أوردت بعض وسائل الإعلام الخبر التالي: بعد تفشي ظاهرة الاغتصاب، 30 منظمة تراسل رئاسة الحكومة وعدد من الوزارات والـ”هايكا”: طالبت 30 منظّمة من المجتمع المدني الناشطة في مجال حقوق الإنسان والمرأة والطفل على إثر تكرّر جرائم الاغتصاب ضدّ النّساء والأطفال في تونس الحكومة التونسيّة، بالتعامل بجدّية مع جرائم الاغتصاب وبدعوة السلط المعنية إلى معالجتها والحسم فيها عن طريق تطبيق القانون ومقاضاة المجرمين والتحصين الفعلي للمجتمع بمعالجة العوامل والأسباب الاجتماعية والثقافية والنفسية المؤدية إلى تنامي ظاهرة العنف… وفي إطار حملة تحسيسية واسعة لمناهضة جرائم الاغتصاب، طالبت 30 جمعية وزارة العدل بالعمل على تفعيل القانون عدد 58 المتعلق بالقضاء على العنف ضد المرأة في فصله 227 جديد الخاص بجرائم الاغتصاب ومنها اغتصاب الأطفال والقُصّر والذي ينص بوضوح على العقوبات التي تسلّط على مرتكب جريمة الاغتصاب… وطالبت وزارة التربية بالعمل على مراجعة المنظومة التربوية في اتجاه ترسيخ برامجها لقيم المساواة بين الجنسين ومناهضة كافة أشكال التمييز والدونية نحو النساء وكافة مُسوّغات انتهاك الحرمة الجسدية والعنف تجاههنّ وبالعمل على برمجة حملات تحسيسية ضدّ هذه الجرائم داخل المؤسسات التربوية وبتوعية الإطار التربوي حول خطورة هذه الآفة وما يمكن أن ينتج عنها من اضطرابات عند الأطفال والقصّر ضحايا جرائم الاغتصاب. من جهة أخرى، دعت الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي والبصري إلى القيام بدورها للحدّ من تناول بعض وسائل الإعلام قضايا العنف والاغتصاب ضد النساء والفتيات والأطفال بطريقة غير حرفية وغير مسؤولة تنتهك من خلالها حقوق الضحايا وتكرس ثقافة العنف والتمييز ضدّ النساء” (عن موقع: آخر خبر أونلاين، بتاريخ 12/09/2018م).
نقلنا هذا الخبر كمثال عن الإسفاف والابتذال والسطحية التي تعالج بها قضايا المجتمع الحارقة من طرف فئة تسمى بـ”منظمات المجتمع المدني” تهتمّ حسب زعمها بحقوق الإنسان والمرأة والطفل. فهذه المنظمات تصطاد في الماء العكر، وتوجّه المجتمع رغم نكباته ومآسيه ومصائبه وجهة ثقافة وأيديولوجية ومفاهيم حضارية معيّنة كانت هي السبب في حصول تلك النكبات والمآسي والمصائب. وهذه المنظمات، توظّف الكوارث الواقعة في المجتمع توظيفا سياسيا أيديولوجيا لتسرّع في تحقيق برامجها ومخططاتها رغم قيام البرهان الساطع والحجّة القاطعة على أنّ تلك الكوارث نتيجة لتلك البرامج والمخططات.
تركّز هذه المنظمات على فكرة التمييز ضدّ المرأة وتطالب بتفعيل قانون القضاء على العنف ضدّ المرأة المبني على فكرة الجندر الغربية، وكأنّ المغتصب لم يفعل فعلته إلّا من منطلق نظرته الدونية للمرأة، ولو كان مقتنعا واعيا بالمساواة بين الجنسين، لما اقترف هذا الذنب. وتنسى هذه المنظمات، أنّ الاغتصاب مثلما يقع على الإناث يقع على الذكور، وأنّ فكرة الجندر التي يتبناها الغرب وتقوم عليها مؤسساته التربوية ويربّى الأطفال عليها وتدعمها السلطات والإعلام والقضاء، لم تمنع ظاهرة الاغتصاب في مجتمعه ولم تعالج المشكلة. ومثال ذلك: كشفت دراسة حديثة أنجزها مركز بحوث “جون جوراس” الفرنسي أن 12 في المائة من النساء الفرنسيات، تعرضن للاغتصاب مرة واحدة على الأقل في حياتهن، أي ما يعادل نحو 4 ملايين امرأة، وأكدت الدراسة التي نشرها موقع إذاعة “فرانس إنفو” أن 43 في المائة من الفرنسيات تعرضن للاستغلال الجنسي الجسدي، و50 في المائة تعرضن لشتائم لفظية جنسية، و58 في المائة تعرضن لسلوك جنسي غير لائق، مرة واحدة على الأقل. (عن موقع ميم، مقال: فرنسا وبريطانيا: أرقام مفزعة عن حالات الاغتصاب، لهالة سويدي، بتاريخ 24/02/2018م). فالقضية إذن لا تعالج بمناهضة أشكال التمييز والدونية، وترسيخ ما يسمّى بثقافة المساواة بين الجنسين الغربية، فلو كانت فيها فائدة، لأفادت الغرب نفسه.
