قراءة في الأزمة المالية  العالمية وتداعياتها (الجزء الرابع)

قراءة في الأزمة المالية العالمية وتداعياتها (الجزء الرابع)

فيما سبق تمّ تحديد الأسباب التي تحمِل فشل النظام الرأسمالي, بداية من عقيدة المبدأ أو الأساس الفكري, إلى المشكل الاقتصادي .وقد توقفنا عند مشكلة الملكية :

ونُكمِل فنقول, ثالثا إشكالية الملكية : لا يقرّ النّظام الرّأسمالي إلّا نوعا واحدا من الملكيّة, وهي الملكيّة الفرديّة. وقد أطلق حريّة التملّك كعنوان عريض, وأزال كلّ القيود عنها, وهذا من أسباب فشل النّظام الرّأسمالي, لأنّه بذلك أوقف تداول المال بين الناس. وبالتالي, إنعدم التّوازن الاقتصادي في المجتمع, وذلك بسبب تكديس الثّروة عند المحتكرين. وساعد هذا الوضع على خلق الشركات الكبرى الرأسمالية التي تؤثّر في القرار السياسي, واشعال الحروب للسيطرة على مصادر الثروات وحيازتها بأي شكل وأي وسيلة كانت.

أما الإسلام, فيُبطل هذه الأساليب وهذه الكيفية في التملك أصلا, بطلانا تامّا. اذ يُقِرُّ إقرارا يقينيّا أنّ المال هو لله ,باعتباره الخالق ومالك الملك, وأن المال الذي أمدّ به البشر قد استخلفه عليه وبيَّن له سبل امتلاكه لكي يُحسن التصرّف فيه. فجعل لهم حق الملكيّة, وفق ضوابط محددة تجعل ذلك التملّك لا يمَسَّ من حقوق الآخر ولا يعطي لصاحبه الحق في كنز المال حتى لا تتعلق نفسه بحب الدنيا ومتاعها, على عكس النظام الرأسمالي الوضعي الذي يُقرّ بحريّة التملّك وفق مقدرة الأشخاص على قاعدة القوي يأكل الضعيف, ومن لا مال له لا شأن ولا حياة له.فحقّ الملكيّة في الاسلام جاء بالاستخلاف. فللبشر حق الملكيّة, لا الملكيّة الفعليّة. وبذلك يكون شرط الملكية, إذن الله بالتملّك. وبالتالي لا يمتلك المال, إلّا من أذن له الشّارع بتملّكه .وعلى هذا الأساس قُسّمت الملكيّة إلى ثلاث أنواع : ملكيّة فرديّة وملكيّة عامّة وملكيّة دولة.

أمّا في الأنظمة الرّسماليّة, فإن وجدت ملكيّة دولة, أو ما يُعرف بالتّأميم, فهذا ليس أصلي في هذا النّظام. بل هو بمثابة الحل من الحلول التّرقيعيّة التي تُعتمد لتجاوز بعض الازمات. ولمن يريد التثبُت ومعرفة حقيقة مفهوم ملكية الدولة عليه أن يعود إلى أسس النظام الرأسمالي كي يتيقن من خلوّه من هذا الصنف من الملكية. وقوامته على تركيز الثروة عند قلُة من الأفراد ذوي النفوذ المالي والسياسي.

رابعا: النّظام المصرفي والبنوك: تتشكّل البنوك عن طريق مؤسسات خاصة ,يملكها شخص أو مجموعة أشخاص, أو تتأسس بنظام الشّركات المساهمة. ويتكوّن رأس مال البنوك عن طريق ما يودعه النّاس من أموال, أي عن طريق منفعة الأموال, أو الرّبا. فتجمع الأموال من أيدي النّاس بفائدة منخفضة. وتقرضه لآخرين بفائدة مرتفعة. فالبنوك في النظام الرّأسمالي قائمة أساسا على الرّبا الذي هو من الكبائر في الاسلام. وله آثار مدمّرة .إذ أنّ البنوك و بسبب طبيعة معاملاتها, تجعل المال يتكدّس عند فئة قليلة, وهم الأغنياء. وتحرم منه بقيّةالناس, وهي الأكثرية. وذلك يتمّ عن طريق الرّبا, بحيث يُسحب المال من أيدي الناس لتُعطيه للفئة القادرة على الاستثمار و السّداد.

