وثيقة المدينة أو الصحيفة أول دستور مكتوب في العالم

وثيقة المدينة أو الصحيفة أول دستور مكتوب في العالم

لا يختلف منصفان على أن طبيعة الصراع والعداء الغربي للدولة الإسلامية  دولة الخلافة ، كان السبب الرئيس لعزوف أكاديميو الغرب المعاصرين عن دراسة نظامها القانوني ، ولكن ما لا نفهمه حقا هو أن ينخرط أساتذة القانون العام ومنه القانون الدستوري من المسلمين في هذا الكره والتجاهل والإهمال ، ذلك أن الأمانة العلمية والموضوعية تقضي بأن تكون الدراسات في مستوى موضوع البحث ، ولا نخال في هذا المستوى بأن دولة حكمت البشرية أكثر من ثلاثة عشرة قرنا تكون الدراسات القانونية لها بهذا المستوى الهزيل .

وعلى هذا لم يعرف نظام دولة حكمت ثلاثة عشرة قرنا في رقعة  امتدت من المغرب الأقصى و بلاد الأندلس إلى الشرق الأدنى حتى تخوم ما يعرف اليوم بالصين الشعبية إهمالا أكاديميا و تجاهلا معرفيا كالذي عرفته دولة الخلافة، بل انعدمت الدراسات الحقوقية حتى من مجرد الدفع بقطيعة معرفية (ابستيمولوجية)  بطرح أسئلة من نوع:

– لماذا استمرت هذه الدولة تحكم العالم  ما يناهز الثلاثة عشر قرنا، و ما هو هذا النظام الذي وجد في بداية القرن السادس الميــلادي و الذي تداول على الحكم فيها خمس شخصيات من عائلات مختلفة خلال فترة زمنية لم تتجاوز الأربعين عاما هم : رسول الله صلى الله عليه و سلم و أبو بكر الصديق و عمر بن الخطاب و عثمان بن عفان و علي ابن أبي طالب رضي الله عنهم وأرضاهم ، وهل عرفت البشرية جمعاء نظاما قبل ظهور الدولة الإسلامية أو بعده و إلى حين وصول النظم الحديثة التي يتداول فيها على السلطة كمثل التداول على الحكم الذي وقع في تلك الفارقة التاريخية التي لم يعرف العالم قبلها و لا بعدها غير أسلوب توريث الحكم ؟

ومن هنا يتبين بأن الخطأ المعرفي الذي وقع فيه فقهاء ” القانون  الدستوري” إذا تحدثوا عن تاريخ بدء الدساتير المدونة هو تأكيدهم على أن أول الدساتير المكتوبة هو دستور فيلادلفيا في الولايات المتحدة الأمريكية الصادر سنة 1776 والدستور الفرنسي للثورة الذي كتب في سنوات 1789-1791م بوصفه  أول دستور فرنسي مدون.

 ونعتقد في هذا المستوى بأن هذا الموقف هو مغالطة تاريخية ومعرفية ، لأننا إذا رجعنا إلى تاريخ الدساتير المكتوبة ، نجد أن أول دستور مدون هو دستور المدينة الذي نشأ بمقتضى التعاقد السياسي الواقع في بيعة العقبة الثانية بين الرسول صلى الله عليه وسلم والأنصار.

   فلا يستطيع أي باحث في القانون الدستوري أن ينفي أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان قد بادر وبمجرد استلامه الحكم في يثرب إلى إصدار دستور مكتوب – وهو “الصحيفة ، أو ما يسمى بوثيقة المدينة “، وقد شكلت هذه الوثيقة وحدة قانونية متميزة عن غيرها وقائمة بذاتهـــا  entitée juridique *  *تحمل نظامها القانوني الخاص والمتكامل الذي يميزها عن سائر الأنظمة السياسية المعاصرة له أو السابقة عنه واللاحقة له .

ولهذا، فإن المنطق يفرض أن تكون نقطة الانطلاق في البحث عن نظام الدولة الإسلامية هو تاريخ بدايتها وبعثها للوجود، لا البحث عن نظامها القانوني في مختلف تمظهراته التاريخية عبر الأحزاب والعائلات القبلية والسياسية التي حكمت هذه الدولة ، لأن المتأمل في طريقة دراسة النظام القانوني للدولة الإسلامية يدرك بداهة أن صعيد البحث الذي استعمله الغربيون متناف تماما مع الطريقة العلمية المفترض اعتمادها وهي دراسة النظام من مصادره الأساسية المنشأة له ، لا اعتماد تاريخ الدول التي تداولت على الحكم بنظام الخلافة كقواعد وأساسات لدراسة هذا النظام .

