حدّث أبو ذرّ التونسي قال: رغم أنّ علم المناخ (Climatologie) أثبت بما لا يدع مجالاً للشكّ أنّ تونس معرّضة لأمطار طوفانيّة على الأقلّ مرّةً كلّ عقد، ورغم أنّ الأحداث والوقائع الميدانيّة صدّقت ذلك (1969-1982-1990-1995-2003-2009-2018)، ورغم أنّ تقنيات الرّصد الجوّي يُمكن لها بكلّ يُسر أن تستبق الكارثة وتمكّن الدّولة من أخذ احتياطاتها وحماية منظوريها وممتلكاتهم…رغم كلّ ذلك فإنّ سيناريو الفيضانات السّوداوي المُرعب ما فتئ ـ منذ مسرحيّة الاستقلال إلى يوم النّاس هذا ـ يتكرّر بل يُستنسخ بحذافره دون أن تُحرّك (الدّولة) ساكنًا لا قبل الكارثة ولا أثناءها ولا بعدها : نفس المشاهد ونفس الفظائع ونفس الوقائع ونفس الأسباب ونفس المواقف (بنية تحتيّة بدائيّة عاجزة عن استيعاب التساقطات ـ مياه هادرة تجتاح الطّرقات والمنازل ـ شلل كلّي لحركة المرور وتوقّف للحياة ـ خسائر ماديّة وبشريّة جسيمة ـ ضحايا ومنكوبون مَوْكولون إلى أنفسهم ـ تدخّلات شكليّة متأخّرة للأمن والحماية المدنيّة ـ تدافُع مُخزٍ لكُرة المسؤولية بين سُلط الإشراف ـ حركة راقية من التّكافل والتّآزر بين المتساكنين لإعادة ترتيب حياتهم ـ نفاق إعلامي وسياسي يستهلك الماساة أو يُوظّفُها لغايات حزبيّة ضيّقة ـ زيارات استعراضيّة خاطفة لبعض المسؤولين محفوفة بهالة من الوعود الورديّة الكاذبة ـ توزيع بعض الإعانات البسيطة التي لا تُسمن ولا تُغني من جوع…) وملتقانا بكم في الفيضانات المقبلة ( (Rebelotteبحيث أنّ زمن الخدمات والمرافق العامّة ورعاية الشّؤون في تونس جامد متوقّف لم يتحرّك منذ نصف قرن بالتّمام والكمال (1969/2018)…
خَوَر مُكَعّب
لقد كشفت الفيضانات الأخيرة التي اجتاحت ولايتي نابل وبنزرت عن خوَر مُكعّب ينخر السّلطة مركّب من ثلاثة أضلاع ظلمات بعضها فوق بعض: أوّلها استقالة الدّولة عن رعاية الشّؤون، ثانيها تفشّي الفساد وغياب المحاسبة، أمّا ثالثها فسوء التصرّف في موارد الدّولة…فالأرواح التي أُزهقت والممتلكات التي أُتلفت والمواشي التي نفقت أعادت طرح ذاك السّؤال القديم المقيم وجعلته يطفو مجدّدًا على سطح الأذهان وأطراف الألسن: أين كانت دولة الحداثة منذ (الاستقلال) وأين هي اليوم من الحداثة التي تدّعيها لنفسها..؟؟ فالبنية التّحتيّة التي من المفترض أن تواجه تلك الأمطار الطّوفانيّة شبه معدومة ما فتئ الشعب التونسي يُلدغ من قبلها منذ (الاستقلال) دون أن تُجَدَّد أو تُطَوَّرَ: مجاري بدائيّة تضيق بمياه الصّرف الصحّي ـ فضْلاً عن الأمطارـ وتلقي بها في الأزقّة والطُّرُقات لتُزكم أنوف المارّة بروائحها العفِنة…طرقات سريعة كلّفت خزينة الدّولة ثروات طائلة (مليار للكلم الواحد) جرفتها مياه السّيول وطوت أجزاء منها كما يُطوى السجّاد…جسور ضخمة من أحدث طراز نفّذتها كفاءات محليّة أو أجنبيّة تحطّمت كأنّها منشآت من ورق…سدود تليّة ضعيفة الاستيعاب شُيّدت لحماية المدن من الفيضانات إذا بها تستحيل إلى قنابل موقوتة، فسرعان ما تمتلئ وتنذر بالانفجار فيقع تنفيسها لتفاقم من الأخطار والأضرار الماديّة والبشريّة…تجهيزات هشّة للاتّصالات والكهرباء سُرعان ما تُتلَفُ وتُغرق المناطق المنكوبة في العُزلة والظّلام وتُعسِّر من عمليّات الإغاثة…أمّا عن دولة الحداثة وأجهزتها