حملة عالميّة (لإصلاح) التّعليم : تونس نموذجًا…

حملة عالميّة (لإصلاح) التّعليم : تونس نموذجًا…

حدّث أبو ذرّ التونسي قال: صبيحة يوم الثلاثاء 24/10/2017 وبمقرّه (فضاء دار السيّدة)، نظّم المعهد العربي لحقوق الإنسان بالاشتراك مع البنك الدّولي بتونس مائدة مستديرة حول (التعليم في تونس وتجارب الإصلاح)، وذلك بحضور ممثّلين عن (شبكة عهد للثقافة المدنيّة) ووزارة التربية والاتحاد العامّ التونسي للشغل إلى جانب عدد من أعضاء اللّجنة الفنيّة المتخصّصة في إصلاح التعليم…وقد قدّم (عبد الباسط بن حسين) رئيس المعهد العربي لحقوق الإنسان بسطة حول دور المعهد ـ مُمثّلاً في شبكة عهد للثقافة المدنيّة ـ في تطوير التّعليمين الرّسمي والشّعبي بتونس متوقّفاً عند أهمّ محطّات مشاركته في تحديث المنظومة التربويّة…كما قام (مايكل درابل) المكلّف بمشاريع التّربية بالبنك الدّولي بتونس بتقديم تقرير التّنمية في العالم لسنة 2018 مركّزًا على قطاع التعليم…في نفس الأسبوع (السّبت 28/10/2017) وفي نفس السّياق، عقدت جمعيّة (مونتيسُّوري لشمال إفريقيا) مؤتمرها الأوّل للتّعريف بنشاطها ودورها في تطوير المناهج التربويّة في تونس وأسلوبها الذي يعتمد أساسا على صناعة الذكاء، وذلك بمركز التّكوين التّابع لها على ضفاف البحيرة (03) وبحضور ثلّة من الضيوف من أوروبا وأمريكا وآسيا …هذا الحراك المنظّماتي الجمعيّاتي الدّولي والمحلّي بما يعتمل فيه من خضم تربوي نقّابي حقوقي اقتصادي مالي…يحرّك فينا ماكنة الشكّ المنهجي طريقًا إلى اليقين، ناهيك وأن الإطار الذي يتنزّل ضمنهُ   ـ كمًّا وتوقيتًا وأطرافًا ومضمونًا ـ مُريب ومشبوه وغير بريء…

