ماذا سيتغير في تونس بعد الانتخابات البلدية؟
في السادس من شهر ماي المقبل، يفترض أن تمر تونس بآخر مرحلة من مراحل تعليب الثورة وتحنيطها، والمتمثلة في الانتخابات البلدية التي يطمع من خلالها الاستعمار وضع قطار تونس على سكة الديمقراطية الغربية مجددا بعد أن كاد يحيد عن طريقه ذات “ربيع عربي”، لتنتهي بذلك مهمة الحكومة الحالية ويسند الدور إلى تركيبة حكومية جديدة تقتسم الأدوار مع قوائم الحمار الوطني الأربع وتستكمل مشوار الدجل السياسي المتمسح بالثورة، فتعيدنا مجددا إلى سماع كلمات تلك الأسطوانة المشروخة التي تبدأ بالتذكير بأنها ليست حكومة العصا السحرية فتطلب للنجاح في مهامها هدنة سياسية واجتماعية وتنتهي بدق ناقوس الخطر وبتحقيق نتائج كارثية على جميع الأصعدة تحطم بها الأرقام القياسية مقارنة بالحكومات السابقة استجابة لإملاءات مؤسسات النهب الدولي ضمن مسلسل درامي طالت حلقاته وأتعبت متابعيه، ليستمر الغرب عبر أبواقه في إقناعنا بأن المشكلة دائما في الأشخاص وليست في النظام، وما علينا سوى تصديق أكاذيبه…
قد يظن البعض ممن انحسر فكره داخل الصندوق فعلّق آماله على نتائج الانتخابات البلدية أن التفكير في هكذا سيناريوهات هو ضرب من ضروب التشاؤم الذي تنتجه النظرة السوداوية إلى الواقع، وأن بلادنا رغم الفساد السياسي الذي تعانيه، فهي تزخر بالطاقات والكفاءات القادرة على تحويل تونس إلى بلد صناعي قادر على الاستفادة من ثرواته الطبيعية ومقدراته الطاقية وموارده المائية ومنتجاته الفلاحية وكل مصادر الطاقة البديلة بما يمكنه فعلا من استغلال موقعه الاستراتيجي بين دول الشمال الإفريقي كبوابة لكامل القارة السوداء.
ولذلك نجيب ببساطة كل من يرجو خيرا من هذه الانتخابات بدعوى التفاؤل أو التطلع إلى خوض التجربة بأن الغباء هو تكرار فعل نفس الشيء عدة مرات وتوقع نتائج مختلفة، وأن التفاؤل يبدأ بالنظر إلى هذه الطاقات والمقدرات التي حبانا بها الله نظرة جادة تعيد للبلد سيادته المفقودة وكرامته المسلوبة لا نظرة ساذجة تقدم ثروتنا البشرية والطبيعية لغيرنا على طبق من ذهب. قال صلى الله عليه وسلم: “لا يلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين”. رواه البخاري ومسلم.
وبناء عليه، فإن الحفاظ على نفس السياسات الفاشلة وتثبيت أركانها عبر تمديد وتأبيد وضعية الاستعمار بكل منتجاته الفكرية والتشريعية وأدواته المحلية في الحكم والإدارة وأبواقه الدعائية التي تتحكم في نمط عيشنا واستنزاف أجيال لتحقيق ذلك، هو غباء موصوف قد يوصل صاحبه إلى درجة العمالة بل الخيانة وإن ارتدى ثياب الورع والتقوى، وليس أغبى اليوم ممن يغمض عينيه عن حقيقة إشراف السفارات الغربية سرا وعلنا على مسار الانتخابات وهيئتها “المستقلة”، بداية من انتخابات المجلس التأسيسي في 2011 مرورا بالانتخابات التشريعية والرئاسية في 2014 ووصولا إلى الانتخابات البلدية في 2018.
