وعد بلفور :قرن من السياسة الاستعمارية تحت خرقة “الشرعية الدولية”

وعد بلفور :قرن من السياسة الاستعمارية تحت خرقة “الشرعية الدولية”

هدد وزير خارجية السلطة الفلسطينية، رياض المالكي، برفع قضايا قانونية ضد بريطانيا، في حال أصرت على الاحتفال بمئوية «وعد بلفور»، مطالبا في الوقت نفسه باعتذار عن هذا الوعد الذي أعطاه وزير الخارجية البريطاني الأسبق، آرثر بلفور، في الثاني من تشرين الثاني/نوفمبر من عام 1917، لزعيم الجالية اليهودية، آنذاك، ليونيل روتشيلد، يتعهد فيه بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين.

وكان رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، قد طرح هذا الأمر على الجمعية العمومية في خطابه الشهر الماضي. وقال عباس لمستمعيه: «في خطابي أمام جمعيتكم في العام الماضي أيضا، طالبت الحكومة البريطانية العظمى بتصحيح خطأ فادح ارتكبته بحق الشعب الفلسطيني، عندما أصدرت وعد بلفور عام 1917، الذي يمنح اليهود وطنا قوميا لهم في فلسطين… لكن الحكومة البريطانية لم تحرك ساكنا حتى الآن، إزاء مطالبتنا لها بتصحيح خطئها التاريخي بحق شعبنا، وهو أن تعتذر عن الخطأ، وتقدم لنا التعويضات، وتعترف بدولة فلسطين، تحدثنا معهم طويلا، للآن لم يستجيبوا، والأنكى من ذلك والأسوأ من ذلك، أنهم يريدون في تشرين الثاني/نوفمبر أن يحتفلوا بمناسبة مائة سنة على جريمتهم هذه بحقنا».

فجاءهم الجواب بكل صفاقة على لسان رئيسة الوزراء البريطانية، تيريزا ماي في معرض ردها على أسئلة النواب في مجلس العموم البريطاني، “سنحتفل حتما بالذكرى المئوية لوعد بلفور بكل فخر”. مضيفة: “نفتخر لدورنا في تأسيس دولة (إسرائيل)”. وهي في ذلك كررت تقريبا ما قاله ونستون تشرشل للجنة (بيل) التي فوضت بدراسة آراء أهل فلسطين نحو إقامة الوطن المزعوم لليهود سنة 1937: “أنا لا أقر بأن الكلب في الحظيرة (يقصد الشعب الفلسطيني) هو صاحب الحق في الحظيرة حتى ولو مضى على وجوده فيها زمن طويل. ولا أرى مطلقا أن الهنود الحمر لهم الحق في القول إن أمريكا لنا ولن نقبل بدخول المستوطنين الأوروبيين إلى هنا”.

ما لا يدركه كثيرون أن بريطانيا، رأس الأفعى الاستعمارية، هي التي مكرت مكر الليل والنهار لتحطيم دولة الخلافة العثمانية أولا، ثم لفرض واقع سياسي يهدف إلى تفكيك وحدة المسلمين ويضمن بقاء التنازع والخصومة فيما بين الكيانات الهزيلة التي رسمت حدودها فوق الرمال بموجب اتفاقية سايكس_بيكو متبعة سياسة “فرق تسد”. فبدل أن يكون المسلمون أمة واحدة يعملون للخروج من طور الضعف والانحطاط لتعود أمة الإسلام كما كانت خير أمة أخرجت للناس تتسنم ركب قيادة البشرية لإخراجها من ظلمات الحضارة المادية الغربية المنحطة، فإن تفكيك وحدتهم إلى كيانات هزيلة يضمن بقاءهم في واقع التبعية والخضوع للهيمنة الغربية، حيث يتوسل كل حاكم منهم تدعيم أركان سلطته ببريطانيا ولية نعمته التي مكنته من الجلوس على كرسي الحكم المعوج.

وحيث إن “وعد بلفور” خالف بدهيات القانون_الدولي إذ لم يسبق في التاريخ أن قامت دولة استعمارية بمنح أرض شعب (ليس تحت سلطتها أصلا وليس لها حق التصرف بأرضه) إلى شعب آخر بل إلى عصابات تجمعها من شذاذ الآفاق، فقد عمدت بريطانيا إلى تسخير شركائها في الجريمة الاستعمارية فيما سمي يومذاك “عصبة الأمم”، وعلى طريقة “تفرق الدم بين القبائل الاستعمارية”، التي منحت بريطانيا حق الانتداب على فلسطين. وقد أدرج وعد بلفور في صك الانتداب بحيث تصبح “مهمة” بريطانيا هي تنفيذ الوعد تحت شرعية “المجتمع _الدولي” و”القرارات الأممية”.

