هل الحقيقة نسبية؟
من الأفكار التي بنيت عليها رؤية الغرب للأمور والأشياء، فكرة النسبية. والنسبية رأي “يقول بأن الحقيقة نسبية، وتختلف من فرد إلى آخر ومن جماعة إلى أخرى، ومن وقت إلى آخر، وليس لها معايير موضوعية”. فهي في نظر الغربيين نظرية مضادة للدغمائيةDogmatism والتشكيكية Skepticism تقتضي البعد عن النزعة التوكيدية Determinism القطعية في الحكم على الآراء والأفكار والقناعات، وتنفي وجود فكرة أو مسلمة عقلية تمثل الحقيقة المطلقة ولا تقبل النقاش والنظر فيها. ويميّز الغربيون بصفة عامة بين صنفين أو نوعين من النسبية: فهناك نسبية عقل (Cognitive Relativism) وتعني النسبية في كلّ المعارف، وهناك نسبية أخلاق (Moral Relativism) وتعني نسبية المعايير الخلقية والمقاييس القيمية كالصواب والخطأ، والخير والشرّ، والحسن والقبيح. وتعتبر النسبية الثقافية من الأشكال الحديثة المبنية على النسبية الأخلاقية. أمّا فساد فكرة النسبية، وبطلان جعلها أساسا عاما يراعى في الحكم على الأشياء والأمور، فآت من جهات عدة منها:
- إنّ الحقيقة ليست مصطلحا يصطلح عليه كلّ قوم كيفما يشاءون، وليست فكرة مجردة يتأمل فيها الفلاسفة كما يريدون، وليست مفهوما حضاريا تختصّ به أمة دون الأخرى، إنما هي واقع معين عند البشر قاطبة مهما اختلفوا في التعبير عنه. وهذا الواقع هو كون الحقيقة عند كل البشر مطابقة الحكم أو الفكر للواقع الذي دل عليه. فلو رسمنا شكلا هندسيا له أربع أضلاع متوازية متساوية وأربع زوايا قائمة، وعرضناه على محمد وتوماس للحكم عليه، فإنّ التثبت من حقيقة حكمهما يكون بطريقة واحدة عند البشر قاطبة، وهي مطابقة حكمهما بواقع الشكل. فإن قال أحدهما أو كلاهما، إنه مربع، قلنا هذه حقيقة، وإن قال أحدهما أو كلاهما، إنه مثلث، قلنا ليست هذه الحقيقة، لأن الشكل الهندسي المرسوم ليس سطحا يحيط به ثلاثة خطوط. ولو قال علي: فلان بالبيت. وقال جيمي: فلان ليس بالبيت، فإنّ الحقيقة في مطابقة حكمهما للواقع، فإن كان فلان بالبيت، كان قول علي حقيقة، وإن لم يكن فلان بالبيت، كان قول جيمي حقيقة.
هذا هو مفهوم الحقيقة، فهو مطابقة الفكر للواقع الذي دلّ عليه بغض النظر عن طبيعة الفكر نفسه، سواء أكان فكرا محضا أو علميا أو منطقيا أو غيره.
أمّا مسألة مقياس اعتبار الحقائق والتوصل إليها والتفكير فيها، فتضبط بالنظر في مجالات البحث العقلي نفسه. ذلك، أنّ العقل الذي هو نقل الواقع إلى الدماغ بواسطة الحواس مع معلومات سابقة يفسر بواسطتها الواقع، يطلق أحكامه على الأمور والأشياء من حيث وجودها، وماهيتها وصفتها. فإذا كان الحكم العقلي متعلقا بوجود الشيء فإنه بلا ريب قطعي يقيني؛ لأنّ الحكم على الوجود جاء عن طريق الإحساس بالواقع، والحس لا يمكن أن يخطئ بوجود الواقع. وأمّا إذا كان الحكم متعلقا بماهية الشيء أو صفته، فيكون ظنيا فيه قابلية الخطأ؛ لأنّ الحكم على الماهية أو الصفة، يأتي من طريق المعلومات عن الشيء، أو تحليلات الواقع المحسوس مع المعلومات، وهي يمكن أن يتسرب إليها الخطأ. لذا كان هذا الحكم عرضة للتفاوت والاختلاف لتفاوت القدرات البشرية في التحليل، وفي كم المعلومات عن الشيء وكيفها. ومثال ذلك، لو سمعنا حسّ حركة فإننا نحكم قطعا بوجود متحرك، ولكننا لا نستطيع الجزم بماهيته ولا صفته، فقد يكون إنسانا وقد يكون شيئا أخر. وهذا هو مجال النسبية التي يتحدث عنها الغرب. إلاّ أنّ الإقرار بالنسبية لا يعني عدم وجود حقيقة، لأننا إذا طابقنا الحكم على واقعه أدركنا حقيقته، ولو حكمنا على المتحرك – كما في المثال المذكور – بأنه رجل أو حيوان من حركته، ثم طابقنا الحكم على واقعه المحسوس لدينا لأدركنا الحقيقة. لذلك، فإن وجود النسبية في الأحكام والأفكار لا ينفي وجود الحقيقة القطعية التي تلزم العقل بالتسليم بها.
