بعد زيارة الشاهد لسوق الجملة.. هل وقفت عمليات الاحتكار؟
أطلقت الحكومة التونسية هذا الأسبوع حملة واسعة للحد من الاحتكار في خطوة لمجابهة الارتفاع الكبير للأسعار منذ أسابيع، حيث تعاني الأسواق منذ أسابيع نقصاً في التموين وارتفاعاً قياسياً في الأسعار، وبشكل خاص الخضر والغلال، ففي ظل ضعف أجهزة الرقابة، فإن عمليات الاحتكار والمضاربة تزيد أكثر فأكثر من تدهور القدرة الشرائية ما أدى إلى حالة من التململ الاجتماعي.
قال رئيس الحكومة يوسف الشاهد، الذي زار السوق المركزية: «هناك أسباب هيكلية لارتفاع الأسعار، منها النقص في الإنتاج مثل البطاطا والطماطم نتيجة النقص في المياه، لكنّ هناك أيضاً احتكار رأيناه اليوم في السوق».
وبدأت بالفعل صباح يوم الأربعاء 15 نوفمبر حملات أمنية ورقابية واسعة، استهدفت نقاط البيع بالجملة ومخازن تبريد السلع في ولايات عدة في البلاد بهدف ضرب المحتكرين وعمليات التحكم في الأسعار. وكان هناك اتفاق بين الحكومة والساحات التجارية الكبرى الأسبوع الماضي من أجل الحد من ارتفاع أسعار المواد الاستهلاكية، لكن الشكاوى تتزايد بشأن نقص بعض المواد بسبب الاحتكار وعمليات التهريب الواسعة للسلع خارج تونس.
وارتفع سعر الطماطم إلى نحو أربعة أضعاف عن سعرها الأصلي، بينما زاد سعر البطاطا إلى أكثر من الضعف. وكشفت زيارة الشاهد إلى السوق المركزي أمس، عن عمليات احتكار منظمة على الرغم من توريد كميات هامة من البطاطا لتعديل أسعار السوق.
فقد كثر الحديث هذه الأيام عن غلاء الأسعار والخدمات ومطالبة بالتدخل الحكومي للحد من ارتفاعها، فلا يعرف المستهلك إذا ما كان ارتفاع الأسعار سببه الاحتكار, أو أنه أمر طبيعي.
معنى الاحتكار ورأي الشارع فيه
والاحتكار إمساك الطّعام عن البيع، وانتظار الغلاء مع الاستغناء عنه وحاجة النّاس إليه, ويدخل في الاحتكار جميع السلع والخدمات التي يتضرر المجتمع من حبسها ومنعها من التداول في السوق لفترة من الزمن, فالاحتكار لا يكون إلا فيما يضر بالناس حبسه، وهو في التعريف العام هو حبس الشيء عن العرض وقت الرخص، وبيعه وقت الغلاء في السوق، وعند اشتداد الحاجة إليه، ولقد تضافرت الأدلة من السنة النبوية في ذم الاحتكار والنهي عنه والتشهير بالمتعامل به, فعن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يحتكر إلّا خاطئ» ( مسلم ). وعن ابنِ عمرَ عن النبيِّ عليه السلامُ قال: “من احتكر طعاماً أربعين ليلة فقد برئ من الله وبرئ الله منه، وأّيُّمَا أهلِ عَرْصَةٍ ظل فيهم امْرُؤٌ جائعٌ فقد برئت منهم ذمة الله.
ومثل هذا الوعيد لا يلحق إلا بارتكاب الحرام ، لأن ما يباع في السوق يتعلق به حق العامة، فإذا امتنع البائع عن بيعه عند شدة حاجتهم إليه فقد منعهم حقهم، ومنع الحق عن المستحق ظلم وحرام، يستوي في ذلك قليل المدة وكثيرها، لتحقق الظلم.
فقد اتفق فقهاء المذاهب على أن الحاكم يأمر المحتكر بإخراج ما احتكر إلى السوق وبيعه للناس. فإن لم يمتثل يجبر على البيع إذا خيف الضرر على العامة, والاحتكار قد يدفع القائم به إلى تبديد جزء من الموارد والتخلص منها إما حرقًا أو رميًا في البحر أو غير ذلك خوفًا من انخفاض الأسعار في الأسواق المحلية أو العالمية وقد تنجرّ عليه العديد من الأمراض الاقتصادية والاجتماعية، مثل البطالة والتضخم والكساد والرشوة والمحسوبية والنفاق والسرقة والغشّ.
