في تبادل للأدوار مع المجتمع المدني: النهضة و(مشتقّاتها) تُسوّق لمشروع المساواة في الميراث

في تبادل للأدوار مع المجتمع المدني: النهضة و(مشتقّاتها) تُسوّق لمشروع المساواة في الميراث

حدّث أبو ذرّ التونسي قال: منذ أسبوعين تقريبًا (23/11/2018) وفي مغالطة ترتقي إلى مستوى البلطجة وتحويل الوجهة، اهتبل الرّئيس السّبسي فرصة انعقاد مجلس وزاري حول قانون الطّوارئ للتّعبير عن نيّته ورغبته في تمرير مبادرته الدّاعية إلى المساواة في الميراث…وقد عُدّت هذه الحركة الانتهازيّة الأحاديّة الشّكلية بمثابة المصادقة من طرف المجلس الوزاري على مشروع القانون وتوابعه وملحقاته (إرث الكافر للمسلم ـ زواج المسلمة من كافر ـ إباحة المثليّة الجنسيّة…) بل إنّ هذه (المصادقة) قد ذُيّلت بملاحظة (مع الإسراع في النّظر) بما يشي بأنّ هذه المبادرة من تحصيل الحاصل مفروضة عُنوةً واقتدارًا وغير قابلة للنّقاش بحيث لا تحتاج حتّى إلى مجلس وزاري خاصّ بها وما عرضها على البرلمان إلاّ مجرّد تزكية لها ليس غير…وبصرف النّظر عن الموقف الشّرعي منها ـ فهو من المعلوم من الدّين بالضّرورة لدى القاصي والدّاني ـ فإنّ هذه الخطوة تفضح منتهى التّبعية والارتهان  والخضوع السياسي للغرب الصّليبي الاستعماري، وتعكس منتهى الاستخفاف بالشّعب التّونسي ـ سيادةً وهويّةً وعقيدةً وانتماءً ـ فهي تعدّ أوّلاً: بمثابة الالتفاف على إرادة هذا الشّعب المسلم الأبيّ الذي عبّر عن تمسُّكه بأحكام الشّرع ورفضه المبدئي القطعي والكاسح لكل ما جاء في تقرير لجنة الحريّات الفرديّة والمساواة، والانقلاب الصريح على ديمقراطيّتهم التي تعدِّل رأي الأغلبيّة وتُحَكّمُهُ…وتُعَدُّ ثانيًا بمثابة الغشّ للنّاخب التّونسي الذي اختار السّبسي رئيسًا وللشّعب التّونسي الذي سكت عن هذه المهزلة حتّى فُوجئ بها وفُرضت عليه: فالرّئيس غير مُخوّل دستوريًّا بتغيير عقائد النّاس وما استقرّ بأعرافهم، فإمّا أن ينصّ على ذلك في برنامجه الانتخابي قبليًّا أو أن يعرضه على الاستفتاء الشّعبي بعديًّا…وتُعدُّ ثالثًا: بمثابة الاستقواء بأجهزة الدّولة وبالتّموقع على رأس هرم السّلطة لفرض خيارات إقصائيّة انبتاتيّة على الشّعب، أي توظيف قوى الشّعب ومؤسّسات الدّولة لمحاربة عقيدة الشّعب وهويّته إرضاءً للكافر المستعمر ونزولاً عند ضغوطات الاتّحاد الأوروبي وصندوق النّقد الدّولي والفدرالية العالميّة لحقوق الإنسان الرّامية إلى ترويض هذا الشّعب المسلم الأبيّ وتدجينه ومسخه وتقليم مخالبه الماديّة (ثرواته) والمعنويّة (عقيدته الإسلاميّة) تمهيدًا للإجهاز عليه بالكامل…

