مالية وميزانية الدولة: (2)عقيدتها تحدد مواردها وتحول دون نهبها
بعيدا عن قيمتها المالية, لا تزال ميزانية دولة ما بعد الثورة تتميز بخاصيتين اثنتين تبرز كأن البلد لم تهبّ عليها رياح ثورة وأن لا أثر للتغيير فيها, وأن جهود المسحوقين ودماء الضحايا وآلام المعذبين وإرادة التغيير لدى عامة أهل تونس والتخلص من التبعية للدول والمنظمات الاستعمارية ليس لها أدنى اعتبار عند واضعي أبوابها وفصولها.
ــ أولى الخاصيتين أن قوانين مالية سلطة ما قبل الثورة لا تزال هي الركيزة الأساسية المعتمدة في تحديد أهداف ميزانية سلط ما بعدها وهي قاعدة فلسفة نظرتها إلى قضايا الناس وانتظاراتهم بل وتمثل التنقيحات المتتالية والمدخلة على القانون الأساسي للميزانية في عهد المخلوع نقطة الارتكاز الفعلية لبرنامج “الإصلاح العام للمالية العمومية “.
ــ ثانيها أن أبواب تمويل ميزانية الدولة ترتكز أساسا على مداخيل الدولة الجبائية والمالية، وعبر إصدار رقاع الخزينة، ثم على القروض الخارجية المعتمدة كأقذر أسلوب للابتزاز من قبل هيئات النقد الدوليّة لتفرض مشاريعها وبرامجها الاقتصاديّة،
وفي إهمال تام وتعام مريب عن ثروات البلاد المنجمية, والتي ازداد تغييبها عن أن تكون قاعدة الاستثمار الحقيقي من أجل النهوض بالوضع الإقتصادي وتحسين حال الناس… إذ لا اعتبار لهذه الطاقة في ميزانية الدولة إلا حين الحديث عن ارتفاع سعرها العالمي حين التوريد وما يمثله من ثقل على ميزان الدفوعات بحسب رأي السلطة، رغم علم الخاص والعام أن اقتصاد البلد يتحمل عبء ” توريد داخلي ” قلّ نظيره في العالم من خلال شراء ما قيمته 30% من حاجة البلد من الغاز الطبيعي من الشركة التي منتحتها الدولة التونسية حق بيع إنتاج غاز ميسكار التونسي لتونس بالعملة الصعبة والتي منتحها حقّ ملكية الحقل بنسبة 100% دون التطرق إلى المتخلد بذمة هذه الشركة من أداءات، مما جعل تفاقم نقص الموارد الذاتية يتصاعد والذي انسحب على حجم المديونية التي وصل مستواها إلى درجات خطيرة جعلها تتجاوز ما نسبته 74 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي.
طبيعة مثل هذه الدولة التي لم يكن لأهلها رأي وشأن في ماهيتها ودورها وإنما كان للقوى الإستعمارية ورجالاتها القول الفصل في حدها ومداها، مما حصر طاقة فكرتها، فكرة الوطنية لا تعدو ضبط الشأن العام بالقوة المادية لحراسة المصالح التي تحددها القوى المهيمنة كمسألة حيوية يتوقف على النجاح فيها بقاء طاقم السلطة أو استبداله بغيره ممن هو على قائمة الإنتظار.
ولعلّ فلتة اللسان التي بدرت من رئيس الدولة الباجي قائد السبسي حين تحدث عن المسؤول الكبير الذي عاتبه عن الفوضى التي تعم وسطه السياسي بقوله له: ” كيف يحدث هذا وأنت موجود؟ “
أو لعلّ في قول الرئيس الأمريكي الأهوج ” ترامب ” وهو يتوجه إلى حكام السعودية بالمنّ عليهم أنه حاميهم وإلا لما دام ملكهم حين خاطب الملك السعودي قائلا: “إن كنا سنحميك يجب أن تدفع”، ثم ليعود ليقول في تجمع انتخابي محاولا اقناع ناخبيه بأنه يحسن تدبير أمرهم: “قلت صراحة إلى الملك سلمان أنه لن يظل في الحكم لأسبوعين من دون دعم الجيش الأمريكي”.
لعلّ في هذين المثالين ما يوضح الفرق بين الحاكم الفعلي لقومه الحريص على ما يصلحهم وبين التابع الذليل الذي لا يملك من أمره شيئا. ولعل في هذين المثلين، أيضا، ما يوضح الفرق بين دولة وأخرى وأن الأسس الذي تقوم عليها كل دولة والدور الذي تقوم من أجله والرسالة التي تحملها في الحياة هي التي تحدد طبيعة علاقتها برعاياها وتحدد مسؤوليتها نحوهم وحقها عليهم.