- الخير والشرّ، والحسن والقبح، مسائل نسبية بمعنى أنّ العقل البشري متفاوت في الحكم عليها، فما هو خير عند قوم، قد يكون شرّا عند آخرين، وما هو حسن عند أمة، قد يكون قبيحا عند غيرها. وهو ما قررناه فيما سبق. وبغض النظر عن سبب التفاوت في النظرة إلى الخير والشرّ، والحسن والقبح، وهل مأتاه النفعية أو الفائدة كما يدّعي البرجماتيون، أم اختلاف اللغات كما يدّعي اللّسانيون، فإنّ المسألة هي في وجود مقياس يقاس به الخير والشرّ المطلق، والحسن والقبح المطلق. فالمسألة ليست في تقرير واقع لا يختلف فيه البشر، إنما في إيجاد مقياس يرفع اختلاف البشر. وبعبارة أخرى، إنّ التفاوت بين البشر في الحكم على الأمور والأشياء موجود، واختلاف نظرتهم إلى الخير والشرّ أو إلى الحسن والقبيح واقع قائم الذات، فهل من مقياس يزيل هذا التفاوت ويرفع هذا الخلاف أم لا؟ والجواب هو، أن نأخذ كلّ فكرة أو معالجة ونقيسها بالواقع لنتأكد من صدق معالجتها، وما تجرّه من خير أو شرّ على البشرية، فنأخذ فكرة اللواط والسحاق مثلا، باعتبارها قد أصبحت مطلبا لدى الغرب يعبّر عن قيمة تتمثّل في حرية الإنسان الشخصية، ونطابقها بالواقع لننظر في أثرها على الإنسان. والنتيجة أنّ فكرة اللواط والسحاق شرّ على الإنسان؛ لأنّ تشريعها، وتقنينها، واعتبارها خيرة مستحسنة يؤدي إلى انقراض الجنس البشري. إلاّ أنّ هذا المقياس رغم صدق نتيجته غير عملي، وغير دقيق، لأنه يقتضي النظر في كلّ فكرة فرعية، وهو أمر غير عملي، وليس بمستطاع الكلّ الالتزام به، فضلا عن كونه لا يؤدي دائما إلى رفع النزاع؛ لأنّ من الأفكار والمعالجات ما لا يمكن للعقل البشري الوقوف الجازم على حقيقة خيرها أو شرّها، وحسنها أو قبحها. لذلك فإنّ المقياس العملي الدقيق هو الرجوع بالمسألة إلى أصلها، ألا وهو لمن الحكم، للعقل أم لغير العقل؟ للإنسان أم لغير الإنسان؟
وقد يقال أيضا، إنّ العقل الغربي لا يعنيه البحث في مقياس تقرير الخير والشرّ المطلق، أو الحسن والقبح المطلق؛ لأنّه يرفض وجود مطلقات ويعتبر المسألة خاضعة لتواضع كل شعب على ما يراه خيرا وشرا، وحسنا وقبيحا، كما أنّها خاضعة للتطور البشري الذي يقتضي اختلاف القيم من زمن إلى آخر. والجواب عنه، هو أنّ عدم البحث في مطلق الخير والشرّ، ومطلق الحسن والقبح، غير وارد في حال التوافق، وأمّا في حال التعارض فلا مناص من بحثه وتحديد الأصوب، وهو أمر لا يتأتى إلاّ بوضع مقياس يرفع النزاع. فقد كان اللواط مثلا إلى حدود الثمانينيات من القرن العشرين عارا، ومرضا، وشذوذا في التصور الغربي، ثمّ أصبح الآن ونحن في بداية القرن الواحد والعشرين قيمة إنسانية بموجب الحرّية. وهذا وفق العقل الغربي أمر طبيعي اقتضته طبيعة التحديث في القيم والمفاهيم، لذلك فلا إشكال فيه عند الغربيين. ولكن، لا زال اللواط في تصور المسلمين، وغيرهم، عارا وشذوذا، الأمر الذي يوجد تعارضا بين رأيين، وصراعا بين فكرتين. ولكي نعيّن الصواب من الخطأ، ونحدّد الخير من الشرّ، والحسن من القبيح، لا بدّ لنا من بحث المسألة، وهو أمر لا يتأتى إلاّ بتعيين المقياس الذي يرفع النزاع. وعليه، فإن البحث في المطلقات، أو البحث في الحقّ والباطل، أو البحث في تحديد النظرة الصحيحة للخير والشرّ والحسن والقبح، بحث لا مناص منه.
