فرضت حركة “السترات الصفراء” نفسها على المشهد السياسي في فرنسا ولم تفلح الشبكات الإعلامية الفرنسية ولا الأحزاب ولا النقابات العمالية في إيقاف الدعم الشعبي الواسع التي تحضى به هذه الحركة الاحتجاجية التي رفعت من سقف مطالبها لتصبح تهديدا للرئيس “ماكرون” ولحكومة “ادوارد فيليب”.
حركة من خارج النظام السياسي
الاحتجاجات التي شملت جميع انحاء فرنسا أرّقت المسئولين الفرنسيين , أولا لأنها عبرت عن واقع بائس يعيشه الملايين من المهمشين, لا يظهر في وسائل الاعلام التي يمتلكها كبار الرأسماليين في فرنسا , وثانيا لان هذه الحركة الاحتجاجية رفضت أن تكون تحت قيادة أي من الأحزاب السياسية الفرنسية في الحكم او في المعارضة ورفضت ان يتحدث باسمها أي من النقابات العمالية , وهذا دليل واضح على رفض المحتجين للنظام السياسي الرأسمالي وعدم ثقتهم في جميع مكوناته من أحزاب حكم ومعارضة ونقابات والتي يعتبرونها أطرافا في خدمة الرأسمالية المتوحشة التي تسيطر على البلاد.
هكذا أصبح قطاع واسع من الشعب الفرنسي بتاريخه العريق في تطبيق الديمقراطية يائسا من حكامه ومن نظامه السياسي الذي يرفع شعار سيادة للشعب منذ قرنين , وأصبح يبحث عن إسماع صوته وفرض خياراته خارج الأطر التي يسمح بها النظام السياسي من البرلمان والأحزاب ونقابات ومنظمات المجتمع المدني. لقد كانت الرسالة التي وجهها الشعب الفرنسي لحكامه واضحة في 2017 عندما قاطع الانتخابات التشريعية بنسبة فاقت 57% واضحة , لكن المسئولين وأرباب النظام تجاهلوا الرسالة كعادتهم وقللوا من دلالتها الى ان وصل الامر الى هذه الاحتجاجات العنيفة والتي ترافقت مع قناعة لدى المحتجين بان حكام فرنسا لا يهتمون للاحتجاجات السلمية وان استخدام العنف اصبح مبررا لديهم.
هل يفهم حكام تونس الدرس؟
ما يحدث في فرنسا هو رسالة لحكام تونس الذين يواصلون فرض نظام سياسي مستنسخ عن الأنظمة الغربية اللبرالية هدفه إبقاء التبعية السياسية والحضارية للغرب الصليبي, وفرض القيم الغربية المناقضة للإسلام عبر الابتزاز السياسي والمالي, ويجعل من مصالح “لوبيات” التوريد والاحتكار وشركات المناولة القائمة على رعاية المصالح الأوروبية الصليبية قبل مصلحة الامة وأمنها الاقتصادي والغذائي.
هكذا اصبح لدينا في تونس نظام فاقد للسيادة تابع للغرب لكن بديكور ديمقراطي, يبحث في نسب النمو والموازنات المالية وفرض الضرائب دون بحث في توفر الحاجيات الأساسية للأفراد مثل الاكل والسكن او توفر الخدمات الأساسية في المجتمع كالصحة والتعليم.
الاستقرار السياسي والحاجات الأساسية
ان استقرار أي نظام سياسي مرتبط بنجاحه في تنظيم العلاقات بين الناس بشكل يضمن توفير الحاجات الأساسية للأفراد والمجتمع وليس مرتبطا بالقوة العسكرية ولا الاقتصادية كما هو حال فرنسا , ولا بالبحث عن إرضاء الغرب والحصول على شهادات حسن السلوك و جوائز نوبل كما هو الحال في تونس. وان الشعوب التي لا تتحصل على حاجاتها الأساسية من خلال النظام السياسي سوف تسعى للحصول عليها من خارج الأطر القانونية كما هو حاصل في فرنسا او في غيرها من الدول التي شهدت ثورات ضد حكامها.
لقد اكتشف النظام الفرنسي مع هذه الاحتجاجات انه اهمل قطاعا واسعا من الشعب من ذوى الحالات الحرجة وان تراكم هذا الإهمال هو الذي الدى الى هذا الانفجار ثم جعله يسارع في البحث عن التهدئة بكل الوسائل للخروج من هذه الازمة ..
وفي تونس التي ترزح مثل باقي البلاد الإسلامية تحت نظام تابع للغرب, يتم فرض نظام علماني عبر وسط سياسي معزول عن الامة ومخترق سياسيا وفكريا , وتجاهل الملايين من أبناء الامة الإسلامية التواقين الى العيش بأحكام الإسلام في دولة تتخذ من الإسلام نظامها السياسي , كما يتم اهمال رعاية شؤون الامة وحرمان افرادها من الحقوق الأساسية في الوظائف والعيش الكريم, وإهمال الخدمات الاجتماعية في الصحة والتعليم بعد ان اصبح صندوق النقد الدولي يشرف على سياسة الانفاق والتوظيف في القطاع العمومي وأصبحت الدولة بالكاد قادرة على دفع الرواتب , كما أصبح واضحا لدى عموم الشعب ان الحكومة أصبحت فاقدة للقدرة على إدارة الشأن العام مما يجعل البلاد مفتوحة على كل الاحتمالات.
لقد اثبتت الوقائع التاريخية بانهيار الاشتراكية بطلان نظرية المادية الديالكتيكية في تفسير التاريخ , وما نشهده في السنوات الأخيرة وهذه الأيام هي ارهاصات ستثبت فساد نظرية نهاية التاريخ التي جاء بها “فوكوياما” وان النظام الرأسمالي هو الاخر في طريقه الى الانهيار , ولن يملأ هذا الفراغ هذا السياسي والتشريعي الذي يعيشه العالم سوى نظام الإسلام مهما اجتهد الأعداء في الإنكار والجحود.