فهي آخر من يعلم ويحضر وأوّل من ينسحب هذا فضلاً عن افتقارها لفرق تدخّل سريع قادرة على مجابهة مثل هذه الوضعيّات الكارثيّة، فهي تكتفي بأعوان البلديّة والشّرطة العاديّة أو الحماية المدنيّة في أفضل الحالات…هذا الواقع المُزري ما هو إلاّ قمّة جبل الجليد التي تُخفي قاعدة واسعة من الفساد (رشوة ـ غشّ في المواصفات ـ مناقصات مشبوهة ـ سرقة للمواد الأوّلية…) مع انعدام المحاسبة والتتبّع رغم أنّ الأطراف المتورّطة معلومة لدى القاصي والدّاني…كما تُخفي آيات من سوء التصرّف في المال العامّ: فما أنفقته الدّولة على مدينة الثّقافة وحدها (125 مليارًا) لو وظّفته في تحديث البنية التحتيّة وتدعيمها لجنّبت منظوريها هذه الكارثة ولحمت أرواحهم وممتلكاتهم…
استقالة كليّة
ولم يتوقّف أمر التّفريط عند أوجه البنية التحتيّة المذكورة، بل تعدّاها إلى سائر الخدمات والمرافق العامّة: فالسّلطة في تونس أضحت في وضعيّة استقالة شبه كليّة عن واجب رعاية شؤون منظوريها بوصفها عرّابًا للكافر المستعمر وناطورًا على مصالحه وقيِّمًا على نصيبه المقتطع من ثروات التونسيّين المسلمين…فقد تخلّت عن تلبية الحاجات الأساسيّة للفرد (مأكل ـ ملبس ـ مسكن) وتاجرت في أوكد مرافقه العموميّة (الماء والكهرباء) ـ رغم أنّها ملكيّة عامّة ـ وها أنّها تستعدّ للتفويت فيها للقطاع الخاصّ بما يُضاعف من أثمانها…وانتصبت لجباية أموال الشّعب بالباطل (3/4 الميزانيّة ضرائب) وتركتهُ يتخبّط في الفقر والغلاء والخصاصة والتّهميش وانسداد الآفاق، وفتحت البلاد على مصراعيها أمام الاستثمار الأجنبي والقروض الرّبوية بحيث رهنت الاقتصاد بالكليّة لصندوق النقد الدّولي وشركات النّهب العملاقة…كما تخلّت عن تلبية الحاجات الأساسيّة للجماعة (تطبيب ـ تعليم ـ أمن) فخصخصت التطبيب وأخضعتهُ لقاعدة (المال مقابل الحياة) وقاعدة (لا حياة لمن لا مال له)، وحوّلت المنظومة العموميّة إلى مختبر طلاّبي وموت مؤجّل بطيء ترتع فيه مافيات الأدوية الحسّاسة والمعدّات التّالفة بما يُعرّض حياة النّاس إلى الخطر..ورفعت عن كاهلها أعباء الإنفاق على الرّعاية الاجتماعيّة (مسنّين ـ معوقين ـ مجهولي النّسب…) وأحالتها على (المجتمع المدني) وجمعيّات (المناولة الخيريّة) بل وإلى النّوادي الماسونيّة (روتاري ـ ليونس كلوب…) التي لا تتورّع عن المتاجرة بهم بالجملة أو التّفصيل…كما حوّلت المنظومة التّربوية إلى نشاط اقتصادي رِبحي خاضع لسياسة السّوق ومجال استثمار واعد يرتع فيه الخواصّ وقفّاز محلّي لمسخ النّاشئة وتجفيف منابع الإسلام وتذويب الهويّة الإسلاميّة بأحماض استعماريّة فتّاكة…ثم مكّنت بريطانيا من العقيدة الأمنيّة والعسكريّة تصوغها حسب مصالحها بماجعل البلاد مرتعا للعصابات والمافيات التي ترتدي الزيّ الرّسمي…بل إنّ السّفراء الأجانب قد تقمّصوا دور الدّولة ونابوا عنها في أخصّ خواصّها وأوكد أدوارها ـ رعاية شؤون النّاس ـ على غرار توزيع المعونات والهبات وتفقّد مناجم الثّروات وشقّ الطّرق وبناء المدارس وتجهيز المستشفيات وزيارة مراكز الاقتراع وتلميع صورة بعض السياسيّين…بما ينفي عن هذا الكيان صفة الدّولة ويَسْلُبُه من أبسط مظاهر السّيادة والسّلطان…
تأصيل عقائدي