- إنّ تعميم فكرة النسبية على الأشياء والأمور، آفة فتاكة تفتك بالإنسان والشعوب والدول. فالإنسان الذي يعيش حياته وفق نسبية تقتضي منه عدم الجزم بصدق عقيدته، ونظامه، وقناعاته، ومقاييسه، وغاياته، إنسان مبعثر الوجدان، مشتت الكيان، لا يتذوق معنى الوجود ولا ينعم بكنه الحياة. فهو لا يدري أيندم على دنياه إذا سعى لآخرته، أم يندم على آخرته إذا سعى لدنياه. والدول التي قامت على مبدأ نسبي ترى فيه بعض الحقّ وليس كلّه، دول لا يمكن أن تسود، وإذا سادت فلا يمكن أن تحافظ على سيادتها، ولا يمكن أن تدفع بشعبها إلى تحقيق السيادة والعظمة؛ لأنّها لا تدري أتدفع به ليموت على حقّ أم على باطل؟
إنّ الإنسان يحتاج إلى ما يجزم به، فيسير وفقه في الوجود مدركا لمعنى حياته، واعيا على غاياته، فاهما لقضيته، مطمئنا بكينونته وصيرورته. ولو نظرنا إلى واقع الإنسان، لوجدناه على غير النسبية، فهو يجزم بصدق مبدئه، ويقطع بصواب نظرته إلى الحياة، وها هي الأمم الغربية تحمل الديمقراطية إلى العالم، وتدافع عنها، وتحارب من أجلها، وتسعى لجعلها نظام العالم بأسره ولو بالإكراه والقوة، وهو أمر يدلّ على أنّ النسبية فكرة خيالية لا وجود لها في أرض الواقع. ثم لننظر إلى واقعنا، أليس فينا من يروّج للفكر الغربي ولنظرية النسبية وعدم وجود ما يسمّى بالحقّ المطلق ومع ذلك يسير نقده في اتجاه واحد وهو نقد الإسلام وحضارته ومفاهيمه وكأنه هو الباطل المطلق، فيبيح لنفسه الاستهزاء بالشعائر الدينية كشعيرة الأضحية زاعما أنها همجية، وفي الآن ذاته لا يقبل بنقد الحداثة أو بقيمها الإباحية والانتهازية التي أشقت البشرية، فأين النسبية في هذا؟
ورحم الله الشيخ الطاهر ابن عاشور القائل (في أصول النظام الاجتماعي): “معنى كون الإسلام حقائق أن ما يدعو إليه القرآن وكلام النبي صلى الله عليه وسلم الأمة من التعاليم بأسمائها ومعانيها المرادة له أمور متميز بعضها من بعض موجودة في نفس الأمر والواقع.فالعقائد الإسلامية وشرائع الإسلام وقوانينه حقائق تدركها العقول وتطبقها على الخارج فتجدها مطابقة للواقع. وهي كلها تحوم حول تقويم المجتمع الاسلامي أفرادا وجماعات في الاعتقاد والتفكير وفي الأعمال على أن يأخذوا بالحقائق وينبذوا التوهمات والتخيلات وما نسميه بالخرافات”.
ياسين بن علي