قصة جديدة من قصص فشل الحكومات التونسية في رعاية شؤون الناس وساحتها هذه المرة الحوض المنجمي, ذلك الميدان الذي طالما تلاعبت به الحكومات المتعاقبة منذ الإستعمار مرورا ببورقيبة و بن علي, إلى حكومات ما بعد الثورة, مدن تعيش على نزر قليل من عائدات ثروة الفسفاط, تاريخ من الإنتاج والكد والتضحية من طرف أهاليها يقابله تاريخ من الحرمان والتهميش والتسويف من طرف من يفترض أنه راعيها وحاميها.
الرديف, المتلوي, المظيلة, أم العرائس.. مدن كل ما مررت بها تلحظ وجوها مسوّمة بالشقاء والكدح والحرمان, رغم البسمة التي تعلوها, والأمل الذي يبحث عبر طيات الزمان على مسلك يتسلل من خلاله ليقطع مع كل مآسي الماضي والحاضر, عندما كنت أقطن بمدينة الرديف مسقط رأسي ومرتع طفولتي كانت القلوب ترتجف عند سماع صفارات الإنذار في غير أوقاتها فالأمر جلل والموت يحلق فوق كل بيت له عامل في ” الداموس “.. ترى الرجال تهرول نحو مدخل المنجم, والنساء في الأزقة الضيقة وأمام أبواب المنازل بأعين تبحث عما يمكن أن يطمئن قلبا تأكله الحرقة أو يرفع عنهن فزعَا لفقدان عزيز خرج وراء لقمة عيش عائلته حتى لا تعيش الخصاصة والحاجة للآخرين, تلك الصورة التي نقشت في ذاكرة طفولتي لا تسقُط عن ذهني بالتقادم.. فالكل يسأل ربه ” أستر يا رب.. يا رب سلم “, صور لا ينتهي فيها المشهد إلا بفاجعة جديدة تفقدك جارا عزيزا كان البارحة يلاعبك ويرعاك كأبيك في غيابه أو تنتهي بهرولة الجميع إلى المستشفى ليزوروه, ليخرج منه بعد أشهر من العلاج بساق مبتورة أو ذراع مفقودة أو إعاقة دائمة لا ترى بعدها كمال قامته. مشاهد طفولة لازمتني وأنا بمدينة المظيلة لأغطي أحداث الإحتجاجات الأخيرة التي إندلعت عقب الإعلان عن نتائج مناظرة الإنتداب بشركة فسفاط قفصة .
مدينة منتجة للثروة, محرومة منها
كان الوقت ليلا بعد صلاة المغرب كنت أتبع مسار الطريق الرئيسية الوحيدة التي تشق المدينة وكنت أرى الخيمات التي نصبت على جنباته , حركية حول كل خيمة وشباب متحلق على كانون يطلبون الدفء في هذا البرد القارص, يعتصمون بأسلوب سلمي راق, للتعبير عن رفضهم لنتائج المناظرة الأخيرة. قصَدتُ إحدى الخيمات وطلبت من أصحابها أن يشرحوا لنا أسباب إعتصامهم فقدموا السيد هيثم خير الدين ليتحدث نيابة عنهم فشرح الوضع بالتفصيل.
أوّل كلمات قالها: “بداية نحن أصحاب حق وصاحب الحق لا يتخفى ولا يتوارى, لذلك فإن كل الخيمات التي تراها معلن عنها عند الجهات الأمنية ومعلوم أصحابها بالإسم واللقب, وقد بدأت حكايتنا مع الظلم والتهميش منذ أن بدأت المظيلة في طور استخراج الفسفاط, فقد عانى آباؤنا وأجدادنا وضحوا من أجل استخراج هذه الثروة لينتفع بها المستعمر ثم تنتفع بها الدولة دون أن يوفرا لأهالي المدينة أدنى مقومات الحياة الكريمة.
فالمظيلة مدينة صناعية بها معامل كيميائية هي بمثابة قنابل موقوتة, أدنى خطأ تقني يمكن أن يسبب كارثة تذهب بأرواح الآلاف, ورغم ذلك ليس بالمدينة مركز للحماية المدنية ففي كل حادث ننتظر الحماية لتأتي من مدينة قفصة التي تبعد 18 كيلومترا.
وهي مدينة تدرّ على ميزانية الدولة المليارات من عائدات الفسفاط, ورغم ذلك لا تجد فيها فرعا بنكيا, فالعمال عليهم التوجه إلى مدينة قفصة لتسلم رواتبهم.