وحسبنا فيما يلي أن نقف على المرتكزات العقائديّة لهذه الاستقالة وهذا الفساد أي أن نؤصّلها فكريًّا ضمن المبدأ الرّأسمالي الدّيمقراطي الذي يدّعيه الكيان التّونسي لنفسه في نسخته المصدّرة للعالم الثّالث: فالتخلّف والعمالة والتّبعيّة والارتهان لا تفسَّرُ وحدها هذا السّلوك السّياسي الذي يستمدُّ جذوره من دور الدّولة وعلاقة الحكم بالاقتصاد والحريّات في المنظومة الرأسمالية الديمقراطيّة…فهذه المنظومة قد سُمّيت بأبرز شيئين فيها: النّظام الاقتصادي (الرأسمالية) والحريّات الأربعة (حريّة العقيدة ـ حريّة الملكيّة ـ حريّة التعبير ـ الحريّة الشخصيّة) وكلاهما يرقى إلى مستوى المقدّسات…والدّيمقراطيّة نظام فرداني يعمل للفرد ويُعلي من شأنه على حساب المجموعة تقوم الدّولة فيه برعاية مصالح أصحاب رؤوس الأموال بصفتهم الحكّام الفعليّين للبلاد، كما تقوم بالإشراف على الحريّات والحيلولة دون انتهاكها…أمّا الرّئيس فهو أجير (نظريًّا) لدى الشّعب، (عمليًّا) لدى رؤوس الأموال ليطبّق عليهم ما ارتضوه لأنفسهم من حريّات ورأسماليّة جشعة…على هذا الأساس فإنّ نظام الحكم في المنظومة الرّأسماليّة الدّيمقراطية خادم مطيع لرأس المال وأصحابه وأجير خدوم عند الشّركات العملاقة والعابرة للقارّات ودمية متحرّكة بيد لوبيّات النّفط والسّلاح والأغذية والأدوية…إلخ، بحيث يجعل من أوكد واجباته تحقيق مصالحهم وتقديمها على مصالح سواد النّاس الذين يمثّلون بالكاد في هذه المنظومة شرًّا لا بدّ منه وديكورًا لا غنى عنه لينبرم (عقد) السّلب والنّهب والاستغلال الذي يأخذ شكل سائر المعاملات…عن رعاية شؤون هؤلاء المعدمين المهمّشين الفقراء تحديدًا استقالت الدّولة الدّيمقراطيّة وتركتهم نهْبًا لأباطرة الاقتصاد وقطط السّوق السّمان الذين يستقلّون بأحيائهم المرفّهة في شبه (قيتو) ومجتمع موازٍ يذلّلون بأموالهم سائر المرافق وأرفع الخدمات…(والقلَب والعفرّت)…
الغش إفرازًا مبدئيًّا
ممّا لا شكّ فيه أن الغش كظاهرة اقتصاديّة اجتماعيّة إفراز مبدئي آلي طبيعي للمنظومة الرّأسماليّة وثمرة حتميّة من ثمارها المسمومة ونقطة من بحر فسادها الطّامي بالمخازي وغيض من فيض نتونتها المُزكمة للأنوف…فهذه المنظومة الجشعة الصمّاء البكماء التي تطحن إنسانيّة الإنسان وتمتصّ دماءه لا تعترف إلاّ بالقيمة الماديّة، فتُعلي من شأنها وتقدّمها على القيم الأخلاقيّة والإنسانيّة والرّوحيّة فلا تلتجئ إليها إلاّ توظيفًا واستعمالاً وخدمةً للقيمة الماديّة الأساسية رائدها وديدنها في ذلك المصلحة والمنفعة والرّبح المادّي بصرف النّظر عن النّتائج سواء أطالت صحّة الإنسان أم حياته وحياة ذويه أم أمواله وممتلكاته…فهي ـ مدفوعة بحريّة التملُّك ـ تُبيح للإنسان امتلاك المال وتنميته والتصرُّف فيه بأيّ شكل أو وسيلة أو أسلوب بما في ذلك الاستعمار والسّرقة والغشّ والقمار والرّبى والاحتكار والغبن الفاحش والسّحت والمضاربة والخمر والدّعارة والشّذوذ…بل قد تلتجئ إلى إتلاف الفائض من المنتوجات حفاظًا على الأسعار بينما تموت شعوبٌ بأكملها جوعًا، كما قد تلتجئ إلى إحراق أسواق بكاملها لكي تخلو السّاحة لسلعها وأثمانها (المنصف باي نموذجا) هكذا بمنتهى المكيافليّة: فالغاية الوضيعة تبرّر الواسطة الدّنيئة، والشّيءُ من مأتاهُ لا يُستغرَبُ وكلّ إناء بما فيه يرشح…