لعل الأحداث التي تعصف بفرنسا اليوم والتي تقودها ما يسمى ب ” حركة السترات الصفراء ” والمستمرة منذ أكثر من ثلاثة أسابيع اعتراضا على قرار الحكومة زيادة الضرائب على الوقود، تلك الحركة التي لم تنحصر مطالبها في الضريبة المشار إليها، بل كانت هي القشة التي قصمت ظهر البعير، بعد أن امتدت لتشمل الوضع المعيشي وغلاء الأسعار وهبوط القيمة الشرائية وتدهور الخدمات العامة، ومن المفارقات أن هذه المطالب التي ينادي بها الشارع الفرنسي بدأت تقترب بصورة لافتة من مطالب الشعوب المقهورة من قبل فرنسا وأضرابها من الدول الاستعمارية التي نهبت بل استنزفت مقدرات هذه الشعوب، لعل هذه الأحداث توجب طرحنا لسؤال ما الذي أوصل الأوضاع في فرنسا وأوربا والعالم الغربي كله إلى ما وصلت إليه هذه الدول لترفع شعوبها عقيرتها بالصياح مستنكرة غلاء أسعار الوقود وانهيار مقدرتها الشرائية، وقد وضعت دولهم يدها على كل مقدراتنا وثرواتنا الباطنية حتى ” أقنعنا ” حكّامُنا بضرورة إنكار ما تراه أعيننا مما تحمله شاحنات النقل أو ما يسيل في الأنابيب الضخمة أو ما تنقله الحاويات العملاقة. وهذه الدول الإستعمارية كان يمكن أن تمكن شعوبها من مادة الطاقة بأبخس الأثمان أو بلا ثمن, وهي التي تحصل على شتى أنواع الطاقة بلا مقابل، أليس هو طبيعة النظام الرأسمالي الديمقراطي الذي يركز الثروات عند فئة قليلة ولا يقدر على مداولتها بين الناس؟
ما الذي حدا بالآلاف من سكان هندوراس أن يخرجوا من بلادهم ويتركوا ديارهم ومرابعهم حاملين نساءهم وأطفالهم ليقطعوا حدود دولتين, المكسيك وغواتيمالا, على أمل بلوغ الولايات المتحدة الأمريكية للإقامة والعيش فيها, في حين أن رئيسها ” ترامب يتوعدهم بالسجن وسوء المصير إن اجتازوا حدود بلاده، وهم قد تركوا أراضيهم الخصبة وثروات بلادهم الباطنية وأنهارا لا تنضب من وافر المياه؟ أليس هو النظام الذي سنه عقل بشر وباسم القانون المرسوم قواعده وفق دستور تحميه قوة اقتطعت من أبناء هذا الشعب البائس لتسلم باسمه مقدرات وعائدات بلدهم إلى شركات الإحتكار العالمية لدرجة تصديق العامة أنه لا حق لهم في هذه الثروات, وأن ما تقوم به هذه الأفاعي المجرمة قدر مقدور وأمر يجب التسليم به والخضوع له. فكان من نتائج هذه الثقافة التي أنتجها الفقر والإذلال أن غدا الأحرار بضاعة في سوق المزايادات السياسية, بين من حشرهم في مخيمات وبين من منّ عليهم بدخول الحدود وسجنهم على أطرافها.
ولعل البحر الأبيض المتوسط مهدُ أغلب حضارات الأرض ومستقر النبوات أكبر شاهد عمّا غيب من جثث ضحايا المراكب المخروقة من أبناء إفريقيا وما جاورها في رحلات الوهم والذل إلى أوروبا،وهم الذين تركوا خلفهم جنات وعيون ومناجم الذهب والأحجار الكريمة التي حال حكامهم دونها ليمكنوا منها أعداء الإنسانية أعداء الله خالقهم ومكرمهم ” ولقد كرَّمنا بَني آدمَ وحَمَلناهُمفي البَرّ والبحرورَزقناهُم منَ الطيّبات “.أليست هي هذه الأفكار والمفاهيم التي يمكر المجرمون بالليل والنهار لحمل الناس على الخضوع لها والاستسلام أمامها، وما انبثق عنها من نظم ومعالجات هي سبب ضنكهم وما حاق بهم؟
إلا أن حجم الكوارث التي ابتلي بها أهل تونس منذ أن وطأت أقدام المستعمر الكريهة كريم أرضنا ودنّست طهرها لم يكف حكام ما بعد الثورة بل وكافة الوسط السياسي ليعوا على خطر وجرم الإرتماء في أحضان هذا الغرب المستعمر بتبني أفكاره ومفاهيمه ووضع الحلول والمعالجات لشتى قضايانا بما انبثق عن هذه الأفكار العفنة وما تسطره مراكز قراره ودراساته وما ترسمه لنا من أهداف سياسية واقتصادية وحتى الأمنية منها. فلا هم اتعظوا بما يشاهدونه من ويلات الشعوب المُوَلّى عليها من حولهم ولا هم وعضتهم حالهم التي تزداد سوءا حتى غدا قول قائلهم : ” إن الأوامر تأتي من الخارج ” لا يحرك حِسا ولا يثير انتباها.
