خطاب خامنئي والعداء اللفظي المُصْطنع ضدّ واشنطن
في خطابه مطلع الشهر الجاري للتلفزيون الإيراني شنّ مرشد الثورة الإيرانية آية الله علي خامنئي هجوماً لفظياً كاسحاً على أمريكا ووصفها بأنّها: “العدو الأول لأمتنا”، وقال بأنّ إيران “لن تذعن لضغوط واشنطن بشأن الاتفاق النووي”، ووصف تصريحات الرئيس الأمريكي بــ “الغبية ضد شعبنا”، وأنّها “تظهر عمق العداء الأمريكي لأمتنا الإيرانية برمتها”، وأكّد على أنّ إيران “لن تقبل أبدا ترهيبهم بشأن الاتفاق النووي”، وأنّ “الأمريكيين يستخدمون كل الشرور لتدمير نتائج المحادثات النووية”، وقال بأنّ “أي تراجع تبديه إيران سيزيد من فجاجة ووقاحة أمريكا، والمقاومة هي الخيار الوحيد” على حد قوله.
ليس غريباً أنْ تتكرّر لهجة القيادة الإيرانية بمثل هذا الأسلوب الناري ضد أمريكا، على مدى نيفٍ وثلاثين عاماً الماضية من عمر الثورة الإيرانية؛ لأنّه قد ثبت أنّ هذا الأسلوب اللفظي المُضلّل هو الأفعل في خداع الجماهير بمواقف الدولة الإيرانية المُعادية للأمّة الإسلامية والمُتواطئة مع مواقف أعدائها.
فمثلاً نجد أنّ المواقف الرسمية الإيرانية المُخزية ضد ثورة الشام واصطفافها مع جزّار سوريا بشّار الأسد لا يُمكن تفسيرها على أنّها مواقف مقبولة إلاّ بافتعال فبركة سياسية ضد أمريكا، والادعاء بأنّ إيران تُقاوم استكبارها وشرورها، وكذلك دعمها المُباشر لمليشيات مُرتزقة طائفية في سوريا والعراق وغيرها، ومُشاركتها الفعّالة لروسيا وأمريكا في مُحاربة الإسلام تحت مُسمّى مُحاربة (الإرهاب)، ووقوفها إلى جانب الأرمن ضد المسلمين في أذربيجان، ومُحاولتها مع السعودية إثارة النعرات الطائفية بين السُنّة والشيعة في العالم الإسلامي، ودعمها لنظامي الحكم العميليْن في أفغانستان والعراق اللذين صنعتهما أمريكا على عينٍ بصيرة بعد احتلالها للبلدين، وغيرها من المواقف السياسية البائسة التي لا يمكن تسويقها على العوام إلاّ بالتذرع بمُعاداة أمريكا، وخداع الجماهير بتلك الذرائع الكاذبة، لكسب مشاعر المُسلمين الذين بطبيعتهم يبغضون سياسات أمريكا الاستعمارية العُدوانية.
لقد تأسست الجمهورية (الإسلامية) في إيران على يد الخميني أصلاً بتخطيط وتدبيرٍ من أمريكا، وقد أثبتت الوثائق الأمريكية والبريطانية المُفرج عنها هذه الحقيقة، وقد ثبت بالفعل وجود علاقة للخميني بأمريكا قبل القيام بثورته بست عشرة سنة، فذكرت الـ(BBC) أن الخميني كان أبلغ الرئيس الأمريكي الأسبق جون كيندي أثناء وجوده تحت الإقامة الجبرية في طهران في العام 1963، يدعو فيها الإدارة الأمريكية إلى عدم تفسير هجومه على سياسة الشاه بأنه يُعادي واشنطن، وأكّد على أنه “ليس ضد المصالح الأمريكية في إيران، ويعتبر الوجود الأمريكي ضرورياً لمعادلة التوازن للنفوذ السوفياتي وربما البريطاني، ويؤمن بضرورة التعاون المقرب بين الإسلام وبقية الأديان في العالم وخاصة المسيحية”، وتوضح وثيقة نشرتها (سي آي إيه) “أنّ الخميني تبادل رسائل سرية مع كيندي بعد أشهر من الإفراج عنه من السجن في إيران مطلع تشرين الثاني (نوفمبر) العام 1963 طالب خلالها بألا يُفسّر هجومه اللفظي بطريقة خاطئة، لأنه يحمي المصالح الأمريكية في إيران”، كما كشفت (وثائق سرية) لـ CIA عنوجود محادثات سرية جرت بين الخميني والإدارة الأمريكية قبيل تسلمه إدارة البلاد في العام 1979 بعد الإطاحة بحكم الشاه محمد رضا بهلوي، وأشارت تلك الوثائق إلى تعهد الخميني بــ “المحافظة على مصالح واشنطن واستقرار المنطقة مقابل فسح الطريق له لتولي مسؤولية البلاد”، وكشفت تلك الوثائق أنّ الخميني وبعد العودة إلى إيران بعد قضاء 15 عاما في المنفى في باريس، بعث برسالة شخصية أولى إلى البيت الأبيض يؤكد فيها رغبته في إقامة علاقة صداقة مع أمريكا.