دستور المدينة حكما شرعيا

إن صحبفة المدينة هي بلا ريب اول دستور مكتوب في العالم ، لأنها أول وثيقة في التاريخ اعتنت بنظام الحكم دون سواه، ولئن أحصى أفلاطون أكثر من مائة وخمسون دستورا إغريقيا،فإن ما أطلق عليها عبارة دستور كانت في معظمها قواعد قانونية تنظم العلاقات بين الأفراد والطبقات،أو كانت تنظم بعض الجوانب من أنظمة الحكم،أي لم تكن تشمل نظام الحكم بجميع قواعده التي تنظم علاقة الحاكم بالمحكومين ، والمحكومين بالحاكم ، والمحكومين ببعضهم البعض.وعلى هذا فالصحيفة هي الأولى وبدون منازع التي تسلطت على تنظيم الحكم ونظام الدولة .

إن نظام الحكم في الإسلام صادر من الكتاب والسنة وما أرشدا إليه ، ولذلك فإن القواعد الدستورية الإسلامية حددت الأحكام الشرعية للهيئات الحاكمة في نظام الدولة الإسلامية ، وحددت الإطار القانوني لنشاط هذه الهيئات مبينة الحقوق والواجبات لكل من الحاكم والمحكوم في إطار التعاقد على الحكم الذي موضوعه أو محله تطبيق أحكام الشرع ، وفي هذا الإطار الشرعي تتنزل وثيقة المدينة التي بينت لمن فاته التعاقد في العقبة الثانية مفهوم الدولة الإسلامية وأوضحت شكل هذا الكيان ونوعية الأحكام التي سيطبقها ومرجعها ، كما فصلت حقوق رعايا هذه الدولة وواجباتهم تجاهها ، ولذلك فقد مثلت “الوثيقة” السياسة الداخلية للدولة الاسلامية مع جميع رعاياها سواء كانوا مسلمين أو يهود أو وثنيين ، وهذا ما يطلق عليه في المنظومات القانونية المعاصرة بالقانون الدولي الخاص, وكذلك شكلت نظاماً موحدا وشاملا  للعلاقات الخارجية مع القبائل والشعوب والدول وهو ما يصطلح عليه بالقانون الدولي العام . وهكذا،فلقد نظمت الصحيفة جميع العلاقات ، فحددت السياسة الداخلية للدولة الإسلامية الناشئة وحددت مرجعيات الحكم مع جميع مكونات المجتمع الإسلامي الوليد ، كما ضبطت نظاماً متكاملاً للعلاقات الخارجية مع القبائل والشعوب والدول ، وبهذا كون الرسول صلى الله عليه وسلم باعتباره أول رئيس للدولة الإسلامية وحدة سياسية ونظامية لم تكن معروفة من قبل في سائر أنحاء الجزيرة العربية ، ومختلفة عن جميع الأنظمة السياسية التي تحكم العالم آنذاك، فتخلص بمقتضاها عن جميع أنماط الحكم السابقة .

ولعل الباحث في مجال الدستور في العهود الإسلامية يجد الحالتين متوفرتين في تدوين الدستور ، كما حدث في عهد الدولة العثمانية ، وعدم التدوين كما في عهد الراشدين مثلا ، وعلى كل حال فإن العصر النبوي مليء بالتطبيقات الدستورية التي يضيق المجال عن حصرها ، ولكن بشكل عام يمكن إجمالها بما أوحى الله سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم في كتابه من آيات ، وما ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم من سنن قولية وفعلية وتقريرية من أمور تتعلق بالحكم ، والإمارة ، والولاية،والملك والسلطان والسيادة  والقضاء  والحرب  والسلم  والمعاهدات وحقوق الأفراد و الحكام  وحقوق أهل الذمة والشورى  والبيعة والطاعة لأولي الأمر  والراعي  والرعية،كل هذه الأمور وما يدور في فلكها مما ورد في الكتاب والسنة من المسائل الدستورية سواء أكانت تطبيقات دستورية مباشرة ، أم أسسا يجري التطبيق على أساسها ، والسيرة النبوية مليئة بتلك التطبيقات لهذه الأسس فدستور الدولة الإسلامية منبثق من العقيدة الإسلامية ومحدود بها ولا تتحدد هي من خلاله.