مدينة لا تحتوي من مؤسسات الدولة إلا على قباضة مالية لجباية الضرائب, ومركز البريد لإرسال برقيات الحوادث والوفيات, ومقر معتمدية ليكون الجميع تحت عين ساهرة ومقر بلدية لتسجيل الولادات والوفيات, وبناية علقت عليها لافتة كتب عليها المستشفى المحلي بالمظيلة ليس به أي طب إختصاص, إلّا من طبيب عام يعمل بمثابة مسكن للأوجاع لا غير, رغم الأمراض المتعددة والمنتشرة بالمدينة وبشكل ملفت نتيجة التلوث البيئي الخطير مثل أمراض : الحساسية بأنواعها والسرطان بنسب ملفتة, وأمراض الجهاز التنفسي وهشاشة العظام والتشوه عند الولادة وظاهرة الإجهاض عند الحوامل وظاهرة العقم, .. وعندما نطالب بالتشغيل بسدّ حاجياتنا والعيش بكرامة ككل الناس لا نجد إلا عصى البوليس والقمع, وأبواب السجن مفتوحة تنتظر لتقفل على من يقول لا هذا حقي.
إيقاف نشاط الشركة والسبب قديم متجدّد..
ذاك نزر قليل مما فاضت به نفس المحتج والمعتصم هناك, وما زاد أهالي المظيلة إحساسا ” بالحقرة ” هو أن شركة فسفاط قفصة قررت إنتداب 1700 عامل بالشركة, ونصيب مدينة المظيلة منه قدر بحوالي 965 شخصا ,ولكن عند التصريح بالنتائج اكتشف المترشحون من معتمدية المظيلة أنهم يتقاسمون نصيبهم مع ثماني معتمديات أخرى, وهي قفصة الشمالية وسيدي عيش والقطار وزانوش وبلخير ولالة والقصر والسند, وتراوحت حصة مدينتهم بين 82 و 92 شخصا فقط, في حين يرون أنهم هم من يتحملون القسط الأكبر من فاتورة التلوث والخطر, بينما بقية مدن الحوض المنجمي المتمثلة في الرديف و أم العرائس و المتلوي, جميعها حازت نصيبها من الانتداب, ولم تتقاسمه مع أي معتمدية أخرى.
لهذه الأسباب ولغيرها قام شباب المنطقة وأهاليهم بهذه الإحتجاجات السلمية, دون تعطيل لمصالح العامة, وقرروا إيقاف سير نشاط شركة فسفاط قفصة والمجمع الكيمياوي فقط إلى حين إيجاد حل لمشاكل متعددة ضمنوها في بيان أصدروه بتاريخ 24 ــ 01 2018, هذا نصّه:
“نحن ممثلي الإعتصامات السلمية والخيم المرابطة في أحياء المظيلة إجتمعنا مساء يوم 24 ــ 01 ــ 2018 وإتفقنا على جملة من المطالب المشروعة.
أولا : تكوين ” تنسيقية شباب المظيلة ” تتكون من ممثلي الخيام وكافة الإعتصامات السلمية بالجهة .
ثانيا : الإسراع بإطلاق سراح الموقوفين وإيقاف التتبعات العدلية في حق المتتبعين أمنيا .
ثالثا : أولوية التشغيل للحالات الإجتماعية وغير المقبولين في مناظرة شركة فسفاط قفصة .
رابعا : التسريع في الإعلان عن نتائج مناظرة شركة البيئة والغراسات, والترفيع من نصيب المظيلة في عدد الإنتدابات بالنسبة لهذه الشركة, كذلك المطالبة بتفعيل محضر الجلسة المتفق عليه لسنة 2012 .
خامسا : الإسراع في الإعلان عن مناظرة المجمع الكيمياوي بالمظيلة عدد 1 ــ 2 على أن تكون مناظرة محلية تشمل المعطلين عن العمل في معتمدية المظيلة, وتفعيل محضر جلسة سابق في الغرض بالنسبة لهذه الشركة سنة 2013 .
سادسا : التنسيقية هي الطرف المباشر والناطق لجميع ممثلي الإعتصامات السلمية المتواجدة بمختلف أحياء مدينة المظيلة.
أخيرا : إقرارنا بأن إعتصامنا سلمي وحضاري رافضين منطق التخريب والفوضى, كذلك متمسكين بجملة المطالب المذكورة وبالتصعيد في حال عدم قبول مطالبنا في أجل أقصاه 29 جانفي 2018.”
