعون إليه غير الأوهام والمسكنات التي يجيد ساسة ما بعد الثورة استيرادها بإعانة من أصحاب القرار الدوليين. فلم يروا من نتائج غير اقتصاد شبه معدوم ودولة عاجزة حتى عن توفير شربة الماء, إن لم تكُن متورطة في قطعه عنهم خدمة لأصحاب مصانع التعليب (كما استنتج بعض المتبعين)

ولم يقوى بعض المسؤولين من داخل الحكومة على كتمان ما يخفى من سرّ ما نعيشه من كم هائل من تبعات عرض البلاد وتسليمها بين أحضان المستعمر, فصاروا يُحدّثون عن الأزمة التي تتفاقم حتى وصل الأمر بوزير التنمية والاستثمار ووزير المالية بالنيابة إلى الحديث عن عجز كلّي لدى المؤسسات ولدى الحكومة لصرف رواتب الأجراء.(وان كان ثمّة فرضية لوجود غاية أخرى من هكذا تصريح)

إضافة إلى البيانات التي نشرها المعهد الوطني للإحصاء, الخميس 10 أوت 2016 وكشف فيها ارتفاع العجز التجاري لتونس خلال الأشهر السبع الأولي من 2017 إلى 8628,0 مليون دينار مقابل 6856,3 مليون دينار خلال نفس الفترة من سنة 2016 رغم تحسن صادرات البلاد بنسبة 15,9 بالمائة ( 19128,9 مليون دينار) مقابل 16507,3 مليون دينار خلال 7 أشهر الأولي من 2016.

أضف إليه ارتفاع نسبة التضخّم إلى 5.6 بالمائة وهو ما سيؤثر سلبا على قيمة الدينار.

كما ارتفعت وتيرة الدَّين العام والدَّين الخارجي لتصل إلى 65 ٪ و73 ٪ من الناتج المحلي الإجمالي.

وتراجع الصادرات مع الجزائر وليبيا بنسبة 22,3 بالمائة مع الجزائر وبنسبة 10,7 بالمائة مع ليبيا. في حين سجّلت تطورا ايجابيا مع الإتحاد الأوروبي (والتي تمثل 75,4 بالمائة من جملة الصادرات) بنسبة 19,9 بالمائة, نظرا للارتفاع المسجل في الصادرات مع بعض الدول الأوروبية، منها إيطاليا بنسبة 26,8 بالمائة وألمانيا بنسبة 25,0 بالمائة وبلجيكا بنسبة 14,2 بالمائة.

– انقطاع متواصل للماء حتى عن المدن الكبرى لفترات طويلة, وانعدام كلّي لشبكات إيصال الماء في عديد المناطق السكنية الأخرى.

– إنهيار القطاعات الإنتاجية المحلية وتزايد تبعيّة تونس إزاء الخارج في تلبية حاجياتها الأساسية وعجزها عن تحقيق الحد الأدنى الضروري في مجال الأمن الطاقي والمائي وغيرها من الحاجيات الحيوية والضرورية للشعب, حتى ترى بأم عينيك الشركة التونسية للكهرباء والغاز غير قادرة على توفير متطلبات البلاد من الطاقة الكهربائية وتلجأ إلى اتسيراده من الجزائر.

مزيد من التّبعية

حافظ الساسة في تونس بعد الثورة على السياسة الاقتصادية نفسها التي كانت عليها البلاد من قبل مع الفار بن علي, خصوصا في كل ما له علاقة بارتباط البلاد بالخارج, بحجة التمسك بقاعدة استمرارية الدولة في احترام الالتزامات الدولية بما في ذلك تسديد الديون رغم الوضع المالي المتدهور, والفاقة التي يعيشها غالبية الشعب, ما أدّى إلى إنهيار التوازنات المالية الكبرى واستفحال المديونية الخارجية إلى معدلات خطيرة, ورغم ثقل الديون التي على عاتق الدولة أضاف مؤتمر السمسرة والإستعمار جرعات أخرى كبرى من القروض التي أجهزت على معنى الإستقلالية للدولة تماما,مؤتمر فتح السُّبل أمام الطامعين من غزاة الغرب وناهبيهم الدخول للتعشيش في مفاصلها, وخضوعها مجددا إلى البرامج “الإصلاحية” القصرية والهيكلية للمؤسسات المالية الدولية الاستعمارية, انتهاء بارتهانها لدى صندوق النقد الدولي وما فرضه من قيود وشروط استعمارية مجحفة أدت عمليّا إلى تجريد الشاهد وكل القائمين على الحكم في البلاد من أي صلاحيات. بل وزادت في تمادي صندوق النهب في إملاءاته حدّ المطالبة بخصخصة مؤسسات عمومية وطرد موظفين ورفع الدعم عن جملة من السلع, لتزيد من ضنك العيش لدى التونسي المنهوك جراء تلاعب المستهترين بشأنه وشأن البلاد على مرّ عقود. و قد هو ما أكّده الممثل الدائم لصندوق النقد الدولي، روبرت بلوتوفوغال، في حواره مع وكالة تونس افريقيا للأنباء، على هامش زيارة بعثة الصندوق لتونس من 26 جويلية الى 3 أوت 2017، بقوله: “إن تونس قد أحرزت تقدما في الإصلاحات الكبرى المرتبطة بالوظيفة العمومية والاصلاح الجبائي والصناديق الاجتماعية. كما تبدو الآفاق أفضل بالنسبة للاشهر القادمة لكن التحديات لازالت موجودة.”

لقد بان لكل ذي بصيرة أن مؤتمر الإستثمار لم يكُن سوى مائدة نُصبت على شرف لِئام المستعمرين الاقتصاديين, عُرِضت عليها تونس للبيع بالمزاد علنا, والأمَرَّ أنّه انتهى ببيعها بعقود ووعود واتفاقيات أغلبها وهميّة, مثله مثل عديد المسرحيات التي ألِّفت لإيهام التونسي بجنة الرأسمالية الموعودة التي لم تنبُت أشجارها بعد وقد أشرفت حكومة المهدي جمعة من قبلها سنة 2014 على تنظيم ندوة مشابهة تحت عنوان “الإستثمار في تونس … بداية الديمقراطية”. ولم تف بوعودها…وكأننا بتونس صارت مسرحا للفلكولور الحكومي, فقط بغية تجديد رُخص العبور لقطعان المستعمرين القدامى والجدد المتخفّين وراء شعارات الإستثمار ودعم تونس.

إن الذي كبّل تونس بديون لا طائل منها غير استحكام المستعمر وتثبيت حبائله فيها, وخَضَع لشهوات المتربصين بها من كل جانب, ولم يجد في نفسه حرجا في اللّعب بقلوب حالمة بدولة راعية لشؤونهم حريصة على أمنهم محققة لطموحاتهم, مواصلا خيانتها بتمكين كل من هبّ ودبّ من بائعي القرود الضاحكين, من الإمساك بشرايين الحياة فيها, ليجف ماء الحياة عن أهلها, ليس أهلا لأن يتولى أمرها ولا أقوَمَ له اليومَ من أمر غير التنحي قبل أن يدركه موج الثائرين بحقوقهم ولحقوقهم كما كان مع من سبقه في أيام قليلة خالية.

بقلم. أحمد بنفتبته

CATEGORIES
TAGS
Share This