المولد النبوي: تذكير بمعنى الوحي والرسالة
ككلّ سنة يستقبل المسلمون يوم 12 ربيع الأوّل من السنة الهجرية باعتباره يوم المولد النبوي، وككل سنة ينقسم الناس في المولد إلى قسمين: قسم يحتفل به انطلاقا من قناعته بمشروعية الاحتفال وجواز خصّ ذكرى النبي صلى الله عليه وسلم بيوم، وقسم آخر لا يحتفل به بل يعدّ الاحتفال بدعة لم ترد عن السلف الصالح. وبغض النظر عن هذا وذاك، وبغض النظر عن الناحية الشرعية الفقهية المختلف فيها، فإننا نهتمّ بالمولد النبوي باعتباره تذكرة بمفهومين غفلت الأمة الإسلامية عنهما، ألا وهما: الوحي والرسالة.
إنّ محمدا صلى الله عليه وسلم نبي رسول. فهو r نبي لأنه أوحي إليه بشرع، ورسول لأنّ الشرع الذي أوحي له به هو رسالة له أمر بتبليغها. والرسالة هي سفارة العبد بين الله وبين العباد، ليبين ما يحتاجونه من مصالح الدنيا والآخرة. فالرسول هو المبعوث من قبل الله تعالى إلى الناس برسالة أُمر بتبليغها لهم ليعملوا بها. ورسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم هي خاتمة الرسالات، قال تعالى: {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَٰكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ۗ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (40)} (الأحزاب). وأخرج أحمد عن أنس بن مالك قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الرِّسَالَةَ وَالنُّبُوَّةَ قَدِ انْقَطَعَتْ، فَلَا رَسُولَ بَعْدِي وَلَا نَبِيَّ». قال ابن أبي زيد القيرواني في الرسالة: “… رب العباد ورب أعمالهم والمقدر لحركاتهم وآجالهم الباعث الرسل إليهم لإقامة الحجة عليهم ثم ختم الرسالة والنذارة والنبوة بمحمد نبيه صلى الله عليه وسلم فجعله آخر المرسلين بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا وأنزل عليه كتابه الحكيم وشرح به دينه القويم وهدى به الصراط المستقيم”.
إنّ علاقتنا بالرسول صلى الله عليه وسلم ليست كعلاقتنا بأي رجل عظيم نحبّه ونجلّه، بل علاقتنا به تتعدى ذلك وتفوقه، فهي علاقة مبنية على الإيمان به صلى الله عليه وسلم رسولا نبيا أوحي الله سبحانه وتعالى إليه بوحي فحمل إلينا رسالة أمرنا باتباعها والالتزام بها. أخرج البخاري عَنْ أَبِي مُوسَى عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ، كَمَثَلِ رَجُلٍ أَتَى قَوْمًا فَقَالَ: يَا قَوْمِ، إِنِّي رَأَيْتُ الجَيْشَ بِعَيْنَيَّ، وَإِنِّي أَنَا النَّذِيرُ العُرْيَانُ، فَالنَّجَاءَ، فَأَطَاعَهُ طَائِفَةٌ مِنْ قَوْمِهِ، فَأَدْلَجُوا، فَانْطَلَقُوا عَلَى مَهَلِهِمْ فَنَجَوْا، وَكَذَّبَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ، فَأَصْبَحُوا مَكَانَهُمْ، فَصَبَّحَهُمُ الجَيْشُ فَأَهْلَكَهُمْ وَاجْتَاحَهُمْ، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ أَطَاعَنِي فَاتَّبَعَ مَا جِئْتُ بِهِ، وَمَثَلُ مَنْ عَصَانِي وَكَذَّبَ بِمَا جِئْتُ بِهِ مِنَ الحَقِّ». فالمسألة ليست مجرّد اتباع شخص وتعظيمه بإحياء مولده وتذكّره ومدحه بل المسألة أعظم من ذلك بكثير وهي الإيمان به وما يستلزمه ذلك من حبّ له وتوقير باتباعه والاقتداء به وطاعته في شرعه الذي بلّغه عن ربّه سبحانه.