ظاهرة الاغتصاب نتيجة ثقافة الحداثة:
منذ الاستقلال، بدأت مسيرة التغريب في بلادنا مع بورقيبة بقوّة، ترعاها السلطة وتشرف عليها أجهزة الدولة، وتمّ القضاء على مؤسسة الزّيتونة التي كانت – رغم علّاتها وأمراضها – حريصة على إبقاء البلاد مرتبطة بجذورها الفكرية والثقافية الإسلامية. ولما استلم بن علي الحكم سنة 1987م عمل على استمالة النّاس الذين كانوا توّاقين لعودة الثقافة الإسلامية وربط البلاد بجذورها الحضارية، فأعلن إعادة التعليم الزيتوني، وأظهر التمسّك ببعض العادات والمظاهر الإسلامية، ولكنّه رأى أنّ النزعة الإسلامية في البلاد تهدّد سلطته؛ فتحالف مع اليسار، وبدأ سياسة تجفيف منابع الدّين وترسيخ قيم الحداثة الغربية بالحديد والنار، وكانت النتيجة كارثية على المجتمع. ذهب بن علي وخلّف وراءه جيلا غارقا في الفساد، منغمسا في الرذيلة، لم يأخذ من الحداثة سوى وجهها الأقبح المتمثّل في الانحلال من الأخلاق والإقبال على الشهوات نتيجة سياسة تعليمية وإعلامية تحتقر التّدين وتعتبره مظهر انحطاط وتخلّف ورجعية. ثمّ استلم السبسي الحكم ليتابع سياسة بورقيبة أو بتعبير محمد الطالبي – في كتابه قضية الحقيقة – ليتابع سياسة إجلاء الإسلام من تونس بنور الأنوار.
فمنذ ستين سنة أو يزيد لم تطبّق في بلادنا إلا أفكار الحداثة الغربية. نعم، قد تكون حداثة ناقصة في المجال السياسي، بمعنى أنّها ليست ديمقراطية حقّة وفق النموذج الغربي، ولكنّها بلا شكّ حداثة كاملة فيما يتعلّق بالمجال الاجتماعي والتربوي. فماذا أنتجت هذه الحداثة التي ركّزت على حقوق المرأة والحرّيات الشخصية؟ أنتجت امرأة تتباهى بأنوثتها وتفتخر بإبراز مفاتنها وإظهار عورتها؛ وأنتجت إعلاما يركّز على تمايل النّساء وغنجهنّ؛ وأنتجت فنّا موجّها لفئة (18+) يعدّ عند الحداثيين مفخرة وهو في حقيقته معرّة؛ وأنتجت مصانع أم الخبائث (الخمر) والزطلة. فأنظر إلى الذكور والإناث في المعاهد والجامعات، وأنظر إليهم في الشوارع والطرقات، وأنظر إليهم في المقاهي والصالونات، فماذا ترى؟ ترى نتيجة هذه الحداثة التي أنتجت جيلا “متحرّرا” “متفتّحا” يفهم التقدّم والتطوّر بمعنى الانفلات من كل قيد أخلاقي وديني، لم يأخذ من الغرب الحداثي علمه ومعرفته إنما أخذ نمط حياته المتمثّل في العبثية والعدمية والإباحية.
إنّ المجتمع الحداثي الذي يتقصّد إثارة الغريزة الجنسية عبر السماح بإبراز الأنوثة والتعرّي وإظهار المفاتن، وعبر إنتاج وسائل الإثارة كالمواد التي يقدّمها الإعلام التونسي أو تقدّمها الانترنيت، عليه أن يتهيّأ لمرض الكبت الذي تخلّفه الإثارة؛ فليس كلّ من يثار يشبع غريزته بالرضا، أو يصبر ويقاوم قوّة الإثارة بقوّة أخرى كالأخلاق والدّين والوعي على قيمة القانون، فمنهم من يتفجّر كبته في عنف وشذوذ، ولا يجد من طريق سوى الاغتصاب الذي تعينه عليه أم الخبائث والزطلة في ظل منظومة ثقافية وقانونية عاجزة عن الردع والزجر.
إنّ ظاهرة الاغتصاب القبيحة الشنيعة الوحشية هي في حقيقتها عرض لمرض خبيث عضال في المنظومة الثقافية المفروضة كرها في البلاد، اسمها الحداثة، بقيمها الإباحية ومحاربتها للدّين والشريعة والأخلاق الإسلامية، ولا يتأتى العلاج إلا باجتثاث المرض من أصوله، وذلك بالعودة إلى الدّين الإسلامي بثقافته وحضارته وأنظمته، ليوجد الوازع والرادع؛ الوازع الديني الذي يركّز على قيمة العرض والشرف، وقيمة الالتزام بالحلال والتحلّي بالطهر والعفاف، والذي يؤسّس لتقوى يخشى بسببها المرء ربّه في السرّ كما يخشاه في العلانية. والرادع الذي يزجر أصحاب النفوس الضعيفة والمريضة، ويجعل المغتصب عبرة لمن يعتبر بتطبيق حدّ الشّرع عليه أو تعزيره.