وكانت أمريكا تُخطّط للإطاحة بشاه إيران عميل بريطانيا العريقمنذ أيام مُصدّق عام 1953 لكنّها لم تنجح في ذلك إلا في العام 1979عن طريق ثورة الخميني، وذكرت الوثائق الأمريكية الجديدة والتي رفعت وكالة المخابرات الأمريكية (CIA) السرية عنها “أنّ الرئيس الأمريكي السابق جيمي كارتر كان من كبار الداعمين لفكرة استبدال نظام الشاه”، وكشفت الوثائق عمّا جرىقبل الثورة الخمينية بأيام قليلة حيث انعقد مؤتمر غواديلوب في كانون الثاني/يناير 1979 وكانت الثورة الإيرانية من محاوره الرئيسية، ووفقاً لرواية (BBC) الفارسية فإن كارتر وفي اجتماع غير معلن لمجلس الأمن في واشنطن أخبر نظراءه الأوروبيين عن قرار نهاية حكم محمد رضا بهلوي ولزوم مغادرته إيران.
وحسب محضر الاجتماع السري فإنّ الرئيس الأمريكي اتخذ القرار النهائي قبل لحظات من السفر إلى غواديلوب في الثالث من كانون الثاني/يناير في اجتماع غير رسمي مع كبار مستشاريه، وذكرت الرواية أن كارتر كان قد تلقى برقية عاجلة من السفير الأمريكي في طهران ويليام ساليوان يخبره بأنّه “حان وقت اللحظة التاريخية”، أيإسقاط الشاه، وأنّ وزير الخارجية الأمريكي الأسبق سايروس فانس ورئيس (CIA) آنذاك ترنر تمكّنا من إقناع الرئيس “بضرورة رحيل الشاه من إيران”، وفي النهاية تقرّر أن يطلب كارتر من الشاه بشكل غير مباشر مغادرة إيران، ووفق الوثيقة المذكورة فإنّمساعد الرئيس الأمريكي وولتر مونديل قال حينها: “يجب تشجيع الشاه على الرحيل بطريقة لا يعرف أنّ أمريكا وراءها”، لذلك لم يقُل الشاه قولته المشهورة “هكذا أخرجتني أمريكا وألقتني كالفأر الميّت” من فراغ.
وبعد نجاح ثورة الخميني دعمت أمريكا إيران في حربها ضد العراق تحت ستار ما يُعرف بسياسة الاحتواء المزدوج، ثمّ تعاونت إيران مع أمريكا في احتلاها لأفغانستان والعراق، وإسقاط حركة طالبان وصدّام حسين من الحكم، وتحدّث أكثر من مسؤول إيراني ومنهم رافسنجاني وأبطحي بفخر ووقاحة عن مُساعدة إيران لأمريكا في احتلالها لأفغانستان والعراق، وتعاونت إيران كذلك بعد الاحتلال مع أمريكا في مسائل داخلية تتعلّق بالعراق، فقالمحمد حسين عادلي السفير الإيراني في بريطانيا لرويترز بصراحة: “إنّ إيران تعاونت عن كثب مع الولايات المتحدة لكسب التأييد بين السكان العراقيين للانتخابات”، وأضاف: “إنّ طهران مستعدة للعمل مرة أخرى مع الولايات المتحدة لضمان الاستقرار في الشرق الأوسط حينما تتلاقى مصالحهما”، لذلك لم يكن غريباً أنْ تُسلّم أمريكا العراق لإيران على طبقٍ من فضة بعد انسحاب قواتها من العراق لوثوقها بمواقف عملائها في إيران، كما لم يكن غريباً أنْ تكون حكومات كرازاي وأشرف غاني صنيعتي أمريكا في أفغانستان من أكثر الحكومات قرباً لإيران.
هذا هو التاريخ الحقيقي لإيران ما بعد ثورة الخميني، ومُعادلته: تعاون فعلي وعملي وحقيقي مع أمريكا في الإقليم، وتعادٍ لفظي مُضلل ومُصطنع لتغطية ذلك التعاون.
أحمد الخطواني