وأمام هذه الأخطار نرى التشريع يعلن الحرب على الاحتكار والمحتكرين، أولئك الذين يدفعهم حرصهم على المال، والحصول عليه، إلى المتاجرة في أقوات الناس وضرورياتهم،
قال عليه الصلاة والسلام: (من احتكر حكرة يريد أن يغلي بها على المسلمين، فهو خاطئ) [أحمد].
وقال: (من احتكر على المسلمين طعامهم؛ ضربه الله بالجذام والإفلاس) [ابن ماجه].
وقال: (من دخل في شيء من أسعار المسلمين ليغليه عليهم كان حقًا على الله أن يعقده بِعُظْم من النار يوم القيامة) [أحمد].
دور الدولة
ولذا كان واجبا على الدولة القيام بإنذار المحتكرين لبيع السلع التي يحتجزونها بأثمان معتدلة فإذا رفضوا تنفيذ الأمر تقوم بمصادرة هذه السلع وبيعها، وذلك لإزالة الضيق ورفع الظلم عن الأفراد الذين هم أمانة في عنق الحاكم. من جهة أخرى تقوم الدولة بتوفير السلع الضرورية التي أصبحت نادرة في السوق نتيجة احتكار بعض الناس لها، فترفع الدولة الإنتاج ليزيد المعروض من هذه السلع فينخفض الثمن، فيخسر المحتكرون، ويفشلون فيما كانوا يسعون إليه.
ولا تلجأ إلى التسعير لأنّه مظلمة و لأنّه يفقد البضاعة من السوق ليقع تداولها خارجه ولا يجوز الإلتجاء اليه لمواجهة ارتفاع الأسعار لأنّ ارتفاعها راجع إمّا لقلّتها, فيكون الحلّ في جلبها, وإمّا بسبب الاحتكار, فيجبر مالكها على بيعها مع العقوبة. فقد غلت الأسعار في عهد رسول الله ( فقالوا: سَعِّرْ لنا. قال: (إن الله هو القابض الباسط الرازق المسعِّر، وإني لأرجو أن ألقى الله -عز وجل- وليس أحد منكم يطالبني بمظلمة ظلمتها إليه في دم ولا مال).
ولقد حرم الإسلام الاحتكار لما يخلفه من آثار ومضار سيئة على الفرد والجماعة الإسلامية؛ فهو يورّث الضّغينة بين النّاس, ويناقض الإيثار الّذي هو جوهر علاقة المسلم بأخيه المسلم, كما أنه يحمل في طياته بذور الهلاك والدمار لما يسببه من ظلم وغلاءٍ في الأسعار، وإهدارٍ لتجارة المسلمين وصناعتهم، وتضييق لأبواب العمل والرزق، وهو نوعٌ من محبة الذات وتقديم النفس على الآخرين, ويؤدي إلى تضخُّم الأموال في طائفةٍ قليلةٍ من الناس، كما في قوله تعالى: (كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ).
فيجب على المسلم أن يكون ملتزماً بالصدق في المعاملة وترك الغش والخداع وحبس السلعة عن مستحقها، وبذلك يكثر الخير ويزيد الربح ويتضاعف.
فهل يفتح الله تعالى آذان عُبَّاد المال ومحتكري قوت العباد شحًّا وجشعًا، وتوقظ فيها بواعث الرحمة والإحسان بالفقراء والمساكين والأرامل واليتامى وذوي الحاجات من أهل الفاقة والبؤس الذين طحنتهم أزمة النظام الفاسد، فسؤالنا حريّ بنا أن نجد إجابة له : هل يستطيع رئيس الحكومة الوقوف ضدّ التيّار الجارف للاحتكارات الكبرى التي تتجاوز المحلّي إلى نطاق العالمي ؟ ولماذا كلّ هذا الانتظار للقيام بهذه الزيارة التي تشوبها العديد من التساؤلات ؟ وهل أنّ أمر الاحتكار من قبل التجار لم يعلم به الشّاهد إلاّ بعد زيارته لسوق الجملة ؟ وهل هو على إستعداد للدخول في مواجهة مع حيتان المال وأصحاب النفوذ التجاري؟ أم أنّ الأمر يقتصر على زيارة على الشكل النوفمبري القائم على التغطية والتعمية وتسجيل المواقف الشكلية، مع بقاء الأمور كما هي, من سيطرة فئة قليلة من الرأسماليين من مصّاصي دماء الشعوب, دون رادع؟. نسأل الله أن يهيّأ سبحانه لهذا البلد الطيّب أمر رشد يكون القائمون عليه ولاّة خير، رحماء بينهم، أذلّة على المؤمنين أعزّة على الكافرين، ونسأله سبحانه أن يرزقنا الرزق الحلال وأن يبارك لنا فيه, وأن يجنبنا الاستغلال والاحتكار, لنكون عند الله أبراراً وعند الناس أخيارا.
محمد زروق