ولهذا كان دستور المدينة حكما شرعيا واحب الاتباع في كل زمان ومكان، لأنه فعل من أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم فيدخل في المفهوم العام لسنته بوصفها كل قول أو فعل أو تقرير، أي أن دستور المدينة ينضوي  تحت طائلة الأحكام الشرعية الواجب فهمها وتمحيصها بغاية تطبيقها.

التراضي في الإسلام يشمل جميع أحكامه بما في ذلك الدولة والحكم

إن العقل هو قاعدة الإدراك الإنساني فهو مناط التكليف لأنه به يقع تمييز بين الخطأ والصواب ، وعليه فإن الإسلام والإيمان به هو عقد بين الخالق والمخلوق الذي قبل باتباع ما خيره فيه الله فاختار الإيمان على الكفر ، وهو بهذا الإيمان والتسليم مطالب بتنفيذ موجبات هذا العقد المتمثلة في  الانصياع لأوامر الله ونواهيه لقاء الجنة والنجاة من العذاب

فهذه هي أركان عقد الإسلام ذلك أن المولى عز وجل خير بواسطة أنبيائه ورسله الإنسان بين الإيمان به واتباع رسله أو الجحود والكفر،”إننا سمعنا مناديا ينادي لللغيمان ،فآمنا..” فكان التراضي على موضوع عقد الإيمان أو محله بلغة القانون والفقه هو الاتباع والانصياع لأوامر الله ونواهيه مقابل الجزاء والعقاب،وهذه القاعدة الأساسية للرضا وطيب الخاطر باعتبارهما تعبيرا عقليا خاصا بالإنسان لأنه مناط تكليفه من خالقه، قد انبنى عليها فاصطبغت بها تشاريع الإسلام في جميع كلياته و جزئياته

ويختلف الإسلام عن بقية الديانات بأنه الدين الخاتم الذي بين الله فيه جميع أنظمة الحياة للإنسان ، ولذلك ومنذ بداية الدعوة كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول لقريش قولوا كلمة واحدة تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم ..فهذه الرسالة أفصحت ومنذ أيام البعثة الأولى بأنها رسالة نبوة وحكم وأنها جاءت لتغير العلاقات البشرية القائمة بعلاقات بديلة محددة في الكتاب والسنة،وإذا كان الاختيار هو أساس الإيمان وانعقاده أي الإيمان يرتب التزامات عليه لقاء رضوان الله ، فإن التعاقد على الحكم والدولة وهي  التي لا يتم الإسلام إلا بها بناء على القاعدة الأصولية القائلة بأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب كان هو الأساس والقاعدة لقيامها .

 ولهذا نفهم أساس الطبيعة التعاقدية للإيمان بالرسالة المحمدية، فالذي يقبل بعرض النبي صلى الله عليه وسلم فيؤمن ، فإنه مطالب بتنفيذ موضوع التعاقد لقاء نيل رضوان الله ، وعلى هذا قامت  جميع التزامات المسلمين سواء كانت عقودا أو طاعات فالإسلام يدعوا إلى الوفاء بجميع العقود والعهود والنذور والأيمان بل وإلى الوفاء بكل التزام بما في ذلك النوافل والمندوبات والطاعات ( قليل دائم خير من كثير منقطع )..يقول صلى الله عليه وسلم : قل آمنت بالله ثم استقم .

إن الإنسان المسلم يطبق الإسلام من تلقاء نفسه وبدافع تقوى الله، وغير المسلم عليه القبول بحمل تبعية الدولة وذلك بالالتزام بقوانينها ، أما الدولة فوظيفتها هي السهر على هذا التطبيق والقيام عليه ، فلكي نفهم الطبيعة التعاقدية للحكم في الدولة الإسلامية فذلك لا يتم إلا بفهم هذه الدولة وكيفية تنفيذها للأحكام الشرعية المتصلة بالحكم،لأن الذي يقبل بالعيش في ظلها،  فإنه مطالب بالإذعان إلى جميع أنظمة الحياة الإسلامية.

