باسم الوطنية.. تونس البلد المستباح

باسم الوطنية.. تونس البلد المستباح

ونحن نتصفح العقود الستة التي مضت على تركيز ما يسمى بالدولة الوطنية والملقبة بدولة الحداثة.. وغير ذلك من التسميات والتوصيفات الجوفاء والخاوية من كل معنى..لا نكاد نعثر على نقطة ضوء يتيمة بحكم أن تلك الدولة بناها “بورقيبة” ومن معه على شفا جرف هار.. مما يسهل عملية استباحة بلادنا من قبل كل طامع وناهب وغاصب, فدستور 1959 الذي وضعه “بورقيبة” وزمرته كان أهم ما جعل تونس عرضة لتنجرف نحو هوة الفقر والجهل, وكل حفر التردي.. خاصة وهذا الأهم رهن مصير البلاد في جميع المجالات بيد القوى الاستعمارية. ولا يتعدى دور الجالسين على كرسي الحكم حدّ تنفيذ الأوامر الصادرة من خلف البحار.. وبذل قصار الجهد والتنافس في ما بينهم. كلّ يريد خدمة الجهة الأجنبية التي يدين لها بالولاء. وتلك الآثام ترتكب وتمر تحت غطاء اسمه الوطنية.

الوطنيّة, هذه الكلمة الهلامية يتسلح بها كل عميل وخائن وفاسد.. فيكفي أن أحدهم  يلقي خطبة محشوة بحب الوطن والتضحية في سبيل الوطن..و و.. حتى يحصل على دكان في سوق النخاسين أين تعقد المزادات العلنية والسرية لبيع البلاد ببشرها وحجرها دون أن يرتجف له جفن. فبقطع النظر عن كونهم مزقوا جسد الأمة بسكين الوطنية وحولوه إلى أشلاء, جعلوا من هذه الرابطة الفاسدة التي لا ينبثق منها أي نظام ولا تقدم معالجات البتة. ذات أنواط, يعلقون عليها تآمرهم وتواطئهم مع الأعداء. فيعطونه المشروعية. ويزيفون حقيقتهم بمجرد -كما أسلفنا الذكر- أن يملأ أحدهم الدنيا صراخا, وينثر يمنة ويسرة كما هائلا من الكلام الإنشائي المنمق. يستعرض فيه قوة وطنيته ومدى عشقه للوطن.. وعلى الجميع أن يصدقه ما دام صرخ إلى حد انتفاخ أوداجه.

أما ما يصدر عنه من أعمال فذلك لا يمكن فحصه وتمحيصه, لأن الوطنية تقاس بما يقال ولا تقاس بما يفعل. ولقد قال أن الوطنية تجري في عروقه مجرى الدم وحسبه ذلك. ف “بورقيبة” و “بن علي” أكثر من رفع لواء الوطنية, وأكثر من تشدق بحبه للوطن. وهما أكثر من خان البلاد. والنتيجة أن بورقيبة ” وضع حجر الأساس لمصنع العمالة, وبن ” علي” أكمل بناء دولة الضرار.. ويكفي هنا التذكير بأنه كان من رجال مخابرات كيان يهود.. وخلف من بعد “بورقيبة و “بن علي” خلف لم يقلوا عنهما وطنية بل ربما تفوقوا عليهما, مما جعل تونس بلدا أكثر استباحة وأكثر عرضة للانتهاك.

لقد انطلقوا من حيث بدأ “بورقيبة”.. من الفصل الأول من الدستور الذي ينص على  أن الدولة التونسية دينها الإسلام والعربية لغتها. ليحجب هذا الفصل الفضفاض باقي الفصول التي لم تخالف الإسلام فحسب, بل كانت حربا شعواء على الإسلام وأحكامه. مما مكن أعداءنا من استباحة تونس  بشكل تام. بداية من وضع أياديهم الغاصبة والملوثة بدمائنا زمن الاحتلال المباشرعلى ثرواتنا ومقدراتنا. وصولا إلى كل تفصيل يهم شأن البلاد, كبيرا كان أو صغيرا. فهم من يعينون رئيس البلاد ورئيس الحكومة, وباقي الوزراء, وإن لزم الأمر يعينون الولاة والمعتمدين, والعمد إن تراء لهم في تعيين شخص بعينه تحقيقا لمصلحتهم.