انتهى نص البيان ولم ينتهي حديث الناطق باسم المعتصمين, حُرقة وتأكيدا منه على ايصال رسائل للمعنيين بالأمر بالقول:
“ليعلم الجميع أننا هذه المرة سنواصل اعتصامنا كلفنا ذلك ما كلف, فلم يعد لدينا ما نخسره, وهذا البيان يقطع الطريق أمام كل محاولات اللعب على وتر العروشية لأن كل العروش متوحدة في مطالبها وتقف صفا واحدا للوصول إلى تحقيق أهدافنا في الكرامة والشغل, ونحن متمسكون بتطبيق بمبدأ انتداب فرد من كل عائلة, إذ لا يعقل أن تجد عائلة بها أربع يشتغلون بالشركة وأخرى لا عائل لها سوى جراية تقاعد الأب في حين أن المستويات التعليمية نفسها. وليعلم الجميع أننا لسنا ضد من وقع انتدابهم فهم إخواننا ونفرح لفرحهم, ولكننا نطالب بحقنا في الإنتداب والتشغيل نظرا لتواجد الخبرات والكفاءات بالمدينة ونظرا لأننا المتضررون من التلوث, فإننا نطالب بأن تكون الإنتدابات الخاصة بمدينة المظيلة في مستوى بقية مناطق الحوض المنجمي.”
النساء تحتضن نضالات الأبناء
أنهيت لقائي معهم وخرجت واعدا إياهم بأن أبذل كل ما بوسعي لإيصال أصواتهم إلى الناس كما نقلوه لي ولكن لم تنتهي المأساة ههنا بل تعمقت عندما أردت أن آخذ صورا لخيمة أخرى تبعد حوالي ثلاثين مترا على التي كنت قد أجريت الحوار مع معتصميها, وعندما استأذنت فإذا بالمجيب نسوة من أهالي المظيلة تتحلقن حول “كانون” للتوقي من برد الليل, وهن كذلك تعتصمن لنفس الأسباب وعندما استفسرت علمت منهن أن هناك ثلاث خيمات للنساء المعتصمات من مجموع ثلاث عشرة خيمة, وهن مستعدات للتضحية والنضال من أجل أبنائهن وإخوتهن, وحتى يكون لهن نصيب من التشغيل, ففيهن المتعلمات صاحبات الشهادات العليا,ومنهن معتصمات مساندات للآخرين. وقد ألخص حواري معهن في دعوتهن
ــ لاطلاق سراح الأبناء الموقوفون
ــ مساندة لأبنائهن المعطلين عن العمل والمهمشين المعتصمين لتعلم الحكومة أن المظيلة رجالا ونساء على قلب رجل واحد ولن تفرط في حقها في الكرامة والتشغيل, فالمرأة في المظيلة تحمل قضية أهلها وتتبنى مطالبهم, فهي المناضلة منذ أيام الإستعمار ويشهد لها القاصي والداني بذلك.
اجتماع مع الوالي والنتيجة: لا أملِك لكم من الأمر شيئا
بعد عودتي علمت بالمتابعة أنه قد انعقد اجتماع مع والي قفصة يوم 26 جانفي 2018 على الساعة الرابعة ظهرا حضره ممثل عن كل خيمة ووالد ووالدة المعتقلين, كما حظره كل من معتمد المظيلة ورئيس منطقة الشرطة بقفصة ولم يقع التباحث إلا في النقطة الثانية المتعلقة بإطلاق سراح الموقوفين, فطلب منهم تحرير مطلب إفراج عن الموقوفين في حين لم يعد الوالي بحل مشاكلهم, بل إكتفى بوعدهم بالتحدث مع شركة فسفاط قفصة والمجمع الكيميائي عله يصل إلى حلحلة لبعض المسائل.
لا يكاد يمر يوم على أهل هذه البلاد الطيبة إلا وعقدة جديدة تعقد في نسيج عيش الناس, فأينما وليت وجهك ترى من الفقر أشكالا ومن الإذلال ألوانا, حياة ظنك وشح في الرزق وطاقات معطلة باسم شح موارد الدولة, رغم ما حباها الله تعالى من ثروات وخيرات, غاز نفط وملح وحديد وفسفاط, … تقابله بطالة وتهميش وهدر كرامة وفقر واستغلال … لك الله يا تونس.. لن يصلح حال هذه البلاد وهذه الأمة إلا بما صلح به أولها, خلافة راشدة على منهاج النبوة تعز الإسلام وأهله وتذل الكفر وأهله فعجل بها يا الله لتحفظ الحرائر وتصان الحرمات ويعطى كل ذي حق حقه.
هيثم خير الدين المحدث نيابة عن المعتصمين
إعداد: أ. فتحي الصغيّر