عقيدة الدولة تحدد مواردها المالية ومصارفها
وعلى هذا لا يتجاوز الدور الذي تضطلع به الدول التابعة الحد الذي يرسم لها من قبل القوى المهيمنة حتى لا تخرج عن الطوق المرسوم لها، فتكون ماليتها وميزانيتها محددة في حدود ما يضمن استقرارها. والمقصود بالإستقرار هنا خضوع عموم الناس لنمط العيش الذي فرض عليهم وما يستتبعه من ضرورات الحياة.
على خلاف هذه الأدوار الوضيعة للدول القميئة تكون مالية وموازنات الدول المبدئية بحجم الدور الذي اتخذته وعلى قدر الرسالة الذي تتحملها والعهد الذي ألزمت نفسها به أمام رعاياها. ولنا في القوى العظمى ما يدلل على ذلك:
1 ــ فالولايات المتحدة الأمريكية لم تكن رغبتها في السيطرة على النفط الخليجي بل في كل منابعه من كازاخستان، وانتهاء بأنغولا في افريقيانابع من احتياجها إليه بقدر حاجتها إلى الإحتفاظ بمفاتيح الطاقة العالمية في يدها، وما يعنيه ذلك من التحكم في حركة منافسيها العالميين، مما جعلها تعمل على رفع طاقة السعودية والعراق الإنتاجيتان إلى نحو 22.1 و10 ملايين برميل يوميًا لكل منهما على التوالي، وذلك خلال الـ17 عامًا القادمة.
والولايات المتحدة اتخذت جملة من الإجراءات التي تدعم ماليتها وترفد دورها الذي حددته لنفسها في علاقتها بالعالم، فهي التي:
ــ استحوذت على رصيد البنك المركزي العراقي بأكمله وما صور الجنود الأمريكيين وهم يدنسون رصيد العراق من الذهب بعد أن استولوا عليه ببعيد عن الأذهان.
ــ حولت ودائع العراق من عهد الرئيس السابق صدام حسين من المصرف اللبناني إلى البنك المركزي الفيدرالي الأمريكي.
ــ استولت على كنز نمرود الخرافي من اقبية البنك المركزي العراقي
ــ أصدرت الإدارة الأميركية في عام 2003 وفي أثناء العمليات العسكرية على العراق قرارا بوضع اليد على الاموال العراقية الموجودة في مختلف أنحاء العالم، ثم ألحقته بقرار آخر صدر عقب احتلال العراق سمح للولايات المتحدة بالاستيلاء على الأموال العراقية الموجودة داخل الولايات المتحدة ومصادرتها.
ــ اتخاذ بريمر مائة أمر، ليس باستطاعة أي حكومة منتخبة تغييرها، لأنها أساس الديمقراطية حسب ادعائه ؛ ومنها قرار رقم 81 الذي نص على منع المزارعين العراقيين من استخدام البذور المحمية ولا يسمح لهم بحفظ البذور، ولا مشاركتها مع غيرهم ، ولا يحق لهم إعادة زراعة البذور المحصودة .
ــ اتخاذه قرارا يسمح بخصخصة 200 من الشركات المملوكة لدولة العراق اذ أصبحت ملكيتها أجنبية بنسبة 100% وتعامل معاملة الوطنية من حيث تحويلات الأرباح والأموال الأخرى المعفاة من الضرائب والقيود ، والتراخيص الملكية لمدة 40 عاما.
2 ــ أما بريطانيا والتي كانت تلقب بالإمراطورية التي لا تغيب عنها الشمس
فهيمنتها على مواطن الثروة في قارات الدنيا غنية عن التعريف وتكفي الإشارة في هذا السياق هيمنتها على قطاع الطاقة في بلادنا ليصرح أحد مسؤوليها أن الطاقة في تونس خط أحمر، علاوة على تمكين المخلوع شركتها العظمى ” بريتش غاز” من أهم حقول الغاز عندنا كاملا ودون مقابل على أن تبيعنا، في سابقة خطيرة، ما تستخرجه من أرضنا بالسعر العالمي كأنها جلبته من إحدى المقاطعات البريطانية.
وكذلك استطاعت بريطانيا، خدمة لدورها العالمي أن تجعل من عاصمتها مخزن الذهب العالمي ولعل الإشارة إلى أن النصيب الأكبر من رصيدنا من الذهب مودع في أقبية لندن.
3 ــ أما فرنسا الإستعمارية،