على إثر تكشف حقائق الوضع الخطير الذي أوصلت إليه سياسات الحكومات المتعاقبة منذ اندلاع الثورة البلاد، وعلى مختلف الصّعد: السياسية والإقتصادية والإجتماعية، وهو الأمر الذي لم يعد بالإمكان إخفاؤه أو تجاهله، بدأ الحديث عن إفلاس البلاد يرشح من حين لآخر، حتى أن يوسف الشاهد لم يجد حرجا في التلميح إلى إمكانية بلوغ درجة عدم القدرة على الإيفاء بجرايات المتقاعدين. وبعد الإنطفاء السريع لجذوة وثيقة ” قرطاج 2″ وريثة ” قرطاج الأولى ” التي انفرط عقدها وتخلى عنها داعموها، التجأ يوسف الشاهد إلى ما أسماه ب ” الإصلاحات الكبرى ” في ندوة أشرف عليها يوم الأربعاء 11 أفريل 2018 ليلتف على فشله الذريع في إدارة البلاد والعجز الكلي على تحقيق أي إنجاز، وموهما الرأي العام أنه أتى بما لم تستطعه الأوائل، تسانده في ذلك جوقة إعلامية وحملة دعائية لم يحظ بمثلها أيّ من أسلافه من رؤساء الحكومات الذين سبقوه منذ 14 جانفي 2011 وأن الخلاص من الأزمة التي تعيق البلد متوقف على إصلاحاته هذه، موهما الرأي العام أن هذا الحل هو معقد الآمال وأن أزمات البلاد متوقفة على المضي قدما على هذا الطريق، وقد قصر الأزمة وحلولها على معالجة النقائص التي تعيشها الوظيفة العمومية.
عبث معهود منذ زمن: من التعاضد والاشتراكيّة البورقيبية إلى التأهيل الشامل مع المخلوع
مثل هذه الحلول الوهمية والسياسات الإرتجالية ومثل هذا العبث بمقدرات الناس ومصائرهم والضحك على ذقونهم ليس بغريب عن أهل تونس، فلطالما عانى جمهور الناس في بلادنا مما سمي حينها بسياسة ” التعاضد ” أو ” الاشتراكية البورقيبية ” في المنتصف الثاني لعقد الستينات من القرن الماضي والتي كادت تودي بالبلاد إلى الخراب، وهي السياسة التي وقع الدعوة والدعاية لها كحل لجملة أزمات حكم بورقيبة مع رفاق دربه ممن سمّوا حينها باليوسفيين وصراعه مع الزيتونيين أو مع قادة مقاومة الإستعمار الفرنسي. تلك السياسة التي تخلى عنها بورقيبة ببساطة عجيبة لا يأتيها إلا عديمي الضمير متنصلا من مسؤوليته السياسية والأخلاقية، عن سياسة عمِل بقوة على إرسائها والضغط بكل وسيلة من أجل تطبيقها، محملا الفشل في ذلك إلى رئيس حكومته يومذاك الباهي الأدغم وصاحب الوزارات الخمس: أحمد بن صالح. وليتم التحول الكامل من السياسة ” الإشتراكية ” إلى سياسة الإنفتاح الإقتصادي وتمكين رأس المال الأجنبي من اكتساح مواطن الإنتاج وفتح سوق العمل له بامتيازات لا تتوفر للمستثمر المحلي، فيما سمي يومها ب ” قانون 72 ” ترافقها نفس جوقة الطبالين والمدّاحين.
ولم يشذ المخلوع عن القاعدة فكان من نتائج إتباعه لما سمي حينها بسياسة التأهيل الشامل أن وضعت سياسات التفريط في مؤسسات الإنتاج الربحية بدعوى أن الدولة والمجموعة الوطنية تتحمّل أعباء مؤسسات خاسرة وأن الحل الأمثل هو بيعها للرأسمال الخاص للتخلص من تبعتها وتسليمها إلى الجهات القادرة على رفع إنتاجيتها، ليقع التفريط مثلا، في جزء هام من راس مال شركة الإتصالات ” تونس تليكوم ” وجملة من مصانع الإسمنت إلى شركات أجنبية سرعان ما تضاعفت إنتاجيتها وارتفعت أسعار بضاعتها بشكل أرهق الناس وأعنتهم.
إصلاحات أم إملاءات
ويوضح قول رئيس الحكومة يوسف الشاهد، خلال الندوة، “إن الإصلاحات الكبرى تأخرت لسنوات، وأن الحكومة ستتحمل مسؤولية الانطلاق في عملية الإصلاح مهما كلفها الثمن ” أن إصلاحاته هذه لم تكن من فلسفة وسياسة حكومته والتي من المفروض أنها جاءت إثر فشل من سبقها، معترفا أنها ستكون مؤلمة للطبقات الضعيفة والتي تتحمل دائما تبعات السياسات الفاشلة، وإنما هي إملاءات صندوق النقد الدولي الذي استطاع التمكن من تلابيب الحكم في بلادنا وفرض سياساته عليه واستعداد فريق الشاهد تحمل تبعة تنفيذ هذه السياسة ولو كان الثمن رأس حكومته.