ثم ألم يخالف رئيس الدولة الدستور قولا وفعلا وفي أكثر من مناسبة ليس آخرها تعيين الشاهد نفسه رئيسا للحكومة استجابة للمسؤول الكبير؟ ألم يصرح منسق حملة المنصف المرزوقي سابقا على إذاعة شمس أف أم بأن نتائج الانتخابات الرئاسية كانت محسومة سلفا لصالح السبسي داخل سفارة دولة أجنبية عظمى؟ أليس التوافق الديمقراطي نفسه هو طبخة سياسية أعدت تحت وقع الاغتيالات لتُقدم للشعب كحل حتمي لمشكل مفتعل هو الإرهاب المصنع؟ فلماذا الانتخاب والأمر محسوم في الكواليس؟ في المقابل، هل أجاب الساسة الكرام عن الأسئلة الحارقة لهذا الشعب المكلوم بداية من حقيقة القناصة مطلع الثورة مرورا بألغام الشعانبي وأرواحه الشريرة ووصولا إلى قضايا محاولات الانقلاب والتآمر على أمن الدولة، أم أن كل الملفات طويت إلى غير رجعة بعد أن استعملت كورقة ضغط على جهات سياسية أوصلت البلاد إلى هذا الحال وهي مستعدة للمزيد من الاغتيالات والألغام والحاويات المتعددة الجنسيات عبر مناصبها في الدولة؟
أسئلة عديدة لا تزال تطرح نفسها على كل من يريد طي صفحة الماضي القريب، والمرور سريعا إلى تحصيل المزيد من المناصب والمكاسب على حساب شعب موعود بمزيد من الضنك والقهر الديمقراطي، حتى أن أحدهم لا يسأل نفسه لماذا يتجاوز عدد البلديات الثلاثين في المنستير مع أن ولاية تونس تحتوي فقط على ثمانية بلديات، وكأنهم غير معنيين إلا بالوصول إلى غنيمة السلطة وإن كانت سلطة محلية كرسها دستور “نوح فيلدمان” الذي حاول استنساخ تجربة العراق في الديمقراطية اللامركزية والحكم المحلي.
إن الأزمة اليوم، هي أزمة سياسية بامتياز، وإن الحل لكل هذه الأزمات لا يمكن حصره البتة في اجراءات انتخابية تقفز على الواقع الفعلي لأهل تونس دون تقديم الحلول والبرامج السياسية الكفيلة بإخراج البلاد من الأزمات المتعاقبة منذ دخول الاستعمار إلى يوم الناس هذا.
إن القضية اليوم لا يمكن اختزالها في وضع ورقة في صندوق ذات يوم أحد، إذ هي قضية سيادة وسلطان تتجه بشعوب الأمة نحو العزوف الواعي عن انتخاب العابثين بوحدة كيانهم وبسيادة بلدانهم، وإن سلطان الغرب ونفوذه على بلاد الإسلام وتدخله في كل شاردة وواردة صار أوضح من الشمس في رابعة النهار، ولذلك فإنه من المحال عقلا أن يكون الحل لتحرير البلاد والعباد وتحقيق الاستقلال الفعلي لتونس أو لغيرها من بلاد الإسلام بأيدي من اغتصب سلطان أمتنا فقطع أوصالها واستباح دمائها، فضلا على أن يكون بأيدي هذا الطابور الخامس من حكام اليوم، فلا هم استوعبوا الدرس ممن قامت ضدهم الثورات ولا هم يملكون من أمرهم شيئا، بل راحوا يتنافسون على الارتماء في أحضان أسيادهم بنسق جنوني لإدراكهم حقيقة عجزهم عن الحكم دون سند خارجي، فباعوا الأرض والعرض وأهلكوا الحرث والنسل فقط من أجل بقائهم في الحكم ونسوا أن الأمر بأيدي مالك الملك، يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء، “وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَر ” سورة القمر، الآية 50.
إن التغيير الحقيقي يبدأ من برنامج قائم على عقيدة الأمة، ونظام يجعل السلطان لها والسيادة لشرع ربها، هو نظام الإسلام الذي يجعل أمر المسلمين بأيديهم لا بأيدي المستعمرين المتربصين ببلادهم، ولذلك فإن التغيير يبدأ من تغيير العقلية بالإسلام وأحكامه الجليّة، تغييرا يستحيل معه ابتلاع الطعم مجددا أو قبول تمرير كذبة الديمقراطية وبناء دولة الحداثة التي جاء بها الغرب عبر عميله بورقيبة ومن بعده بن علي لاستساغة نظامه الرأسمالي الذي ضحك به على ذقون الشعوب ولا يزال، ولا عبر النواطير الجدد من المتمسحين بالثورة، ممن لا يعلم أحدهم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا. قال تعالى: “إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ”. سورة الرعد، الآية 11.