قانون تجريم التمييز العنصري: طرح للحلّ أم تعميق للمشكل؟

قانون تجريم التمييز العنصري: طرح للحلّ أم تعميق للمشكل؟

صادق البرلمان التونسي بتاريخ 09/10/2018م على قانون يجرّم التمييز العنصري؛ لتحوز بذلك تونس -كما زعموا – شرف السبق في العالم العربي كأوّل دولة عربية تسنّ مثل هذ القانون. ويبدو أنّ المشرّعين ومنظّري القوانين في تونس يتملّكهم هوس السبق للسبق؛ فما من قانون يطرح، وما من مشروع تشريعي يقترح إلّا وتحيط به هالة السبق والإشادة بالريادة، وكأنّ السّبق معيار صحّة القوانين ولزومها، أو كأنّ العالم كلّه يخلو من مشرّعين تتملكّهم هم أيضا رغبة السبق أو سنّ القوانين المعالجة لقضايا دولهم.

والحقيقة، أنّ تجريم التمييز العنصري بشكل تفصيلي سبقت إليه عدّة دول عربية إسلامية نصّت عليه في قوانينها، ومن ذلك المغرب في قانونها الجنائي لعام 1962 والجزائر في قانون عقوباتها لعام 1966 والإمارات التي شرّعت سنة 2015م قانون مكافحة التمييز العنصري. وعليه، فلا نعلم على وجه الدّقة ما المقصود بالسّبق الذي تدّعيه بعض وسائل الإعلام التونسية وشخصيات في البرلمان ومنظمّات ما يسمى بالمجتمع المدني، ولا نعلم الفائدة من هذا الادّعاء رغم مخالفته للحقيقة؟

فالقانون المصادق عليه، بما تضمّنه من أبواب وفصول وأحكام، لا جديد فيه، من حيث التعريف وسبل الوقاية والحماية أو استحداث اللّجان المعنية بالأمر، مقارنة بما سبقه من قوانين نصّت عليها من قبل دول غربية وعربية، وإنما الاختلاف في بعض الإجراءات الإدارية والقانونية المتعلّقة بتتبّع الجريمة والعقوبات. ولعلّ أهمّ عنصر في القانون هو تعريف الجريمة؛ لأنّه الأساس الذي تبنى عليه بقية الفصول المتعلّقة بكيفية المعالجة، كما أنّه الأساس الذي يكشف لنا عن عقلية المشرّع. ولهذا نقف وقفة قصيرة عند التعريف لنبيّن بعض الأمور.

1) تعريف التمييز العنصري

– كما جاء في صيغة المشروع القانوني الأساسي عدد 2018/11 المتعلّق بالقضاء على جميع أنواع التمييز العنصري والذي صادق عليه البرلمان التونسي – هو: “الفصل2- يقصد بالتمييز العنصري على معنى هذا القانون كلّ تفرقة أو استثناء أو تقييد أو تفضيل يقوم علي أساس العرق أو اللون أو النسب أو الأصل القومي أو الاثني أو غيره من أشكال التمييز العنصري على معنى المعاهدات الدولية المصادق عليها والذي من شأنه أن ينتج عنه تعطيل أو عرقلة أو حرمان من التمتّع بالحقوق والحريات أو ممارستها على قدم المساواة، أو ينتج عنه تحميل واجبات وأعباء إضافية”. وهذا التعريف مأخوذ من الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري المعتمدة من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة في 21 كانون الأول/ديسمبر 1965م والتي جاء في مادتها الأولى أن المقصود بتعبير التمييز العنصري: “أي تمييز أو استثناء أو تقييد أو تفضيل يقوم علي أساس العرق أو اللون أو النسب أو الأصل القومي أو الاثني ويستهدف أو يستتبع تعطيل أو عرقلة الاعتراف بحقوق الإنسان والحريات الأساسية أو التمتع بها أو ممارستها، علي قدم المساواة، في الميدان السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي أو الثقافي أو في أي ميدان آخر من ميادين الحياة العامة”. وهو التعريف الذي اعتمدته أيضا دول عربية من قبل، فأين السبق والإبداع في هذا؟

2) ورد في النصّ ما يلي:

“كلّ تفرقة أو استثناء أو تقييد أو تفضيل… من شأنه أن ينتج عنه تعطيل أو عرقلة أو حرمان من التمتّع بالحقوق والحريات أو ممارستها على قدم المساواة أو ينتج عنه تحميل واجبات وأعباء إضافية”. وعبارة “الحقوق والحرّيات” من العبارات المطلقة التي تحتاج إلى تقييد؛ لأنّ الحقوق والحرّيات كثيرة متعدّدة ومتداخلة، فما المعني بها هنا؟ الملاحظ إذن أنّ المشرّع التونسي لم يكن دقيقا في تحديد المصلحة المعتبرة في التّجريم أي لم يحدّد بدقّة المحلّ الذي يحدث عليه جرم التمييز وتنصب عليه الأفعال المجرّمة المعتبرة تمييزا عنصريا مع أنّه ينقل النّص نقلا. ولو فكّر المشرّع التونسي لتنبّه إلى القيد الذي وضع في تعريف الاتفاقية الدولية ونقلته بعض القوانين العربية الأخرى وهو عبارة: “حقوق الإنسان والحريات الأساسية”. فالتمييز يتعلّق بالحرمان من التمتّع بالحقوق والحرّيات الأساسية وليس من مطلق الحقوق والحرّيات. ونحن أشرنا إلى هذا من باب بيان الضعف في العقلية التشريعية وليس من باب الإيمان بهذه الحقوق والحرّيات التي صاغها العقل الغربي.