تبادل أدوار

غير أنّ ما أقدم عليه السّبسي يفتقد عند أهل الذّكر لعنصر المفاجأة: فالشيء من مأتاه لا يُستغرب وكلّ إناء بما فيه يرشحُ، و(الدّولة) التونسيّة منذ مسرحيّة الاستقلال مُسخّرةٌ بكلّ مؤسّساتها وهياكلها ومسؤوليها ودستورها وقوانينها وإجراءاتها لحرب الله ورسوله، فهي ليست مظنّة أن تكون قناةً لتمرير الحقّ وليست مناط إصلاح وترقيع وتعديل بل مناط هدم ونسف وتقويض وإعادة بناء…أمّا المفارقة العجيبة والمخزية في آنٍ فهي أن ينخرط الطّرف المحسوب على الإسلام السّياسي في التّسويق لمبادرة السّبسي المناقضة لما يدّعيه لنفسه من مرجعيّة إسلاميّة وذلك في تبادل للأدوار مع السّلطة والمجتمع المدني يصدق في حقّه المثل الشّعبي السائر (ضربة بالمملسة وضربة بالقادومة)…فبين راديكاليّة السبسي ونخبته الفرنكفونيّة اليعقوبيّة الدّاعية إلى المشروع الجندري الماسوني المتحلّل كليّاً من روابط الشّرع، وأصوليّة الزّواتنة والجمعيّات الإسلاميّة المتمسّكة بحرفيّة النّصوص المستميتة في الدّفاع عن الأعراف الإسلاميّة، يتسلّل شياطين السّياسة وأبالستها الملتحون للقولبة والتّدجين والالتفاف والإفراغ وصولاً للحلّ الوسط بالمنطق الدّيمقراطيّ العفن: تشذيب مشروع الكفر من الشكليّات المستفزّة لمشاعر المسلمين وتمريره في جبّة الإسلام والاجتهاد والمقاصد وإخراجه مخرج النّصر المؤزّر والفتح المبين…على هذا الأساس أعطت حركة النّهضة الضوء الأخضر للأيمّة الموالين لها والعلماء المحسوبين عليها بمهاجمة مبادرة السبسي وبيان مُخالفتها للقطعي والمُحكم من النّصوص الشرعيّة، ودسّت في دسم هذا الرّفض جملة من الشّروط والمطالب والاستثناءات والحيل الشرعية المسمومة التي تُزهق أرواح النّصوص وتلوي أعناقها وتُحوّل وجهتها نحو الحلّ الوسط الذي يكرّس جوهر المشروع…كما أوعزت للجمعيّات المنضوية تحت عباءتها بالقيام ببعض التحرّكات الشكليّة والترويج لجملة من العرائض المندّدة بالمبادرة والمطالبة بسحبها وذلك في حركة سياسيّة خبيثة غايتها اكتساح المساحات وسدّ الفراغات واستباق الأحداث وسحب البساط من تحت أيّ تحرّك جماهيري أو حزبي جدّي، وامتصاص غضب الشعب وهدر طاقاته في أعمال استعراضية جوفاء تسيطر على الوضع وتحول دون انفجاره وانفلاته وتصل به إلى شاطئ السّلام/الهلاك…