وعلى هذا فإن الدستور هو القانون الأساسي للدولة وهو عبارة عن مجموعة من القواعد القانونية المنظبطة  التي تبين شكل الدولة ، ونظام الحكم فيها ، وكيفية ممارسة سلطتها إزاء منظوريها ، والحقوق التي لهم عليها والواجبات التي لها عليهم ، ولهذا فهذا المفهوم العام للدساتير يختلف بحسب مفهوم الدولة ، فإذا كانت الدساتير الوضعية أصلها بشري فتعتبر أن القواعد الدستورية تعلو جميع القواعد القانونية الأقل منها درجة ، فإن المفهوم الإسلامي يعتبر أن مصدر هذه القوانين سواء كانت دستورية ( تعنى بالحكم ) أو عادية  هو أصل واحد هو الخالق  تبارك وتعالى،وبالتالي فهو جزء من كل وهو حكم شرعي يجب تطبيقه ولا يمكنه بأي حال من الأحوال ان يعلو أي قانون إلاهي آخر لأن لها نفس المنزلة فهي خظاب الشارع المتعلق بأفعال العباد .

ومن هنا كان التعاقد على الحكم كيفما جسمه الرسول صلى الله عليه وسلم في بيعة العقبة الثانية مع وفد الأنصار، هو الذي أسس بموجبه الدولة الإسلامية بمجرد وصوله إلى المدينة، فوقع في هذه البيعة تصدير الإيجاب منه صلى الله عليه وسلم ( فقد روى الإمام أحمد في مسنده عن جابر:” مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين يتبع الناس في منازلهم في المواسم بمنى وغيرها يقول : من يؤويني ، من ينصرني حتى أبلغ رسالات ربي وله الجنة ، حتى بعثنا الله له من يثرب فصدقناه ، وبايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة النساء ( وهذه بيعة العقبة الأولى ) ..فرحل إليه منا سبعون رجلا فوعدناه ( وهذه بيعة العقبة الثانية والتي تسمى ببيعة الحرب ) فقلنا علام نبايعك ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : على السمع والطاعة في النشاط والكسل ، وعلى النفقة في العسر واليسر وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وعلى أن تنصروني إذا قدمت عليكم يثرب فتمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ولكم الجنة ..” فكان قبول الأنصار بهذا العرض بعد مختلف المناقشات التي حصلت في الأثناء والتي اشترط فيها الرسول صلى الله عليه وسلم لنفسه والأنصار لأنفسهم حتى قال لهم صلى الله عليه”بل أسالم من سالتم وأحارب من حاربتم “. فقبلوا بعد أن تعرفوا وتمعنوا جيدا محل العقد أي موضوعه فبايعوه على هذه الشروط وبذلك تم التعاقد على الحكم بينه وبين القادرين على إنفاذ حكم لإسلام .

وثيقة المدينة عقد لجميع رعايا الدولة الإسلامية

لما كان أساس الإسلام الفهم والرضاء لم يكتف صلى الله عليه وسلم ببيعة العقبة الثانية التي استلم بها حكم مدينة بثرب،لأن بقية سكان المدينة كانوا غيرا عن هذا العقد،ولذلك لم يثنه وصوله كحاكما لهذه الدولة الفتية عن مواصلة إنفاذ طريقة الإسلام في الخطاب وهي التراضي،فإصدر دستور أو الصحيفة التي نظمت علاقة الحاكم بالمحكوم وعلاقة المحكومين ببعضهم وعلاقتهم بحاكمهم .

بمقتضى هذا العقد الحقيقي وليس الإفتراضي كما هو شأن العقد الاجتماعي الذي يتباهى به الغرب ، وضع صلى الله عليه وسلم دستور المدينة  الذي جاء فيه أن المؤمنين والمسلمين من قريش و يثرب أي المهاجرين و الأنصار ومن تبعهم ولحق بهم وجاهد معهم -أي من أمضى وصادق اختيارا على عقد البيعة فارتضى أن تترتب آثاره عليه كمثل من أنجزوه مع النبي في العقبة الثانية- فإنهم أمة واحدة من دون الناس،و بأن اليهود أمة مع المؤمنين فهم آمنون كذلك على دينهم وأموالهم  وأعراضهم – يقرهم على دينهم ويعتبرهم من رعايا هذه الدولة كالمسلمين -، و بأن يثرب حرام جوفها و بأن من خرج منها فهو آمن – أي أن الذي لم يقبل بهذا التعاقد وهذا الدستور يمكنه الخروج من المدينة وهو آمن فلا يغصب على حمل التبعية لهذه الدولة ولا الانتماء لهذه الأمة – ثم وفي الأخير ذكر بالركن الأساسي للتعاقد السياسي في بيعة العقبة الثانية  المتمثل في أن السيادة للشرع  بقوله ” وأنه مهما اختلفتم فيه من شيء فمرده إلى الله ورسوله

