الوهم الديمقراطي وحقيقة الدولة العميقة

الوهم الديمقراطي وحقيقة الدولة العميقة

        عاد الذراع الأمني ألاستخباراتي المرتبط بالدولة العميقة ليتصدر مشهد الحياة اليومية في تونس , وصارت اعماله الظاهرة أو تلك التي يحاول إخفاءها تزيد أهل تونس ملحا فوق جروحهم التي ينهشها  الفقر والبطالة والتهميش . كما تواصلت حالة الانفصام السياسي والاجتماعي التي تعيشها الطبقة الحاكمة من برلمانيين وحكومة ورئاسة, ومن المشغولين بخطط إعادة الانتشار والاصطفاف والسياحة الحزبية والبرلمانية.

انتهازية الطبقة السياسية وانفصالها عن الواقع

        ففي الوقت الذي مازال فيه  “الباجي ” وجماعته في قرطاج مستمرين في ضغوطهم على “حركة النهضة”  لدفعها نحو الابتعاد عن دعم “يوسف الشاهد” الذي سحب البساط السياسي والبرلماني من حول “الباجي” , وفي الوقت الذي لا تزال فيه بقايا اليسار مستمرة في التلويح بقميص “بلعيد” و”البراهمي” من أجل إثارة الغبار حول “حركة النهضة” خدمة “للباجي” وبحثا عن دور في المرحلة القادمة, وفي الوقت الذي تستمر فيه السياحة الحزبية والبرلمانية بعد الاستقالات المتتالية وإثر التحاق الحزب الوطني الحر و نوابه في البرلمان بحزب نداء تونس والذي كشف مستوى التردي والانتهازية بفعل قضايا الفساد المالي , وفي الوقت الذي يتعطل فيه نشاط الكتل في مجلس نواب الشعب بسبب الخلاف حول “هيئة الحقيقة والكرامة”, وفي الوقت الذي ظل فيه الاعلام العمومي والخاص غارقا في متابعة فصول هذه المشاهد الانتهازية السياسية كانت باقي فئات الشعب تعيش حياة أخرى وفصولا من زمن ما قبل الثورة.

سيناريوهات ما قبل الثورة

        فقد شهدت منطقة سيدي حسين بالعاصمة خلال الأسبوع الماضي واحدة من أسوء الحوادث التي يمكن ان تحصل في مناطق الفقر والتهميش , حيث قتل الشاب” أيمن” ابن التسعة عشر ربيعا برصاص أعوان الديوانة الذين أتوا للبحث عن السلع المهربة في احياء سيدي حسين. وهكذا ورغم الفقر والمرض والانقطاع عن التعليم لم يتلق هذا الشاب من الدولة سوى الرصاصة التي أنهت حياته وهو يحتج على المداهمات الأمنية. مشهد يدفعنا لتذكر ما حصل “للبوعزيزي” قبل ثماني سنوات.

         وخلال الأسبوع الماضي أيضا عاد زوار الليل المختفون تحت جنح الظلام لمداهمة مكاتب المحامين , وكان المستهدف هذا الأسبوع  أحد حملة الدعوة من شباب حزب التحرير وهو الأستاذ “عماد الدين حدوق” , حيث عمد خفافيش الظلام الى العبث بمحتويات مكتبه وبعثرة ملفاته وكتابة رسائل تهديد على جدران المكتب , وهذه أيضا إحدى أساليب  الدولة العميقة زمن “بن علي” , والتي استرجعت أنفاسها بفضل تفاهة السياسيين من الأحزاب المشاركة في الحكم وعدم اهليتهم لتطلعات شعب تونس الذي كسر حاجز الصمت وافتتح موسم ثورات الشعوب ضد الاستبداد والطغيان.

تونس السجن الكبير

         هكذا تكشّف حقيقة المشهد السياسي في تونس بشكل كامل, طبقة سياسية انتهازية ينخرها الفساد ولا يهمها سوى البقاء في مشهد الحكم عبر إعادة الاصطفاف والمساومة المصلحية والسياحة الحزبية, وشعب تائه بفئاته المختلفة يعيش الفقر وقلة الرعاية  في بلد حوله حكامه الذين يتلقون الأوامر من البلدان الاوروبية الى سجن كبير , فالدوريات البحرية تمنع الهجرة السرية عبر البحار, وإجراءات المنع من السفر -S17  –  تمنع الهجرة القانونية عبر المطارات .

          ذلك هو الوهم الديمقراطي الذي ينكشف كل مرة بعد انتهاء الحملات الانتخابية والذي يتبين فيه ان دور الفرد يقتصر على إعطاء الشرعية الانتخابية للحاكم دون ان تكون له أي  قدرة بعد ذلك على محاسبته او مراجعته في فترة حكمه. فالحاكم في النظام الديمقراطي وخلافا لما هو سائد لا يتحمل مسئولية الكوارث التي نتجت عن القوانين التي يحكم بها,  لا في فترة حكمه ولا بعدها لأنه يحكم باسم الشعب الذي انتخبه.  فالقروض التي افقرتنا هي قوانين باسم الشعب والتفريط في الثروات  الأجانب والرخص المسندة اليهم هي قوانين باسم الشعب لا يحق له الاحتجاج عليها , وإطلاق النار على المتظاهرين تم السماح  به بقانون باسم الشعب.

           فعلى الجادين المخلصين  في محاسبة الحكام على ما أوصلوا إليه البلاد والعباد من فقر وتخلف أن لا يبحثوا عن هذه المحاسبة من خلال النظام الديمقراطي الذي يُعفي الحكام من الخطأ مادام عملهم في اطار القوانين المصادق عليها باسم الشعب, بل يجب ان تتم هذه المحاسبة من خارج النظام , فالثورات هي التي تحاسب الأنظمة وليست البرلمانات حتى لو كانت انتخاباتها شفافة, هكذا اطردت الثورة الفرنسية الملوك وهكذا اطردت الثورة البلشفية القيصر وهكذا سيتغير حال الامة الإسلامية في تونس وغيرها  بثورة مكتملة غير منقوصة بإذن الله.

محمد مقيديش

CATEGORIES
TAGS
Share This