3) ورد في النّص

تجريم التّمييز بمعنى التّفرقة أو الاستثناء أو التقييد أو التفضيل على أساس اثني. ويبدو أنّ المشرّع التونسي لم يفكّر في هذه العبارة، وإنما نقلها نقلا دون إدراك لمعناها ومغزاها. فالتمييز الاثني يختلف عن العرقي – كما ورد في النّص القانوني الذي ميّز بينهما – فهو يتعلّق بمجموعة في المجتمع متميّزة عن الآخرين بروابط مشتركة بين أعضائها كرابط اللغة أو الثقافة أو التقاليد أو غير ذلك. وهذا المعنى يوجد إشكالات في المجتمع الواحد الذي يقسّمه إلى اثنيات قابلة للصراع نتيجة لتضارب المصالح وتعارضها. وعلى هذا، يمكن الحديث في تونس عن الاثنية البربرية مثلا – التي تشجع دعوتها فرنسا الآن -، كما يمكن لهذه المجموعة الاثنية أن تطالب بحقوقها المتعلّقة بلغتها وثقافتها الخاصّة؛ فينشأ في المجتمع صراع مع العرب والبربر. كما يمكن لمجموعة اثنية أخرى (كمجموعة اليهود مثلا) أن تطالب بحقوقها الأساسية من منطلق تجريم التمييز العنصري فتطالب بالمساواة ومنها المساواة في حقّ الترشّح للرئاسة الذي حصر بموجب الفصل 74 من الدستور الحقّ في المسلمين ونص على أنّ من شروط الترشّح لرئاسة الجمهورية أن يكون دين المرشّح الإسلام. أليس من التمييز العنصري الاثني اشتراط الديانة الإسلامية في الترشّح للرئاسة؟ أليس من التمييز العنصري الاثني والديني أن تلزم مجموعة يسارية شيوعية بأن تقسم بالله العظيم حتى يتسنى لها الانضمام لعضوية مجلس نواب الشعب، كما نص عليه الفصل 58 من الدستور؟

إنّ مفهوم الاثنية أعمق وأعقد من هذا بكثير، فهو يتعلّق بالجانب الثقافي والحضاري وليس بالجانب البيولوجي للإنسان؛ فإذا كانت الغاية من تجريم التمييز العنصري العرقي بيان أنه لا فرق بين أسود وأبيض، وضرب فكرة تفوّق العرق الأبيض مثلا على الأسود، فإنّ الغاية من تجريم التمييز العنصري الاثني بيان أنه لا فرق بين دين وآخر ولا فرق بين ثقافة وأخرى، فلا ثقافة تفوق الأخرى ولا دين أفضل من الآخر. وهكذا يفتح الباب للتشكيك في دين أهل البلد، ولإعادة النظر في الدستور الذي نصّ على الإسلام كدين تونس؟ ثمّ، ماذا نفعل مثلا بقوله صلى الله عليه وسلم: «الْإِسْلَامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى». وماذا نفعل مثلا بقوله تعالى في سورة المائدة: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60) وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آَمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ (61) وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63) وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)}؟ أو بقوله سبحانه وتعالى في سورة الفاتحة التي يحفظها ويردّدها الكبار والصغار يوميا: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ (6) غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)}، وعَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الْمَغْضُوبُ عَلَيْهِمُ: الْيَهُودُ، وَالضَّالُّونَ: النَّصَارَى»، هل سنحاكم المسلمين ونحاكم القرآن والسنّة بدعوى التحريض على التفرقة والكراهية ونشر الأفكار القائمة على التمييز والتفوّق العنصري وفق الفصل 9 من هذا القانون المجرّم للتميز العنصري المصادق عليه من طرف البرلمان؟

وبناء عليه، نقول: إنّ هذا القانون لم يعالج المسألة ولم يحلّ المشكلة إنما أثار مشكلات كثيرة ستنشأ عنه في قادم الأيام؛ لأنّه صيغ بعقلية مضطربة مرتبكة تعيش قطيعة معرفية مع حضارة البلاد وثقافتها الأصيلة، تستنسخ مشكلات الغرب ومعالجاته، وتنقل عباراته ونصوصه غاضّة بصرها عن اختلاف الواقع واختلاف الخلفيات الفكرية والثقافية، وأنّ ما يصلح لشعب ليس بالضرورة أنه يصلح لكلّ الشعوب.

ولا يعني هذا البتة، أننا ننكر وجود مشكلة في تونس – كتبنا عنها من قبل وعالجناها – تتعلّق بسلوكيات جاهلية تميّز بين البشر على أساس عرقهم ولونهم، بل نؤكّد ما سبق أن قلناه: “إنّ الدعوة إلى سنّ قوانين لتجريم التمييز العنصري في تونس لن تؤدي إلى إزالة ما ترسّب في أعماق الناس من مفاهيم عنصرية جاهلية؛ لأن هذه الدعوة لا تعالج السبب الحقيقي ألا وهو غياب الإسلام وعزله عن المجتمع. فعلى الساسة أن يفهموا أنّ الأخلاق والقيم في المجتمع لا تنفصل عن الدّين، وأنّ المجتمع الذي يحارب فيه الدّين باسم العلمانية والحداثة الغربية لا يمكن أن ينشأ فيه نشأ يشعر بالانتماء إلى حضارة والتميّز باعتناقها واعتناق أفكارها ومفاهيمها بل سينشأ فيه نشأ فاقد الذّات والهويّة والشّخصية يعبّر عن نفسه بواسطة العنف والتعالي على الآخرين بغير ما اكتسب”.

قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (الحجرات13)، وقال سبحانه: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ} (الروم22).

ياسين بن علي

CATEGORIES
TAGS
Share This