الانتخابات في ميزان الشّرع : متى ننتخب..مَن ننتخب..لِمَ ننتخب, وكيف ننتخب…؟

الانتخابات في ميزان الشّرع : متى ننتخب..مَن ننتخب..لِمَ ننتخب, وكيف ننتخب…؟

حدّث أبو ذرّ التونسي قال: مع انطلاق ماراطون الترشّحات للانتخابات البلديّة، طفا على السّطح مجدّدًا ذاك السّؤال القديم المقيم الذي يلازم شباب حزب التّحرير في كلّ المحطّات الانتخابيّة (بلديّة ـ نيابيّة ـ رئاسيّة) فيؤرّقهم ويُحرجهم ويُرهقهم صَعُودًا: (لماذا لا تشاركون في الانتخابات..؟؟) لاسيّما وهو صادر عن قلوب متعطّشة للإسلام ومذيّل بتعليق يقطر صدقًا وحماسًا وإخلاصًا (لو شاركتم لانتخبناكم)…هذا التّعليق يُعمّق المأساة ويعكس مفارقة ميلودراميّة: فالقاعدة الانتخابيّة التي يلهث خلفها الجميع ـ دون جدوى ـ على أعتابنا وتحت تصرُّفنا تنتظرنا وتغازلنا وتستحثّنا ونحن نماطل ونسوّف ونتمنّع…!!!  أمّا مكمن الحرج والأرق والإرهاق فليس مردُّه جهل الشّباب أو بطلان الإجابة ومخالفتها للإسلام أو رفض النّاس المبدئيّ لها: فالجواب معلوم مطابق لواقع الانتخابات منبثق عن العقيدة الإسلاميّة مقبول إجمالاً، إلاّ أنّه بعيد عن أفهام سواد النّاس ودون انتظاراتهم وفوق طاقة تحمّلهم…فالأمّة مكلومة تُكابد معيشة ضنكًا وتبحث عن حلول وقتيّة عمليّة ومخارج آنيّة ترقيعيّة سريعة وتتعشّم فينا أن نأخذ بيدها ونغيّر من حالها…إذا بنا ننخرط معها في تأصيل شرعي وتنظير فكري أكاديمي تتزاحم فيه الأحكام والتّحاليل والآيات والأحاديث، لا يملأ قفّتها ولا يشبع جوعتها ولا يسترعي انتباهها المسكون بهاجس لقمة العيش…فتنظر إلينا باستغراب وتصنّفنا فلاسفة في أبراجنا العاجيّة ثمّ تواجهنا باستفهام إنكاري (وكيف ستصلون إلى السّلطة إذن..؟؟) وتشيح بوجهها عنّا…

مكرٌ كُبّار

ولسنا هنا في مقام اللّوم على أمّتنا الحبيبة في تونس أو تحميلها كامل المسؤوليّة، فهي في كلّ ذلك ضحيّةٌ لضغط الواقع وهرسلة العملاء وكذلك لمكر الكافر المستعمر الكُبّار: فقد عمد إلى الترويج لبضاعة الدّيمقراطية الكاسدة وتسويقها في العالم الإسلامي بوصفها مجرّد آليّة لانتخاب الحُكّام ليُواري سوأتها المتمثّلة في تشريع البشر وفوضى الحرّيات، فأصاب بذلك عصفورين بحجر واحد: أوّلاً إيهام المسلمين بأنّ الديمقراطية هي التّرياق الشافي من علّة الاستبداد بالحكم التي كانوا ومازالوا يعانون منها، وثانيًا قطع الطّريق أمام أي تغيير جذري على أساس العقيدة الإسلاميّة…فالقناة الشّرعية الوحيدة للتّداول السّلمي على السّلطة هي الانتخابات، ولا شرعيّة خارج صندوق الاقتراع أي خارج حلبة الدّيمقراطية وقبضة الكافر المستعمر…وقد تكفّل الزّمن والإعلام والحكّام العملاء والحراك السّياسي الاستعماري المصطنع بترسيخ ذلك في المخيال الشّعبي حتّى أصبح بديهيّة لا تحتاج إلى برهنة و(تابُو) مُقدّسًا لا يُخاض فيه…وحسبنا فيما يلي أن نحرّك رواكد هذه المغالطة ونخلخل مُسلّماتها ونبيّن لِمَ نأى حزب التحرير ـ الكبير بكلّ المقاييس ـ بنفسه عن دنسها: فما هو واقع الانتخابات في المطلق…؟؟ وماهو حكمها شرعًا..؟؟ ثمّ كيف يتنزّل هذا الحكم الشّرعي على واقع الانتخابات البلديّة فالنّيابية ثمّ الرّئاسية…؟؟