إطار مشبوه

إنّ وقوع هذين الحدثين المتعلّقين بنفس القضيّة بشكل متزامن في نفس الأسبوع دونما دواعٍ ملحّة تستوجب ذلك، يُعدّ في حدّ ذلك مؤشّرًا قويًّا على وجود حملة منظّمة منسّقة تستهدف التّعليم وليس مجرّد حدث مناسباتي عابر معزول…كما أنّ طبيعة الطّرح انزاحت بتلك الحملة عن السّياق المحلّي نحو العولمة والتّدويل وأدرجتها في خانة ذاك الجحر ـ الذي لطالما لُدغنا منه نحن المسلمين ومازلنا ـ ألا وهو (التجديد والتطوير والإصلاح والتّحديث…): فمؤتمر جمعيّة (مونتيسوري) رفع شعار (تربية جديدة لعالم جديد)، وتقرير البنك الدّولي للتنمية في العالم لسنة 2018 ارتكز أساسًا ولأوّل مرّة على (إصلاح قطاع التّعليم على مستوى العالم) …أمّا عن الأطراف المشرفة على الحملة ـ إعدادًا وتنظيمًا ومشاركةً وتصوّرًا وتصميمًا ـ فهي باب مشرّع على الاستفهام الإنكاري، إذ أنّ الجّرد السّريع للقائمة (البنك الدّول ـ جمعيّة مونتيسوري ـ ضيوف من أوروبا وأمريكا وآسيا ـ المعهد العربي لحقوق الإنسان ـ شبكة عهد للثقافة المدنيّة ـ الاتحاد العامّ التونسي للشغل) يُثير فينا تساؤلات مُحرقة: هل يوجد أَلصقُ بالذّاتية والخصوصيّة والهويّة والحضارة والثّقافة من الشّأن التّربوي التّعليمي..؟؟ كيف يُعقل أن يتحوّل إلى شأن دولي عالمي موكول إلى أجانب غير مسلمين..؟؟ أليس التعليم ركنا ركينا في رعاية الشّؤون ومن صميم قوامة الدّولة على رعاياها..؟؟ كيف تتخلّى السّلطة عن أوكد واجباتها وأخطرها لصالح الجمعيّات والبنوك والنّقابات والمنظّمات الحقوقية، وتكتفي بتمثيليّة جزئيّة لطرف كسائر الأطراف..؟؟ مَن هي جمعيّة (مونتيسوري لشمال إفريقيا) هذه و ما هو توجّهها ومَن وراءها وما هي مصلحتها في تطوير المناهج التّربوية في تونس..؟؟ هل أصبح الشّأن التّربوي التّعليمي مشغلاً عُمّاليًّا نقّابيًا حتّى يتدخّل فيه الاتّحاد العام التونسي للشغل..؟؟ وعلى فرض صحّة ذلك ما مدى تمثيليّة الاتّحاد للشعب التّونسي حتّى ينوبه في حدث سيادي مثل إصلاح التّعليم..؟؟ ثمّ ما علاقة مؤسّسة بنكيّة ربويّة عالميّة مثل البنك الدّولي بالشّأن التربوي…؟؟ ومقابل ماذا يموّل هذا البنك إصلاح التعليم في تونس..؟؟ أليس البنك الدّولي ـ تمامًا كربيبه صندوق النّقد الدّولي ـ من أخبث وأخطر أذرعة الاستعمار الحديث يقايض المال القذر بالمسخ والتّشويه والانبتات والانسلاخ عن الإسلام..؟؟ فكيف تمكّنه السلطة من رقاب ناشئتنا وتخوّله أن يرسم لنا مستقبلنا ويحدّد لنا هويّتنا وانتماءنا العقائدي والثقافي والحضاري..؟؟

تشخيص العلّة

إزاء كلّ إصلاح للمنظومة التّربوية، هناك ـ منهجيًّا ـ سؤالان مركزيّان لا بدّ من طرحهما قبل الانخراط في العمليّة: كيف نشخّص فساد الفعل التّربوي من صلاحه..؟؟ وما الذي يجب أن نستهدفه لتحقيق الإصلاح..؟؟ أمّا الإجابة عنهما فتمرّ بالضرورة عبر تحديد الغاية المرجوّة من التربية والتّعليم، ذلك أنّ مقياس النّجاح والفشل منوط بمدى تحقيق تلك الغاية…وممّا لا شكّ فيه أنّ العملية التّربوية في المطلق تستهدف أمرين اثنين: أوّلهما: ضمان تواصل الهويّة الثّقافية والحضاريّة للأمّة عبر الأجيال…وثانيهما: تركيز شخصيّات منسجمة مع تلك الهويّة عقليّة ونفسيّة، ثمّ تزويدها بالمهارات التي تمكّنها من التّفاعل مع محيطها… من هذا المنطلق فإنّ فساد أو صلاح العمليّة التربويّة في المطلق هو بالأساس رهين مضمونها في علاقته بالهويّة، أمّا شكلها (وسائل ـ أساليب ـ بنية تحتيّة ـ وسائط بيداغوجيّة…) ـ وإن كان يساهم بشكل فعّال في ترشيد الفعل التّربوي ـ لكنّ تدهوره لا يُفسد العمليّة التّربوية بقدر ما يؤثّر سلبًا على نسقها وكمّها…هذه المصادرة البديهيّة منزّلةً على الواقع التّربوي لتونس القيروان والزّيتونة تفترض تحقيق الثّالوث التّالي: الهويّة الإسلامية والثّقافة الإسلامية والشّخصية الإسلامية…فإن كانت المؤسّسة التّربوية التونسية قد ضمنت تواصل هوية الشعب الإسلامية، وكرّست في النّاشئة شخصيّات إسلامية تعقل وتفهم وتُشبعُ وتتعامل وفق العقيدة الإسلامية فقد نجحت مبدئيًّا في مهمّتها ولا تحتاج إلى إصلاح بقدر ما تتطلّب تدعيمًا وتفعيلاً…أما والحال أنّها قد فشلت في تحقيق ذلك بالمشاهد الملموس، فإنّ مضمونها في قفص الاتّهام ومناطها يتراوح بين الإصلاح والترميم أو النّقض وإعادة البناء…