بلا مراء فإن هذه الصحيفة هي وثيقة دستورية بالغة الأهمية  بما احتوته من تنظيمات كاملة لنظام الحكم في الدولة ،حيث تميزت بصياغة قانونية شاملة ودقيقة لا مجال للاختلاف حول مفاهيمها وتطبيقاتها ، لذلك فإن أي مطلع منصف على مناهج البحث في القانون الدستوري يمكن أن يعد هذه الوثيقة أهم واقعة دستورية في التاريخ الإنساني،وهي البداية الحقيقية والفعلية والأولى لتدوين الدساتير ، فعن طريق مصادقة الذين فاتهم التعاقد الأول الواقع بين الرسول صلى الله عليه وسلم والقادرين على إنفذ الحكم من أهل المدينة وهم الأنصار ، توصل الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم إلى تأسيس دولة كانت طفرة في تاريخ الأمم والشعوب والقبائل والدول في ذلك الزمن فكانت  وحدة سياسية ونظامية لم تكن معروفة من قبل في التاريخ الانساني ، ذلك أنه وحد مجموعة بشرية مختلفة الأعراق والديانات في دولة واحدة تنتظم العلاقات فيها بنظام الإسلام فقط ، فوقع إلغاء جميع النعرات الطائفية والعرقية والقبلية والدينية من تنظيم الحياة وجعل الولاء فقط للدولة وحاكمها ، في حين حافظ على الارتباطات المصلحية بين المجموعات البشرية فاعترف بالقبائل وبمواليها ومعاهديها وأقر لمعتنقي الديانات أديانهم في معاملات الشخصية فيما بينهم .

الأحكام الدستورية للوثيقة

هي اكثر من أن تحصى أو تعد ، لأنها كانت شاملة كاملة، ولعل المخلصين من أساتذة القانون الدستوري من الأمة الإسلامية قادرين على استخراج القواعد الدستورية التي لم تصل إليها إلى حد الآن دساتير العالم ،وعلى كل حال، فقد احتوت هذه الوثيقة على عدة أحكام دستورية أهمها ما يلي :

1 – الإعلان عن قيام الدولة الإسلامية ، وأن شعبها يتكون من : مهاجري مكة وأنصار المدينة ، مضافا إليهم كل من أبدى استعدادا للتبعية لهذه الوحدة ، وخضع لقيادة دولتها من الأقليات الأخرى القاطنة المدينة كما في الفقرة (1) ، والفقرة (2)

2 – نصت الوثيقة على إمكانية الانضمام إلى الدولة الإسلامية ، وهذه قاعدة دستورية مازال العمل يجري به إلى يومنا هذا،ولعلها أول وثيقة في التاريخ تقر هذا القاعدة في الفقرة (1) والفقرة (17).

3 – نصت الوثيقة على قواعد في التضامن بين أفراد المجتمع الإسلامي بغض الطرف عن اعراقهم او دياناتهم   الفقرات من (3) إلى (13)

4 – نصت الوثيقة على إقامة العدل ، وتنظيم القضاء ، ونقله من الأفراد والعشيرة إلى الدولة دون محاباة ، ودون السماح لأحد بالتدخل وتعطيل القانون ، كما في الفقرة (14)

5-  قررت الوثيقة مبدأ شخصية العقاب كما في الفقرة (46) والفقرة (56) .
6 – أوردت الوثيقة نصوصا في تحديد وضعية الأقليات الدينية ، كما في الفقرات (71) ، (26) ، (27) ، (43) ، (44) ، (53)

7 – أوردت الوثيقة نصوصا في بيان الحقوق ، كالحق في الحياة،كما في الفقرة (23)، وحق الملكية ، كما في الفقرة (58) وحق الأمن وحرمة المسكن ،والحق في التنقل ، كما في الفقرتين (47) ، (58)

 8- أوردت الوثيقة نصوصا في بيان الحقوق كحق احترام عقيدة الآخرين ، وعدم الإكراه في الدين ، كما في الفقرة (27) ، وبالتناصح والحق في التعبير وذلك عن طريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، كما في الفقرة (45)