أمّا الشركات الرأسمالية ,فلها نفس التبعات التي تحدثها البنوك.وهي أساسا إنتاج الفقر وتكديس الأموال عند النافذين في الاقتصاد بقوة رأس المال. فعندما يُضارب المستثمر, فهو يُضارب بأموال النّاس المساهمين في الشّركة. وإذا ضاعت أموال النّاس, لا تَطال المسؤولية أموال الرأسماليين الخاصّة, فيأمنون الإفلاس. اذ تُعتَبر الشركات الحاكم الفعليّ للدّول الرأسماليّة.

هذه الأسس الأربع التي يرتكز عليها النّظام الرأسمالي, ولا بُدّ لها من أدوات لتحقيق السّيطرة منها ما سبق وذُكرنا, وهو التخلّي عن قاعدة الذّهب, وإصدار العملة الورقيّة دون غطاء ذهبيّ, وما نتج عن ذلك من تذبذبات في سعر الصّرف, وانعدام قيمة العملة. ومن أخطر الأدوات, تلك المؤسّسات والصناديق المالية الدولية, نخصّ بالذكر منها صندوق النّقد الدولي, الذي يفرض شروطه على الدول التي تلجأ إلى الإقتراض من عنده. وهذه الشّروط هي :

*تخفيض قيمة العملة

*إلغاء مختلف أشكال الحواجز الجمركيّة

*إعطاء الحريّة الكاملة لدخول رؤوس الأموال الأجنبيّة

*إلغاء الدّعم على جميع السلع الغذائية و المواد الضرورية لأنّها لا تساعد على تنميّة الناتج الداخلي الخام

*اتباع سياسة التقشّف

*تجميد الأجور والحد من التشغيل

*رفع الرقابة على الأسعار.

من الأدوات المثبتة للأسس الأربع, البورصات, والتي نشأت خارج نطاق الاقتصاد الحقيقي, الفعلي والمباشر. فالاقتصاد الحقيقي يكون فيه الانتاج الفعلي أو العيني أو السلعي مقابل المال. أمّا البورصات فهي قائمة على الدعاية و الربح السريع. ومادته الأسهم والسندات والعملات كركائز لتجارة وهمية.

في النهاية نخلص إلى مجموعة من الأفكار:

1- إنّ النّظام الرأسمالي قائم على مبدأ, باطل فكرته.وأسّس لنهضة خاطئة .وكلّ ما انبثق من هذا المبدأ من أفكار ومعالجات, جعلته مصدرا للأزمات التي تعاني منه شعوب العالم.

2- إنّ أرباب هذا النّظام يتعمّدون خلق الأزمات وذلك لتحقيق هدفين: ضمان الهيمنة و استعمارها للشعوب لضمان وضع يدها على الثروات والمقدرات. ومن هنا يمكن أن نتبيّن أنّ طريقة الرأسمالية في حمل فكرتها, وبسط هيمنتها هي الاستعمار, وان تغيرت الأساليب. أمّا الهدف الثاني فهو أساسا إيجاد الحلول لأزمات دول المركز في النظام الرأسمالي, بتصدير الأزمات إلى دول العالم.

3- إنّ هذه الأنظمة الرأسمالية القائمة اليوم والمتحكمة في مقدرات الناس هي أوهن من بيت العنكبوت, ورغم القوّة العسكريّة, والبطش بالكبير والصغير, فإن لها نقطة ضعف قاتلة, تتمثّل في وضعها الاقتصادي والمالي الذي لا يحمل حلولا لأزماته من تكون من جنسه وتقيه الإنهيار.

فمن هذه النقطة, يمكن القول بأن هاته الأنظمة آيلة للسقوط لا محالة, بعد أن يحصل فعلُ قَطع الحبل السرّي بينها وبين أسس ظلم الناس التي بداخلها, ولن يُقطع هذا الحبل إلّا بولادة دولة مبدئية تعيد تطبيق الاسلام كاملا. وتعيد للنظام النقدي العالمي عافيته, بإعادة قاعدة الذهب, وتقطع مع الربا و الأفكار المغلوطة. وتعمل على توزيع الثروات بالعدل الذي يفرضه الله.

معز بن ابراهيم

CATEGORIES
TAGS
Share This