إصلاح أم إفساد..؟؟

إنّ المتتبّع لسيرورة التّجارب الإصلاحيّة المستهدفة للتّعليم في تونس منذ الاستقلال إلى سنة 2015 ـ تاريخ آخر تجربة ـ يكتشف دون عناء أنّ لفظ (إصلاح) أضحى مصطلحا له مفهوم سياسي ولا يفيد بالضرورة المعنى اللّغوي الموضوع له..إذ وُظِّفت شحنته اللّغويّة الإيجابيّة كرداء دسم يُمرَّر عبره السّم الزّعاف مُتمثّلاً في مخطّطات الكافر المستعمر ضدّ هويّة البلاد ومقدّراتها وانتمائها الثّقافي والحضاري: فقد فشلت فرنسا الاستعماريّة طيلة قرن إلاّ ربع في القضاء على التّعليم الزّيتوني الإسلامي، وقُصارى ما قدرت عليه هو إرساء تعليم علماني موازٍ له…بعد مسرحيّة الاستقلال أخذ المقبور بورقيبة المشعل عن أحفاد موليير مثقلاً بفرنكفونيّته وعدائه المبدئي للإسلام وللثّقافة الإسلاميّة…فكانت ضربة البداية في مسار المحاربة والاستهداف الممنهج مع إصلاحات محمود المسعدي (1958) التي تحقّق من خلالها حلم فرنسا، فقُضي على التّعليم الزّيتوني وشُرّد (الزّواتنة) وفُرض التّعليم العلماني…سنة 1991 ـ وبعد جيل كامل من التّصحير والعلمنة ـ كرّت المسبحة وطلع علينا سيِّئ الذّكر محمّد الشّرفي مشبعًا بأحقاده الإيديولوجيّة الدّفينة وعدائه الماركسي اللّينيني المقيت للدّين، فعمد إلى تنقية المنظومة التّربوية التّونسية من رواسب ما يمتّ لرائحة الإسلام بصلة من قريب أو بعيد مُتستّرًا بالشّعار المسموم (من الهويّة الوطنية إلى الهويّة الكونية)…سنة 2002 ونزولاً عند إملاءات صندوق النّقد الدولي، أدلى منصّر الرّويسي بدلوه في (الإصلاح/الإفساد)، فأعاد النّظر في التّوجيه المدرسي نحو مُلاءمته مع متطلّبات سوق الشّغل مكرِّسا بذلك النّجاح الآلي وتدنّي القيمة العلميّة وإغراق السّوق بآلاف العاطلين من حملة الشّهائد الجوفاء…(مِسك الختام) سنة 2015 مع (الدّبابة) النّاجي جلّول الذي تبنّى (إصلاحا حداثيّا يُرسِّخ التلميذ في بيئته الوطنيّة) عبر مدرسة المواطنة والتّلميذ السّعيد والإسلام التونسيّ الطُّرقي قطعًا للطّريق أمام الدّعشنة والتطرّف..