9 – حددت الوثيقة نوعية العلاقات الرابطة بين أفراد المجتمع الإسلامي  في الدولة الناشئة ، وهو الإسلام فقد نصت الفقرة(2) ، من الوثيقة على أن المسلمين أمة من دون الناس ، وليس معنى ذلك حصر التبعية في المسلمين وحدهم ، بل نصت الوثيقة على اعتبار اليهود المقيمين في المدينة من رعايا الدولة الإسلامية  ، فبينت حقوقه وواجباتهم (1) ، كما في الفقرات من (27) إلى (41)

10 – عينت الوثيقة أن حق التبني هو لرئيس الدولة الإسلامية وأنه الوحيد الذي رأيه يرفع الخلاف  الفقرات(25)و(39)و(50) وبذلك فلقد ضبطت الصحيفة سلطة تفسير النصوص

11 – قررت الوثيقة قاعدة المساواة كما في الفقرات(16)،(18)،(20)،(53)،(54)،فالناس سواء في الحقوق والواجبات أمام قانون الدولة التي يحملون تبعيتها.

12 – نصت الوثيقة على عدم جواز إبرام الصلح المنفرد مع أعداء الأمة ، كما في الفقرة رقم (18)

13 – نصت الوثيقة على مبادئ غير سياسية أو غير دستورية أصلا ، وذلك لإعطائها أهمية ومكانة ، ولإلزام أطراف هذه الوثيقة بالنزول على حكمها ، وذلك لإعطائها سمو ومكانة ليست لأحكام القانون العادي ، ولمنحها شيئا من الثبات على الأقل في فترة النشأة والتكوين ، وذلك لأهميتها حين وضع الوثيقة ، كما في الفقرات (23)،(24)،(46)،(26)،وهذا أمر متعارف عليه حاليا في الدساتير الحديثة

14- أقرت الوثيقة واعترفت بالارتباطات التي قامت على أساس المصلحة الاقتصادية والعرقية والدينية قبل الإسلام  كما في الفقرات (3) وما بعدها ، وهذا يعطي لكل العاملين على إستئناف الحياة الإسلامية على فهم المسائل الواقعية الموجودة في دولة المجال وتحديد كيفيات التعامل معها ، ذلك ان الإسلام لم ينكر وجود العرق والأجناس والديانات الأخرى ولم يسعى لإلغائها لأن الاجتماع ضروري ولازم لحياة يقول تعالى : يا أيها الناس إنا جعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا،إن أكرمكم عند الله أتقاكم ).

 والحقيقة أن هذه الوثيقة جاءت واضحة في نصوصها على غير مثال سبقها،وشملت نصوصها أغلب ما احتاجته الدولة الناشئة في تنظيم شؤونها السياسية ، وتتضح دقة صياغة هذه الوثيقة ، من خلال النظر في نصوص المعاهدات الدولية،والدساتير في العصر الحديث،وما تثيره نصوصها من خلاف في المعنى والتطبيق والتفسير والتأويل، فقاعدة رأي الإمام يرفع الخلاف التي تفرد بها التشريع الإسلامي عن غيره من التشاريع هي قاعدة مركزية في تحديد طراز الحكم في الدولة الإسلامية دولة الخلافة

ولأن الأمة الإسلامية تخلصت نهائيا من عقدة الانبهار بالغربي بعد أن جربت عليها جميع أشكال الأنظمة المهجنة والمعدلة جينيا وسامتها سوء العذاب ، فلقد أدركت بأن ضعفها لم يكن بسبب افتقاد العلوم أو الثروة أو التكنولوجيا ، بل كان بسبب تعطيل العقيدة الاسلامية عن دورها في انتاج الحلول الفكرية والمعالجات. و يتميز الدستور في النظام الإسلامي بعدم الالتزام بالتدوين لقواعده وأحكامه ، أو عدم التدوين ، لأن الأحكام الثابتة للنظام الدستوري الإسلامي معروفة ومستقرة في الكتاب والسنة والإجماع ، والأحكام المتغيرة قد تدون في وثيقة أو عدة وثائق ، أو تكون عرفية في حالة استقرار العرف الدستوري على جريان هذه الأحكام والقواعد .