مثال عملي

في هذا الإطار بالذّات وبتاريخ الثّلاثاء (04/12/2018) عقدت التّنسيقية الوطنيّة للدّفاع عن القرآن والدّستور والتنمية العادلة مؤتمرًا صحفيًّا بنزل إفريقيا بيّنت خلاله موقفها من مبادرة السبسي للمساواة في الميراث…وقد أردفته  بندوة علميّة بعنوان (مشروع قانون الرّئيس حول الميراث: الفتنة تتواصل…) أثّثها ثلّة من المشائخ الأجلاّء والوجوه السياسيّة الإسلاميّة (نور الدّين الخادمي ـ سليمان الشوّاشي ـ حمدة سعيّد ـ شهاب الدّين تليش ـ محمّد صالح رديد ـ رشيد الطبّاخ…) الذين تناولوا مبادرة السّبسي من زاوية شرعيّة وأخرى دستوريّة مقدّمين بعض المخارج لتجنيب الشعب التونسي فتنتها…وقبل الخوض في مضمون المداخلات وما طفح به كيلها من مغالطات وسموم، نعرّج ابتداءً على المؤتمر الصحفي وتحديدًا على الإجراءات العمليّة الستّة المقترحة من قبل التّنسيقيّة للتصدّي لمشروع قانون المساواة في الميراث، وهي على التّوالي (تكثيف النّدوات وتعميمها لبيان خطورة المشروع ـ اعتماد كلّ الوسائل القانونيّة للتّعبير عن الرّفض ـ حثّ نوّاب الشّعب على عدم التّصويت ـ المطالبة بعرض المشروع على الاستفتاء ـ مطالبة وسائل الإعلام بالحياد الموضوعي ـ حثّ الشعب التّونسي على عدم التّصويت مستقبلاً لصالح السّاسة والأحزاب المؤيّدة للمشروع)…وكما هو واضح فإنّ هذه الإجراءات وصفة (ضربة ضربة) للفشل في التصدّي للمشروع، فهي تشترك في نقطتين تصفويّتين: السّلمية بمفهومها الانبطاحي التكبيلي الرّكوني العقيم الذّليل، ثمّ اعتماد القنوات (الشّرعية) الرّسميّة العرجاء الجوفاء التي تَئِدُ أيّ مبادرة جديّة وتجمّدها وتُميّعها وتستهلكها وتلتفّ عليها…وهي في مجملها من باب فضول القول، فالحيّز الزّمني (أقلّ من 20 يوْمًا) يضيق عن تحقيقها بشكل يُرسي رأيًا عامًّا ضدّ المبادرة، كما أنّها في معظمها غير قابلة للتّطبيق: فمجلس النوّاب قائم على محاصصة حزبيّة ثابتة غير خاضعة للمساومة ولا قابلة للتبديل، ووسائل الإعلام عمومًا تسير في خطّ السّلطة لا تحيد عنه قيد أنملة ،والوسائل القانونيّة ليست مظنّة إرغام الدولة على التراجع أو تعديل الموقف…أمّا تواصل جمعيّة مع الشّعب التونسي ونجاحها في التأثير على موقفه فهذه نكتة سمِجة تضحك الثكالى…

الدّستور خطّ أحمر

فيما يتعلّق بالنّدوة العلميّة فقد طغت على مداخلاتها الأربعة ازدواجيّة في الخطاب متنافرة حدّ الشّطط بين الدّفاع عن الأحكام الشرعية من جهة والدّفاع عن دستور 27 جانفي 2014 من جهة أخرى: فمن زاوية شرعية تبارى جلّة المشائخ في إثبات مخالفة مشروع السبسي للمحكم والقطعي من النّصوص الشرعيّة، وقالوا فيه ما لم يقله مالك في الخمر وبيّنوا خطره الدّنيوي على الأسرة والمجتمع وإثمه الأخروي بين يدي الله تعالى…إلاّ أنّ هذا الخطاب الشّرعي ـ على حرارته وصدقه وتأثيره ـ يبدو ثانويًّا: فقد وقع سَوْقُهُ في خِضمّ وتلافيف مقولة أساسيّة هي (عُلويّة الدّستور) وسُخِّر لخدمتها وتركيزها…إذ مثّلت هذه المقولة كلمة السرّ وبيت القصيد والجامع المشترك الذي اتّفق عليه جميع المتدخّلين وذيّلوا به مداخلاتهم الشّرعية الدّسمة بما أفرغها من محتواها وجعلها شكليّة فرعيّة موظّفة للدّفاع عن الدّستور في مفارقة عجيبة: فالدّستور التونسي وضعيّ ينوء بحمل أحكام الكفر التي أملاها اليهودي نوح فيلدمان وهو الرّحم التي اعتملت فيها مبادرة السّبسي المسمومة ونصّت عليها وتمخّضت عنها، إلاّ أنّ مشائخ الزّيتونة وعلماء تونس والجمعيّات الإسلاميّة والعرائض الممضاة نزّهوا هذا الدّستور اللّقيط وزكّوه ـ مع أنّه بيت الدّاء وأصل العلّة ـ وقدّموه على الشّرع وأرجعوا رفضهم المبادرة إلى (مخالفتها للمحكم من القرآن وللمعلوم من الدّستور وصريحه) وطالبوا (باحترام الدّستور في منطوقه ومفهومه) كما اعتبروا أنّ خطأ السّبسي ولجنته مردّه قراءتهم (الأحاديّة الانتقائيّة للدّستور التي قفزت على ما جاء في التّوطئة والفصول: 1-6-7-39-145-146 وغيرها من تأكيد على المرجعيّة الإسلاميّة للدّولة)… وهي حركة تقطر دهاء ومكرًا ترمي إلى إبقاء الوسط الفكري والسّياسي والشّعبي في حلبة دستور 2014 بما يضمن تمرير مشروع المساواة وملحقاته وتوابعه بصرف النّظر عن التّوقيت والأطراف والأدوات وطبيعة الطّرح…