مدرسة المواطنة

إنّ أهمّ طرف استعان به (وزر) التّربية آنذاك الناجي جلّول في بلورة مشروعه ـ تصوّرًا وتصميمًا وتنفيذًا ـ هو بلا منازع المعهد العربي لحقوق الإنسان: فقد دُعي المعهد سنة 2015  ـ مُمثّلاً في شبكة عهد للثقافة المدنيّة ـ للمشاركة في فعاليات إصلاح التّعليم مع اتّحاد الشّغل ووزارة التّربية..وخلافًا لهذين الأخيرين اللذين اقتصر دورهما على الإشراف والتنفيذ فحسب، كان للمعهد دور أساسي وفعّال في تفجير الطّاقة الكامنة في ذلك المشروع وشرعنتها وتقنينها وصولاً بها إلى التّجسيم على أرض الواقع: فقد كان له الفضل أوّلاً في اعتماد (المنهجيّة التّشاركية) التي أفضت إلى الاستشارة الوطنية للإصلاح التّربوي، وهي منهجية تقطر دهاءً وخبثًا ومكرًا: فخرافة تشريك المجتمع المدني وعامّة النّاس في إبداء الرّأي والنّصيحة لإصلاح التّعليم هي مجرّد مناورة لامتصاص غضب النّاس من الحالة المزرية للمؤسّسة التربويّة، وإيهامهم بأنّهم يشاركون في تصوّر الحلول ووضع المعالجات من أجل تعويم الجريمة التي ستتمخّض عنها الاستشارة المزعومة وتوريط الجميع في اقترافها ثمّ إكسابها الشّرعية كونها تعبّر نظريًّا عن إرادة الشّعب التونسي ورغبته…كما كان للمعهد الفضل ثانيًا في ارساء تصوّر لمدرسة المواطنة قائم على مجموعة من القيم الكونيّة من قبيل (حقوق الإنسان ـ التّعددية ـ نبذ العنف والإقصاء ـ الحقّ في الاختلاف ـ الحسّ المدني ـ المواطنة الفاعلة ـ العمل ـ الحرّية ـ المساواة ـ الولاء لتونس…) بما يؤسّس لشخصيّة هُلاميّة افتراضيّة تجري في عروقها مياه صالحة للشراب لا لون لها ولا طعم ولا رائحة ،وهذا هو جوهر المشروع الاستعماري المستهدف لناشئة المسلمين…

أزمة التعلّم

ولكن لسائل أن يسأل: إذا كان (إصلاح جلّول) بمواصفاته الكونيّة المصوغة بأعين المعهد العربي لحقوق الإنسان ووحي الكافر المستعمر قد حاز الرضا والقبول محليًّا ودوليًّا، فما الذي جعل البنك الدّولي في تقريره عن التنمية في العالم لسنة 2018 يطلق صيحة فزع ويحذّر من (أزمة في التعلُّم بقطاع التّعليم على مستوى العالم) ويعقد المحاضرات والنّدوات والموائد المستديرة حاثًّا على إصلاح التّعليم مجدّدًا…؟؟ ممّا لا شكّ فيه أن ما نُسب إلى النّاجي جلّول يحقّق أقصى ما يمكن أن يطمح إليه الكافر المستعمر في بلاد الإسلام والمسلمين: فالأزمة لا تكمن في (التعليم) الذي دُجّن وأُفرغ من محتواه وأُقصي عن الإسلام بل أضحى أداة لتشويه الإسلام وحربه، ولكنّ الأزمة الحقيقيّة تكمن في (التعلّم) أي إتقان المهارات المطلوبة والاتّصاف بالمواصفات المحدّدة واكتساب العقليّة والنّفسية التي يروم الكافر المستعمر أن يُقولب شخصيّة المسلمين بحسبها، وقد عبّر (بول رومر) رئيس الخبراء الاقتصاديّين بالبنك الدّولي عن ذلك بقوله (إن الالتحاق بالمدارس لا يعني حتمًا التّعلم، وبدون تعلّم سيفشل التّعليم في الوفاء بالوعد المنتظر منه)…فالإشكالية ليست في التّنظير، فما يُخطّط لحرف المسلمين عن دينهم لتزول منه الجبال، ولكن الإشكال في التّنفيذ والتطبيق والإنجاز الذي يبدو أنّه يشكو من البطء والانحسار وفقدان النّجاعة والإنتاجيّة وقلّة الضبط وضعف التّمويل…لذلك وتصوُّرًا منه لمخرج من هذه الأزمة المركّبة، قدّم تقرير البنك الدّولي للتنمية في العالم ثلاث توصيات: أوّلاً (تقييم مستوى التعلّم بحيث يصبح هدفًا قابلاً للقياس) دعمًا للنّجاعة ودرءًا للاستنتاجات المغلوطة المُظلِّلة…ثانيًا (جعل المدارس تعمل لصالح جميع الأطفال) تعميمًا للفائدة وتوسيعًا لمجال الاستهداف…ثالثًا (حشد كلّ من له مصلحة في التعلّم بما في ذلك مجتمع الأعمال) حلاًّ لمشكلة التّمويل وربطًا للمؤسّسة التّربوية بسوق الشّغل وأصحاب رؤوس الأموال…وإذا عُرف السّبب بَطُل العجب…

بسام فرحات

CATEGORIES
TAGS
Share This