وإذا كنا قد أوردنا هذا البحث في هذا التاريخ العظيم وهو تاريخ قيام الدولة الإسلامية ، فإن الهدف من ذلك لم يكن بغاية التبجح والتفاخر بأن الصحيفة هي دستور بالمعنى الحديث للدساتير لدفع الصغار الذي يشعر به الحقوقيون من أبناء المسلمين عند حديثهم عن دولة الإسلام  ، ولا بغاية التباهي بان للإسلام دولة عظيمة ومتطورة كما يفعل الكثير من أبناء هذه الأمة للدفاع عن إشعاع دولة الإسلام وريادتها وقيادتها للعالم ، بل لنفصل ونبين واقع الحكم في الدولة الإسلامية كما هو وبأنهم تجاهلوه وحاربوه في مناهجهم التعليمية فحادوا عن الموضوعية العلمية ، لأنهم لو فهموا دولة الخلافة الفهم العلمي الموضوعي الصحيح وتخلصوا من عداوتهم للإسلام وعقدهم تجاه المسلمين لأدركوا  بأنه يلزم هذا الغرب المسيطر على مقدرات هذه الأمة وعلى قراراتها بالتعمية والتضليل والمخادعة  ، قرونا أخرى من البحوث والتجارب على البشرية التي أضنوها حتى يدركوا عظمة هذا الدين وعظمة دولته دولة الخلافة،وبأن الأرض بدون الخلافة كالجسم من دون روح .

الأستاذ عماد الدين حدوق

 