أخرج أحمد عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: دَخَلْتُ أَنَا وَيَحْيَى بْنُ جَعْدَةَ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ مِنْ أَصْحَابِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: ذَكَرُوا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَوْلَاةً لِبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَقَالَ: إِنَّهَا تَقُومُ اللَّيْلَ وَتَصُومُ النَّهَارَ، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَكِنِّي أَنَا أَنَامُ وَأُصَلِّي، وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ، فَمَنْ اقْتَدَى بِي فَهُوَ مِنِّي، وَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي، إِنَّ لِكُلِّ عَمَلٍ شِرَّةً ثُمَّ فَتْرَةً، فَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى بِدْعَةٍ فَقَدْ ضَلَّ، وَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى سُنَّةٍ فَقَدْ اهْتَدَى». وأخرج النسائي عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ تِسْعَةٌ، فَقَالَ: «إِنَّهُ سَتَكُونُ بَعْدِي أُمَرَاءُ مَنْ صَدَّقَهُمْ بِكَذِبِهِمْ، وَأَعَانَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ، فَلَيْسَ مِنِّي وَلَسْتُ مِنْهُ، وَلَيْسَ بِوَارِدٍ عَلَيَّ الْحَوْضَ، وَمَنْ لَمْ يُصَدِّقْهُمْ بِكَذِبِهِمْ، وَلَمْ يُعِنْهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ، فَهُوَ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ، وَهُوَ وَارِدٌ عَلَيَّ الْحَوْضَ». فقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم بكلمات واضحة صريحة أنّ الانتساب إليه مشروط بالتمسّك بسنته والعمل بشرعه؛ ولهذا فمن ادّعى حبّ النبي صلى الله عليه وسلم، وزعم تعظيمه وتوقيره ومع ذلك خالف هديه وسنته وناقض شرعه، فليس من النبي صلى الله عليه وسلم ولا النبي صلى الله عليه وسلم منه. فمحبة الرسول صلى الله عليه وسلم الحقيقية هي “اعتقاد نصرته، والذبّ عن سنته، والانقياد لها، وهيبة مخالفته”.
قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم: “فمن أحبَّ الله ورسوله محبة صادقة من قلبه، أوجب له ذلك أن يُحبَّ بقلبه ما يُحبُّه الله ورسولُه، ويكره ما يكرهه الله ورسوله، ويرضى بما يرضى الله ورسوله، ويَسخط ما يَسْخَطُهُ الله ورسوله، وأن يعمل بجوارحه بمقتضى هذا الحبّ والبغض، فإن عمل بجوارحه شيئا يخالفُ ذلك، فإن ارتكب بعض ما يكرهه الله ورسولُه، أو ترك بعض ما يُحبه الله ورسوله، مع وجوبه والقدرة عليه، دلّ ذلك على نقص محبّته الواجبة، فعليه أن يتوب من ذلك، ويرجع إلى تكميل المحبة الواجبة”.
وقال عياض في الشفا: “قال أحمد بن محمد من مفروضات القلوب اعتقاد النصيحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال أبو بكر الآجري وغيره: النصح له يقتضي نصحين نصحا في حياته ونصحا بعد مماته، ففي حياته نصح أصحابه له بالنصر والمحاماة عنه ومعاداة من عاداه والسمع والطاعة له وبذل النفوس والأموال دونه كما قال الله تعالى (رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه) الآية، وقال (وينصرون الله ورسوله) الآية، وأما نصيحة المسلمين له بعد وفاته فالتزام التوقير والإجلال وشدة المحبة له والمثابرة على تعلم سنته والتفقه في شريعته ومحبة آل بيته وأصحابه ومجانبة من رغب عن سنته وانحرف عنها وبغضه والتحذير منه والشفقة على أمته والبحث عن تعرف أخلاقه وسيره وآدابه والصبر على ذلك: فعلى ما ذكره تكون النصيحة إحدى ثمرات المحبة وعلامة من علاماتها”.
وإننا تغتنم فرصة المولد النبوي لتذكير المسلمين ببديهة يفهمونها من قول الشهادة، وهي أنّ محمدا صلى الله عليه وسلم رسول أوحى الله له بشرع ورسالة ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، فإن كان لإحياء مولده صلى الله عليه وسلم والاحتفال به من فائدة فهي تذكيرنا بواجبنا في إحياء سنّته صلى الله عليه وسلم بالعمل على تطبيق شرعه وإقامة دولته.