وثيقة قرطاج.. والتهريج السياسي

وثيقة قرطاج.. والتهريج السياسي

لم تتعد كونها حركة بهلوانية قام بها “الباجي قائد السبسي” حتى يصرف الأنظار عن الأزمة الخانقة التي تتخبط فيها البلاد.. وشكل من أشكال الخدع والحيل التي خبرها “السبسي” وتمرس عليها لعقود طويلة في سرك ” بورقيبة” مثله الأعلى في هذا المجال. وحتى يضفي على تلك الحركة أهمية وتبدو وكأنها ذات قيمة, حشد لها رئيس الدولة العديد من الأحزاب والمنظمات –تسعة أحزاب وثلاث منظمات- وقعوا جميعهم على ما سموه وثيقة قرطاج, وجعلوا منها غطاء لتشكيلة جديدة تحمل عنوان “حكومة وحدة ” ولتذكير قد تضمنت تلك الوثيقة جملة من الأولويات، تعمل الحكومة الجديدة على تحقيقها.. كمحاربة الإرهاب والتشغيل, وكل القضايا العالقة والتي عجزت الحكومات السابقة على حلها ومعالجتها.

قلنا لقد حشد “الباجي قائد السبسي” العديد من الأحزاب والمنظمات لدعم ونصرة مبادرته وإيهام الناس أنها ذات بال وجدوى, وفي المقابل كان تهافت تلك الأحزاب والمنظمات على الانخراط فيها على أساس مراعاة مصلحة البلاد والعباد, لما احتوته من تدابير ستقضي على دابر التأزم الذي تتخبط فيه تونس وفي كل المجالات.. هكذا سوقوا لوثيقتهم وأضفوا عليها مسحة هائلة من القداسة تكاد تفوق تلك التي أغرقوا فيها دستورهم سيء الذكر, إلى درجة حولوها إلى المصدر الوحيد الذي يجب على الحكومة أن تستند عليه في كل خطوة تخطوها. كما جعلوها المقياس الأوحد لكل ما تبرمجه الأحزاب والمنظمات التي وقعت عليها, وكل من يحيد على ما جاء في الوثيقة يرمى بشتى أنواع النعوت القبيحة. ولقد شاهدنا جزالات عديدة بين الأطراف الموقعة, فتارة يتهم اتحاد الشغل الحكومة بخرق بنود الوثيقة, وطورا تتهم الحكومة إما اتحاد الشغل أو أحد الأحزاب بالنكوص والتراجع على ما التزموا به  في الصحيفة الخارقة تلك. وبما أن الأمر دبر بليل, ولم تكن الغاية من مبادرة “الباجي قائد السبسي” عموما ومن وثيقة قرطاج خصوصا لا مصلحة البلاد ولا أي شيء من هذا القبيل بل المراد من كل ذلك صرف الأنظار عن الوضع المزري الذي وصلت إليه البلاد. كما لم يكن توقيع تلك الأحزاب والمنظمات على وثيقة قرطاج إلا من أجل غاية واحدة وهي خدمة لمصالح ذاتية ضيقة أملتها مرحلة معينة تقتضي الارتماء في أحضان من له اليد الطولى في الحكم والمتحكمة في المشهد السياسي برمته.

هذا دون أن ننسى أن جميع الأحزاب والشخصيات السياسة في تونس تنظر إلى الحكم أو محيطه على كونه مغنما ولا ضير في استعمال جميع الوسائل لنيلهو وهذا ما ترجمته وبوضوح شديد الانسحابات المطردة من الوثيقة التي جعلوا من الالتزام بما جاء فيها مسألة حياة أو موت, لقد تنصل الحزب تلو الآخر من تعهداته حتى أن أحد الموقعين على وثيقة قرطاج قال أنها ولدت ميتة ولا خير يرجى منها.. وتحول الدعم اللامشروط لما يسمى ب”حكومة وطنية” إلى طعن وتجريح في مؤثثيها, هذا دون الحديث عن الانتقادات اللاذعة لأدائها. وهنا لسائل أن يسأل عن أسباب هذا الانقلاب المفاجئ في مواقف الأحزاب من الوثيقة المذكورة.. وكما يقال “إذا عرف السبب بطل العجب”, فالسبب واضح لا يستحق التبيان وهو نفسه الحاضر دوما في توجهات الأحزاب والحكومات المشمولة بهذا النظام السياسي الوضعي العقيم, فلا شيء يحركها غير المصالح الآنية الضيقة. فآخر ما يعنيهم هو مصلحة البلاد وحسن رعاية شؤون الناس. فبالنسبة إليهم هناك استحقاق هام على الأبواب ويجب الاستعداد إليه جيدا, ألا وهو الانتخابات البلدية, وأول خطوة يجب القيام بها هي التبرؤ من حكومة لم تحصد منذ أن جئ بها غير الفشل ومحاولات الانحياز إلى الناس والتكلم بألسنتهم عسى أن يضمن ذلك أصواتهم يوم الاقتراع.

وكما ذكرنا سابقا لا شيء يحدد أهدافهم غير مصالحهم وأطماعهم, فهم يعلمون مسبقا أن الحكومة التي جادوا عليها بدعمهم فاشلة منذ ولادتها, كما أنهم يدركون تمام الإدراك بأنهم هم الفشل عينه. لكنهم لا يملكون في جرابهم من زاد غير الدجل والشعوذة السياسية والكثير الكثير من التهريج, لهذا كانت وثيقة قرطاج في أولاها وفي نهايتها ضربا من ضروب التهريج السياسي.

حسن نوير

CATEGORIES
TAGS
Share This