نص الصحيفة

 بسم الله الرحمن الرحيم

1 – هذا كتاب من محمد النبي ، بين المؤمنين من قريش ويثرب ، ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم2 – إنهم أمة واحدة من دون الناس3 – المهاجرون من قريش على ربعتهم (أي  حالتهم وشأنهم ، والمعنى : الحال التي جاء الإسلام وهم عليها) ، يتعاقلون (من العقل وهو الدية ، المعاقل : الديات واحدتها معقلة) بينهم وهم يفدون عانيهم (العاني : الأسير) بالمعروف والقسط بين المؤمنين 4 – وبنو عوف على ربعتهم ، يتعاقلون معاقلهم الأولى ، وكل طائفة تفدي عانيها بالقسط والمعروف بين المؤمنين،6 – وبنو الحارث على ربعتهم ، يتعاقلون معاقلهم الأولى ، وكل طائفة تفدي عانيها بالقسط والمعروف بين المؤمنين 7 – وبنو جشم على ربعتهم ، يتعاقلون معاقلهم الأولى ، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين 8 – وبنو النجار على ربعتهم ، يتعاقلون معاقلهم الأولى ، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين 9 – وبنو عمرو بن عوف على ربعتهم ، يتعاقلون معاقلهم الأولى ، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين 10 – وبنو النبيت على ربعتهم ، يتعاقلون معاقلهم الأولى ، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين 11 – وبنو الأوس على ربعتهم ، يتعاقلون معاقلهم الأولى ، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين 12 – وإن المؤمنين لا يتركون مفرحا (المثقل بالدين ، وتروى بالجيم ، وهي بنفس المعنى ) بينهم أن يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل 13 – وإن لا يحالف مؤمن مولى مؤمن دونه 14 – وإن المؤمنين المتقين على من بغي منهم أو ابتغى دسيعة (العظيمة ، وهي في الأصل : ما يخرج من حلق البعير إذا رغا ، وأراد بها هنا : ما ينال عنهم من ظلم) ظلم ، أو إثم أو عدوان ، أو فساد بين المؤمنين ، وإن أيديهم عليه جميعا ، ولو كان ولد أحدهم15 – ولا يقتل مؤمن مؤمنا في كافر ولا ينص كافرا على مؤمن 16 – وإن ذمة الله واحدة ، يجير عليهم أدناهم ، وإن المؤمنين بعضهم موالي بغض ، دون الناس 17 – وإنه من تبعنا من يهود ، فإن له النصرة والأسوة ، غير مظلومين ولا متناصرين عليهم18 – وإن سلم المؤمنين واحدة ، لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله ، إلا على سواء وعدل بينهم19 – وإن كل غازية غزت معنا ، يعقب بعضها بغضا (أي يتناوبون فإذا خرجت طائفة غازية ثم عادت تكلف أن تعود ثانية حتى تعقبها أخرى غيرها. 20 – وإن المؤمنين يبيء (يبيء : من البواء وهو المساواة) بعضهم عن بعض بما نال دماءهم في سبيل الله 21 – وإن المؤمنين المتقين على أحسن هدي وأقومه 22 – وإنه لا يجير مشرك مالا لقريش ولا نفسا ، ولا يحول دونه على مؤمن23 – وإنه من اعتبط (اعتبطه : أي قتله بلا جناية توجب القتل) مؤمنا قتلا عن بينة ، فإنه قود به ، إلا أن يرضى ولي المقتول ، وإن المؤمنين عليه كافة ، ولا يحل لهم إلا قيام عليه 24 – وإنه لا يحل لمؤمن أقر بما في هذه الصحيفة ، وآمن بالله واليوم الآخر أن ينصر محدثا ، أو يؤويه ، وأن من نصره فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة ولا يؤخذ منه عدل ولا صرف25 – وإنكم مهما اختلفتم فيه من شيء فإن مرده إلى الله عز وجل والى محمد صلى الله عليه وسلم 26 – وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين 27 –  وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين ، لليهود دينهم ، وللمسلمين دينهم مواليهم وأنفسهم ، إلا من ظلم وأثم ، فإنه لا يوتغ (يوتغ : يهلك) ، إلا نفسه وأهل بيته.28 – وإن ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف29 – وإن ليهود بني الحارث مثل ما ليهود بني عوف 30 – وإن ليهود بني ساعدة مثل ما ليهود بني عوف31 – وإن ليهود بني جشم مثل ما ليهود بني عوف 32 – وإن ليهود بني الأوس مثل ما ليهود بني عوف 33 – وإن ليهود بني ثغلبة مثل ما ليهود بني عوف ، إلا من ظلم وأثم ، فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته34 – وإن جفنة بطن من ثعلبه كأنفسهم 5 – وإن لبني الشطبية مثل ما ليهود بني عوف 36 – وإن البر دون الإثم 37 – وإن موالي ثعلبة كأنفسهم 38 – وإن بطانة يهود كأنفسهم 39 – وإنه لا يخرج منهم أحد إلا بإذن محمد صلى الله عليه وسلم 40 – وإنه لا ينحجز على ثار جرح (الحجز : المنع ، وحجز عليه ماله أي حبسه ، وفي الحديث لأهل القبيلة أن يتحجزوا الأدنى فالأدنى ، أي يكفوا عن القتال41 – وإنه من فتك فبنفسه فتك ، وأهل بيته ، إلا من ظلم42 – وإن الله على أبر هذا أي علي الرضا به 43 – وإن على اليهود نفقتهم ، وعلى المسلمين نفقتهم 44 – وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة 45 – وإن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم 46 – وإنه لا يأثم امرؤ بحليفه ، وإن النصر للمظلوم 47 – وإن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة 48 – وإن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم 49 – وإنه لاتجار حزمة إلا بإذن أهلها (أي لا تعطى ذمة ولا عهد ، والمراد بالحرمة هنا الجوار ، فلا يجير الجار مستجيرا إلا بإذن مجيره50 – وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده ، فإن مرده إلى الله عز وجل ، وإلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم 51 – وإن الله على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبره .52 – وإنه لا تجار (أي لا تعطى عهدا ولا ذمة ، والذمة الأمان) قريش ولا من نصرها 53 – وإن بينهم النصر على من دهم يثرب وإذا دعوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه ، فإنهم يصالحونه ويلبسونه 54 – وإنهم إذا دعوا إلى مثل ذلك فإن لهم على المؤمنين – إلا من حارب في الدين – على كل أناس حصتهم من جانبهم الذي قبلهم 55 – وإن يهود الأوس ، مواليهم وأنفسهم على مثل ما لأهل هذه الصحيفة مع البر المحض من أهل هذه الصحيفة56 – وإن البر دون الإثم ، لا يكسب كاسب إلا على نفسه57 – وإن الله على أصدق ما في هذه الصحيفة وأبره 58 – وأنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم وآثم وأنه من خرج آمن ومن قعد آمن بالمدينة ، إلا من ظلم أو أثم 59 – وإن الله جار لمن بر واتقى ، ومحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم . انتهى نص الوثيقة (عن كتاب أول دستور أعلنه الإسلام ، د . أكرم العمري ، ص 39 – 40.

 

نقلا عن *( د . محمد حميد الله – مجموعة الوثائق السياسية في العهد النبوي والخلافة الراشدة)..

CATEGORIES
TAGS
Share This