إلّا أن ما يجب لفت النظر إليه أن نقائص المنظومة العمومية بحسب تقويم الشاهد والمتمثل في نقاط هي:
-منظومة تأجير معقدة ومتشعبة وتفتقر إلى عنصر التحفيز
-غياب منظومة تقييم ناجعة لأداء العون العمومي
-غياب نظام للتصرف التقديري في الموارد البشرية
-تضخم عدد الأعوان العموميين بين موظفين وعملة وارتفاع كتلة الأجور ونسبتها في ميزانية الدولة
وهي التي أجمالها في الكلفة المالية التي تتحملها المنظومة العمومية وبدائل صندوق النهب الدولي التي ينفذها الشاهد ” لإنقاذ المنظومة العمومية ” مالية أساسا تتمثل في المحافظة على المنحى التنازلي لحجم كتلة الأجور من الناتج المحلي الخام بهدف النزول بها تحت سقف 12,5 بالمائة في حدود سنة 2020 و الحد من الإنتدابات العشوائية و يحرص على متابعة هذا التنفيذ ” روذر بيورن ” رئيس وفد صندوق النقد أثناء زيارته في ديسمبر الماضي إلى تونس وليفرج في فيفري الماضي ممثل الصندوق هذا عن قسط ثالث من القرض الممدد بقدر رضي الصندوق عن تنفيذ الفريق الحكومي لاشتراطاته.
من شيطنة المؤسسات العمومية إلى الخضوع والتفريط
إلا أن ما يجدر الإشارة إليه أننا تحت أنظمة الحكم التي تسلطت علينا سواء أيام بورقيبة أوبن علي أو حكومات ما بعد الثورة فإن فشل سياساتهم المتعاقبة تحملها الناس ورزحوا تحت كلكلها وصرفت أبصارهم عن الحلول الصحيحة حماية للنظام الرأسمالي المهيمن على ثروات البلاد فلا تعد في رصيده ولا توظّف لتنميته، فبعد تمكين الشركات العالمية من مقدرات البلاد المنجمية والحيلولة دون وضعها موضع البحث والنظر امتد طمع هذه الشركات إلى المؤسسات الربحية كوكالة التبغ، وشركة الكهرباء والغاز، وشركة استغلال المياه … والتي دفعت دفعا إلى الفوضى وفساد من أجل الإقتناع بضرورة التفريط فيها إلى القطاع الخاص والذي سوف لن يكون إلا أجنبيا ولعل مثال الصيدلية المركزية التي كانت ديونها في حدود 300 مليار حين اندلاع ثورة 17 ديسمبر2010 لتصبح وبعد سنتين لهذه المؤسسة فائض يتجاوز ال50 مليار لنسمع اليوم أن ديون الصيدلية المركزية في حدود 800 مليار… فهل نقتنع إذا بوجاهة بيعها؟
فهل أن نظاما فرط في ثروات البلاد الطبيعية للأجنبي، وأفسد الفلاحة بتضييعه لقطاع حيوي، الزراعات الإستراتيجية، كالقمح ليصبح “مطمور روما ” يستورد غذاءه من آفاق الدنيا ونزل بمناهج التعليم والتربية إلى حدود الإسفاف، ليضع البلد تحت سطوة صندوق النقد، والمؤسسات الدولية، ويرهن ماليته بما يشترطه من “مزيد الإصلاحات” ثم يعمل على إكراه الناس على تحمل تبعة سياسة خضوعه للأعداء المستعمرين ولتمرير القوانين والتشريعات المجسدة التي تثبت هيمنة المستعمر علينا وبقبول ما سمّي ب «إصلاحات هيكلية موجعة» متهما من يرفض هذه الخيانات بالعمل ضد المصلحة العامة وب” اللاوطنية”
آن للعقلاء من أبناء البلاد أن لا ينخدعوا بمثل هذه العناوين الجوفاء ” الإصلاحات الكبرى ” و ” وثيقة قرطاج” … وأن لا يرجوا من هؤلاء المتسلطين على الرقاب خيرا، وأن لا يأملوا حلّا عند من لا يرقبون في مؤمن إلّا ولا ذمة. وأن يدركوا أن الخير كلّ الخير في شرع ربنا العزيز الحكيم الذي تطلبه دولة الخلافة: خلافة على منهاج النبوة.