واقع الانتخابات

إنّ المغالطة الأولى التي روّج لها الكافر المستعمر تختزل في ذاتها مغالطة ثانية تتمثّل في اعتبار الانتخابات خاصّة بالنّظام الديمقراطي وحكرًا عليه أي منبثقة عنه وحده، وهذا مخالف لحقائق التّاريخ ولواقع المبادئ والعقائد والنُّظم: فالانتخاب لغة هو الانتقاء والاختيار، وهو سُلوك وتعامل شائع ومتداول في الأوساط البشريّة منذ فجر تاريخها…أمّا اصطلاحًا فالانتخابات في العموم آليّة سياسيّة لترجيح كفّة طرف أو جهة على أخرى بغرض التّداول السّلمي على السّلطة سواء في الحكم أو في الإدارة… وهي ليست سليلة المنظومة الدّيمقراطية دون غيرها، بل هي أسلوب سياسي انتهجته ومارسته غالبيّة أنظمة الحكم التي عرفها الإنسان تضيق دائرته أو تتّسع ويتضخّم دوره وحضوره أو يضعف من منظومة إلى أخرى..على ضوء هذا المعنى الاصطلاحي، يتّضح أنّ واقع الانتخابات هي أنّها وكالة ونيابة: فعندما ننتخب شخصًا لأمرِ ما نكون إمّا قد أنبناه عنّا أو وكّلناه عنّا في ذلك الأمر…فحين ننتخب الخليفة ونُبايعه نكون قد أنبناه عنّا في الحكم والسّلطان أي جعلناه نائبًا عنّا في تطبيق الشّرع الإسلاميّ علينا…وحين ننتخب شخصًا ما لمجلس الشّورى نكون قد وكّلناه عنّا في الرّأي أي فوّضناه باسمنا وجعلناه وكيلاً عنّا فيما هو لنا أصلاً من صلاحيّة إبداء الرّأي والمحاسبة…

حكم الانتخابات

واقع الانتخابات بوصفها وكالة ونيابة يُفضي بنا إلى حكمها في الإسلام: فبما أنّها وكالة فإنّها تأخذ شرعًا حكم الوكالة…والوكالة من حيث هي جائزة شرعًا لقوله صلّى الله عليه وسلّم للأنصار في بيعة العقبة الثّالثة (أخرجوا إليّ منكم إثني عشر نقيبًا يكونون على قومهم بما فيهم كُفلاء) أي وكّلوا من بينكم اثني عشر شخصًا يمثّلون الأوس والخزرج بين يديّ…إلاّ أنّ جواز الوكالة ليس في المطلق، ذلك أنّ الأمر الذي تحصُل فيه يؤثّر على حُكمها شرعًا، بمعنى أنّ الوكالة تأخذ حكم الأمر الذي حصلت فيه: فإذا كان هذا الأمرُ حلاَلاً كتزويج بنت أو بيع نصيب من الميراث، فالتّوكيل فيه حلال…وفي المقابل إذا كان هذا الأمر حرامًا كالرّبا أو بيع الخمر فإنّ التوكيل فيه يكون حرامًا أيضًا…أمّا ترجمة ذلك سياسيًّا، فإنّ الوكالة على النّاس في المحاسبة على أساس الإسلام في مجلس الشورى حلال، والوكالة على النّاس في تشريع قوانين الكفر والمشاركة في أنظمة الكفر في المجالس النيابيّة الديمقراطيّة حرام، وهكذا…وبالمحصّلة فإنّ الانتخابات في المطلق كأسلوب للانتقاء والاختيار جائزة شرعًا، وقد مارسها المسلمون مباشرةً بعد وفاة الرّسول صلّى الله عليه وسلّم في سقيفة بني ساعدة…كما شهدت المدينة المنوّرة على يدي عبد الرّحمان بن عوف نموذجًا راقيًا من الاستشارة وسبر الآراء لم يستثن حتّى النّساء والصّبيان والعبيد أفضى إلى انتخاب عثمان بن عفّان رضي الله عنه ثمّ مبايعته بالخلافة…