السمّ في الدّسم

إنّ تركيز مقولة (علويّة القانون) ارتقى بدستور 27 جانفي 2014 الوضعي الوضيع المحارب لله ورسوله إلى مستوى المرجعيّة وهي جريمة بشعة تتّضح خطورتها انطلاقًا ممّا سينجرّ عنها من تبعات وتداعيات إن على مستوى تقييم المبادرة أو على مستوى المقترحات المقدّمة لإصلاح ما فسد منها: فكون الدّستور هو المرجعيّة مُعطى خطير يجعل من مبادرة السّبسي مقبولةً أصلاً وقانونًا لأنّها مبادرة دستورية ينصّ عليها الدّستور وإن بقراءة أحاديّة انتقائيّة متطرّفة…وبذلك فهي ليست مناط رفض وإبطال وردّ رغم مخالفتها الصّريحة للمحكم القطعي من الأحكام الشرعيّة ولما استقرّ عليه الإجماع والعمل ولما رسخ في الضّمير الجمعي للتونسيّين من أعراف إسلاميّة ،بل هي مناط تطوير وتعديل فحسب:فمبدأ الاختيار الذي قامت عليه مقلوب يحوّل الأصل إلى فرع ويجعل من المساواة هي المبدأ الأصلي في المواريث بينما يصبح التشريع الإسلامي هو الفرع بحيث أنّ من لم يعبّر عن رغبته في الخيار الإسلامي حال حياته وقبل مماته تُقسّم تركته آليًّا بالتّساوي  وكذلك الحال لمن يُتوفّى قبل بلوغ سنّ الرّشد (18 سنة)…أمّا المطلوب فهو تعديل هذا المبدأ وإعادته إلى (وضعه الطّبيعي بما يتماشى وروح الدّستور الذي ينُصّ على المرجعيّة الإسلاميّة)…وقد عبّر رئيس التّنسيقيّة الوزير السابق للشؤون الدّينية نور الدّين الخادمي على ذلك بكلّ صراحة حيث قال (الأصل في المواريث يجب أن يكون الشّرع الإسلامي والاستثناء والفرع هو المساواة: فالقاعدة هي تقسيم التّركة وفق ما جاء به الشّرع ومن اختار غير الشّرع فهو حرّ (نعم…) وله أن يعبّر عن ذلك حال حياته وقبل مماته)…وهذه جريمة في حقّ أحكام المواريث، وهي قُصارى ما يطمح إليه العلمانيّون ومن ورائهم الكافر المستعمر: محطّة متقدّمة نحو تصفية نظام المواريث الإسلامي بالكليّة، هذا فضْلاً عن كونه مخالفًا للشّرع: فلا يجوز التّخيير بين الأحكام الشّرعيّة وأحكام الكفر لقوله تعالى (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرًا أن يكون لهم الخِيَرَةُ من أمرهم)…وبذلك يتّضح تبادل الأدوار المخزي بين أعداء الظّاهر حلفاء الباطن والله يتولّى السرائر…

بسّام فرحات

CATEGORIES
TAGS
Share This