وهناك كذبة كبيرة يروج لها المبررون لبريطانيا جريمتها إذ يقولون إن بريطانيا كانت بحاجة لدعم يهود روسيا وأمريكا لحملهم البلدين على مشاركتها في مواجهة الخطر الألماني في الحرب العالمية الأولى. فهذا محض افتراء يكذبه تصريح ناحوم سولوكوف بأن مارك سايكس (نفسه الذي صاغ اتفاقية سايكس بيكو) هو الذي ظهر من لا شيء ليطلب الاجتماع مع القادة الصهيونيين (ضم إلى جانب سولوكوف وايزمان وروتشيلد وهيربرت صموئيل الذي عينه تشرشل لاحقا مندوبا ساميا حاكما لفلسطين) وبناء على طلبه عقد اللقاء في شباط 1917 حيث عرض عليهم سايكس موقف الحكومة البريطانية الداعي لإنشاء وطن لليهود في فلسطين. وأقر سولوكوف بأن سايكس هو الذي وجهه لمقابلة الفرنسيين وبابا الفاتيكان للحصول على موافقتهم على منح فلسطين لليهود. فبريطانيا هي صاحبة الجرم الأساس في هذا كله، ولا يشفع لها الاختباء وراء خرقة “المجتمع الدولي” والقرارات الأممية، بل هي صاغت تفاصيل الجريمة بكافة أركانها، والتي اكتملت بقيامها بفرض هذه الكيانات المصطنعة بقوة الحديد والنار والطيران البريطاني والمدفعية البريطانية، كما جاء في توجيه وزير المستعمرات تشرتشل إلى مندوبه في العراق كوكس (1921): “إن استعمال سلاح الطيران هو أمر مشروع لقمع أي قلاقل ضد السلطة البريطانية”. فحين فشل زعماء بنو هاشم، تشرين الثاني/نوفمبر 1923، في قضاء السماوة – العراق في دفع الضرائب للحكومة البريطانية كان الجواب شن حملة من الغارات الجوية التي أدت إلى قتل 144 شهيدا.

نعم هذه هي السياسة التي فرضتها بريطانيا. ولكن العجب كل العجب من أمثال محمود عباس وصاحبه المالكي الذين يتوقعون من بريطانيا الاعتذار؟ ففي أي كوكب يعيش هؤلاء الخونة الذين ارتضوا لأنفسهم أن يكونوا أجراء عند يهود يجتهدون في حمايتهم؟ والأعجب منهم من رفع يوما شعار الإسلام هو الحل فإذا بهم يتوسلون العودة إلى حضن حكومة أوسلو، ويأخذون بالأحضان مبعوثي سفاح رابعة العدوية ويرفعون صوره عاليا في ميادين غزة، ثم يصرح كبيرهم بأنهم عازمون على إقامة دولة فلسطينية في الضفة وغزة بحسب “المواثيق الدولية”! ثم نسمع تصريحات لآخرين من فصائل الثورة في الشام يطالبون بالاحتكام إلى “قرارات جنيف ” ألم يأن للجميع أن يدركوا حقيقة عداء الغرب للإسلام ومكره المتواصل ليل نهار ضد المسلمين؟ فكيف يرتضون لأنفسهم الخضوع لمرجعية ما يسمى “القرارات الأممية” و”المجتمع الدولي”؟ ألا يعلمون أن هذه القرارات وكل المنظمات الأممية إنما صنعتها الدول الاستعمارية بغية تحقيق أهدافها الاستعمارية تحت زعم “الشرعية الدولية”؟ وأنها تهدف لإحكام طوق العبودية في أعناق المسلمين والحيلولة دون تطبيق شريعة ربهم؟

نعم لقد أسفر الغرب الصليبي، وحلفاؤه في روسيا والصين، عن حقدهم على الإسلام والمسلمين، وسبيل النهضة للمسلمين لا يكمن في توسل تطبيق القرارات الأممية، وإنما يكون في نبذ الحكام أذناب الغرب ومبايعة إمام يحكم بشرع الله فيجمع شمل الأمة ويوحد طاقاتها ويقود جيوشها لتحرير ما احتل من أراضيها، وينشر راية الإسلام في العالم، فيقوم المسلمون بدور الشهادة على الأمم كما أمرهم رب السماوات والأرض.

عثمان بخاش

CATEGORIES
TAGS
Share This