مجال الانتخابات

إنّ مجال الانتخابات ـ أي الدّائرة التي تمسحها والميادين التي تشملها ـ قد يضيق أو يتّسع بحسب النّظام المتّبع والمبدأ الذي انبثق عنه: ففي النظام الدّيمقراطي تتدخّل الانتخابات في العديد من الميادين وتشمل الكثير من الأمور مثل انتخاب رئيس الدّولة وانتخاب أعضاء البرلمان أو المجالس التّشريعيّة والنّيابية، والانتخابات البلديّة…هذا إلى جانب الانتخابات الدّاخلية في صفوف الهيئات الدّستورية والمؤسّسات الإداريّة الخدماتيّة وسائر المناصب التي تقتضي مشروعيّة انتخابيّة على غرار رئاسة النّقابات والعمادات والمنظّمات الكبرى وسائر القطاعات…أمّا مردّ هذا الاتّساع والشّمول فيرجع إلى نظام الأكثريّة أو الأغلبيّة الذي تقوم عليه المنظومة الدّيمقراطية: فالدّيمقراطية هي حكم الأغلبيّة وتشريع الأغلبيّة، فاختيار الحكّام وأعضاء المجالس النّيابية وأعضاء المؤسّسات والسّلطات والهيئات يتمّ بالأغلبيّة…كما أنّ سنّ التشريعات في المجالس النّيابيّة واتّخاذ القرارات في كافّة المؤسّسات والسّلطات يتمّ برأي الأغلبيّة…لذلك فإنّ الأغلبيّة في النّظام الدّيمقراطي مُلزمة للجميع حُكّامًا ومحكومين، لأنّ الأغلبيّة معدّلة ورأيها هو المعبّر عن إرادة الشّعب، وما على الأقليّة إلاّ أن تنصاع…أمّا في الإسلام فمجال الانتخاب يختلف باختلاف طبيعة الأمر موضوع الانتخاب: فالمسائل التّشريعية العبرة فيها بقوّة الدّليل الشرعي لأنّ المشرّع هو الله، وصاحب الصّلاحية في تبنّي الأحكام الشرعيّة هو الخليفة وحده…والمسائل الفنيّة والفكريّة التي تحتاج إلى خبرة وفكر وإنعام نظر فالعبرة فيها بالصّواب لا بالأغلبيّة ويُرجَعُ فيها إلى أصحاب الاختصاص…أمّا الرّأي المجرّد المؤدّي إلى العمل والذي لا يحتاج إلى تفكير ورويّة من قبيل (من ننتخب ـ متى نخرج ـ ماذا نركب…) فإنّ الأكثريّة فيه معتبرة ومُلزمة، لأنّها تدركه ويمكن أن تعطي الرّأي فيه بما يحقّق المصلحة…وعلى هذا الأساس فإنّ الانتخابات في الإسلام يضيق مجالها لينحصر في حالتين اثنتين لا ثالث لهما: أولاهما انتخاب الخليفة بعد حصر مجلس الأمّة أسماء المرشّحين للرّئاسة، فيجري الاقتراع لانتخاب أحدهم من طرف الأمّة… الحالة الثّانية هي انتخاب أعضاء مجلس الأمّة الذي ينوب عن الأمّة في الشّورى والمحاسبة…فالانتخابات في ظلّ الإسلام مقيّدة ـ مجالاً وإلزاميّة ـ بأحكام الإسلام ومنسجمة مع واقع الدّولة الإسلاميّة ونظام الحكم فيها…