ألم يعترف صاحب الهيبة “الباجي قائد السبسي” أن تدخله لحل أزمة حركة “نداء تونس” ومخالفته للدستور كان تنفيذا لأوامر المسئول الكبير؟ ألم يصرح أحد الوزراء بأن سفراء الدول الاستعمارية في تونس استبد بهم الحنق والغضب بسبب حملة “وينو البترول”؟ ألم يترك سفير فرنسا بتونس مكتبه وراح يتجول في البلاد من شمالها إلى جنوبها؟ يراقب ويقرر ويوجه ويعد الناس بالنظر في مشاكلهم وحلها؟ ألم تقم سفيرة بريطانيا بتونس بتدشين مركز للحرس بالجنوب التونسي؟ هذا دون الحديث عن هيمنة صندوق النقد الدولي على كل القرارات بالكامل فهو الذي يرسم السياسات ويسطر البرامج وفق مصالح القوى الاستعمارية باعتباره أحد أذرعها, والثقب الذي تنفث من خلاله سمومها. فهو يملي ويأمر. والبيادق التي تحركها تلك القوى تسوق لما قرره الصندوق السيئ الذكر على أساس أنها إجراءات وحلول جادت بها عبقريتهم وكفأتهم وسعة درايتهم بحل الأزمات.

ف “يوسف الشاهد” منذ إطلالته الأولى من تحت قبة قصر باردو, البوابة الكبرى نحو استباحة البلاد, بشرنا باتخاذه لجملة من الإجراءات المؤلمة لإنقاذ البلاد وإخراجها وأهلها من عنق الزجاجة. ولم يمضي على تعيين “يوسف الشاهد وقت طويل حتى لمس الناس صدق ما بشرهم به الموظف السابق بالسفارة الأمريكية بتونس ورئيس الوزراء الحالي ” -على الورق فقط- فالألم أخذ منهم كل مأخذ وسكن عظامهم. والمرارة أصبحت المذاق المميز لحياتهم, تماما كما بشرهم الشاهد. ما جعلهم يخرجون إلى الشارع, وتجتاح البلاد موجة عارمة من الاحتجاجات تنذر بتكرار ما حصل في شتاء 2010 وأدى إلى فرار “بن علي” الذي أملت عليه وطنيته الاستنجاد بأولياء أموره في بطشه بمن ضاق ذرعا  بسياسته وبفساده وفساد بطانته هذا دون إدراك منبع الفساد وهو النظام..على كل وجد ” بن علي كل الدعم من أعدائنا..ففي عهده كما هو الحال في  عهد “بورقيبة” كانت سياسة العصا هي الطاغية برعاية و مباركة الدول الراعية لحقوق الإنسان وحرية التعبير..ونحو ذلك من أراجيف وأكاذيب النظام الديمقراطي. لم ينفع القمع و التقتيل ” بن علي” وكانت عاقبته الفرار مذموما مدحورا. والحالة تلك كان لابد بعد الثورة أن ترفع الجزرة بدلا عن العصا. اضطرارا وليس اختيارا.. وهو ما حصل في جانفي 2018. فالتعامل مع الاحتجاجات كان مخالفا لتعامل ” بن علي” مع مطالب الحشود الغفيرة التي اكتسحت شوارع البلاد. فحكومة ما يسمى ب “حكومة الوحدة الوطنية” سلكت طريقا ناعما يضمن لها البقاء في الواجهة وتنفيذ ما أمرت به دون أن يعرقل سيرها أحد و لا يعكر صفوها أي محتج على ذبح أهل تونس بسكين املاءات صندوق النقد الدولي. وفي هذه الحالة كان من الضروري أن تتدخل أحد الدول التي تملك حق استباحة بلادنا لتمنع سقوط وكلائها. ومن ثمة تواصل إحكام قبضتها على رقابنا بواسطة صندوق النقد الدولي الذي كانت أوامره سببا مباشرا في اندلاع احتجاجات 2018.

ومثلما يقع تبيض كل ما هو قذر, لجأت حكومة بريطانيا إلى تشغيل شركة إعلانات تعمل في مجال الاتصال السياسي من أجل دعم والأصح تبيض إصلاحات الحكومة الحالية في تونس والتي هي كما ذكرنا املاءات صندوق النقد الدولي. وما كانت حكومة بريطانيا أن تضخ أموالا طائلة لتلميع صورة حكومة الشاهد لو لم يكن ما وراء الأكمة ما وراءها.. فهي حتما ستجني من وراء ما أنفقته مغانم جمة. وفي المقابل لا يجني أهل تونس غير الخراب, وكله بفضل بركات وطنية “يوسف الشاهد” وجوقته. وخاصة وطنية كبيرهم الذي علمهم الارتهان “الباجي قائد السبسي” فباسم الوطنية تباع البلاد وتشترى وباسمها يجوع الشعب ويعرى, وتحت ظلامها يتسلل اللصوص لاستباحة أرضها بعد أن استباحوا حرمات الله.

حسن نوير

CATEGORIES
TAGS
Share This