الانتخابات البلديّة

بعد هذه المقدّمة النّظرية المطوّلة ننتقل إلى استعراض أنواع الانتخابات في المنظومة الدّيمقراطية وبيان حكم الشّرع في المشاركة فيها ترشُّحًا وترشيحًا، والبداية مع الانتخابات البلديّة التي أظلّنا زمانها في تونس (06 ماي 2018)…إنّ الأصل في جهاز البلديّة أنّها مؤسّسة إدارية خدماتيّة مستقلّة عن السّلطة السياسية تقدّم خدماتٍ للمتساكنين في دائرتها من قبيل النظيف والتّظيم والمرافق والإداريّات في حدود المباح…فنشاطها يندرج ابتداءً في خانة المسائل البسيطة غير الشّرعية ولا الفنيّة التي لا تحتاج إلى تفكير ورويّة، فهي محلٌّ للآراء المجرّدة المؤدّية إلى العمل والتي يؤخذ فيها برأي الأغلبيّة…من هذا المنطلق وعلى هذا الأساس فإنّ المشاركة في الانتخابات البلديّة ـ ترشُّحًا وترشيحًا ـ والدّخول في المجالس البلديّة والنّشاط ضمنها جائز من حيث الأصل…لكن بالرّجوع إلى الواقع الحالي لجهاز البلديّة في تونس نلاحظ انزياحًا خطيرًا عن الأصل أفقدها صفتها وبالتّالي حكمها شرعًا: فالبلديّة الحاليّة لم تعد مؤسّسة إدارية خدماتية مستقلّة عن السّلطة السياسية بل أصبحت جهازًا تنفيذيًّا يتبع عمليًّا الحكومة، أي جهازًا حكوميًّا يتعاطى سياسة الحكومة ويجمع النّاس تأييدًا لها، ومن ثمّة تلزمها السّلطة بأيّ نشاط سياسي تُريده وتمنعُها من أيّ نشاط لا تُريده ولو كانت فيه مصلحة العامّة…كما أنّ المجلس البلدي يباشر عمليًّا إعطاء التّراخيص لأمور محرّمة شرعًا ويتصرّف في أموال البلديّة بطريقة غير مشروعة، هذا فضلاً عن كونه صوريًّا يستطيع النّظام إلغاء قراراته حتّى لو اتّخذها بالإجماع…أمّا عن مجلّة الجماعات المحليّة الجديدة فالمراد منها إيجاد أرضيّة لتفتيت البلاد وإيجاد موطئ قدم للكافر المستعمر فيها، ناهيك وأنّ البلديّات التونسية أصبحت أوكارًا لنشاطات مشبوهة تنهال عليها الهبات المشروطة على غرار الهبة الأخيرة لـ 11 بلديّة تونسية والمقدّرة بـ 49 مليون دولار من طرف الوكالة الأمريكيّة للتنمية الدّولية لغاية في نفس العمّ سام…من هذا المنطلق فإنّ المناط الشّرعي للبلديّة قد تغيّر وتبعهُ تغيُّر في الحكم من الإباحة إلى الحِرمة: فلا يجوز الاشتراك في الانتخابات البلديّة لا ترشُّحًا ولا ترشيحًا ما دام واقعها على النّحو المذكور بحيث فقدت صبغتها الإداريّة الخدماتيّة المستقلّة عن السّلطة…(يتبع)

بسّام فرحات

CATEGORIES
TAGS
Share This