لقد صار الإعراض عن شرع الله عندهم دينا ومنهجا, وكل الحلول التي يطرحها الإسلام بوصفه مبدأ ينظم الحياة ونهجا يعالج كل قضية بوصفها الإنساني في حكم المعدوم عندهم، فهم يديرون وجوههم لكلّ لاطم ويصغون لكلّ ناعق بدعوى المنهجية والعقلانية، إلا أن منهجيتهموعقلانيتهم تتبخر إذا جوبهوا بأحكام شرع الله حتى لا يتهمهم أولياء نعمتهم بالتخلف والرجعية. فكانت أبواب تمويل ميزانيتهم مقصورة على جباية ما تبقى من هباءات مال بجيوب المطحونين بالآلة الرأسمالية المتوحشة أو سلسلة قروض تزيد من وطأة قيود ديون لا نعلم حجمها على وجه التحديد إلا أننا بدأنا نجد شدّة حبال المكر الإستعماري حول رقابنا بحلول ” مؤسسة التمويل الدولية ” بديارنا لتتولى تدوير القروض التي فرضتها علينا مؤسساتهم بتواطئ غادر ممن يقال عنهم أنهم ساسة لنا.
ولما كان الإسلام الذي أرسل الله به محمدا صلى الله عليه وسلم نظاما للحياة ورسالة للعالم كان لابد من دولة تطبقه وتحمله إلى العالم. فقد جعل الإسلام هذه الدولة ” دولة خلافة “… وأناط بها أن تقوم برعاية شؤون الأمة. وأناط بها القيام بإدارة الأموال الواردة للدولة وإنفاقها، حتى تتمكن من الرعاية، ومن حمل الدعوة. وقد بينت الأدلة الشرعية موارد الدولة المالية، وأنواعها، وكيفية تحصيلها، كما بينت مستحقيها، وجهات صرفها “. فقد ذكرنا في مقالنا السابق من هذه السلسلة بعضا من موارد الدولة في الإسلام التي فرضتها الأحكام الشرعية المنبثقة عن العقيدة الإسلامية وهي:
1ـ الغنيمة
2 ـ الجزية
3 ـ الخراج وهو باب عظيم وافر الريع مَنّ الله به على الأمة بإيصال هذا الحق إليها بوضعه نصيبا مفروضا (خراج سنوي) يقدره رئيس الدولة ( الخليفة )على الأرض التي غنمها المسلمون من الكفار والتي أصبحت تحت سلطان الإسلام، عنوة أو صلحا،بعد أن يدعها بأيدي أصحابها دون إضرار بهم، مثل أرض الشام والعراق ومصر وشمالي إفريقيا…
ونعرض اليوم بابا آخر من أبواب تمويل دولة الخلافة وهو باب تختصّ به دولة الإسلام من دون سائر النظم الوضعية بأن جعل الله لحاملي التابعية الإسلامية حق تملك أعيان مشتركة بينهم وأباح للأفراد الإنتفاع منها دون تملّكها.
وهذه الأعيان تتمثل في ثلاثة أنواع رئيسية هي:
أ ـ مرافق الجماعة التي لا تستغني حياة الجماعة اليومية عنها وتتفرق عند فقدها كالماء لقوله صلى الله عليه وسلم “المسلمون شركاء في ثلاثة : في الماء والكلإ والنار“ وليس الأمر قاصرا على هذه الأعيان الثلاثة المذكورة بل يشمل كل ما تحقق فيه وصف كونه من مرافق الجماعة.
ب ـ الأعيان التي تكون طبيعة تكوينها تمنع اختصاص الأفراد بحيازتها كالطرقات والأنهار والبحار والبحيرات والخلجان والقنوات العامة والمساحات العامة… فهي ملكية عامة لجميع أفراد الرعية.
ج ـ المعادن العدّ التي لا تنقطع وهي المعادن الكثيرة، غير محدودة المقدار (سائلة كانت كالنفط، أو غازية كالغاز الطبيعي أو جامدة كالذهب واليورانيوم والفضة والفسفاط والحديد والكحلوالملح…) فتكون مملوكة ملكية عامة لجميع المسلمين, ولا يجوز أن يختص بها فرد أو أفراد أو أن تملّك أو تقطع لفرد أو أفراد. كما لا يجوز إعطاء امتياز استخراجها لأفراد أو شركات بل يجب أن تبقى ملكية عامة لجميع المسلمين مشتركة بينهم وأن تقوم الدولة باستخراجها وتنقيتها وصهرها وبيعها نيابة عنهم ووضع ثمنها في بيت مال المسلمين.
ويكون الانتفاع بأعيان هذه الملكيات العامة ووارداتها بحسب طبيعتها، فإن كان سهلا على الإنسان الإنتفاع منها مباشرة لم يُحل بينه وبينها، كالماء، فله أن يرد الآبار والعيون والأنهار وله أن ينتفع بالكلأ أنى وجده لرعي مواشيه… وإن كانت أعيان الملكية العامة مما لايسهل الإنتفاع به مباشرة ويحتاج إلى مشقة وجهد واستخراج، كالنفط، والغاز، وغيرها… فإن الدولة هي التي تتولى القيام عليه نيابة عن المسلمين ويكون الخليفة هو صاحب الصلاحية في توزيع منتجاته ووارداته وفق اجتهاده ضمن أحكام الشرح بما يراه محققا لمصلحة المسلمين.
وفي هذا الباب يجوز لرئيس الدولة ( الخليفة ) أن يحمي من ريع الملكية العامة، في حال وجوب تغطية نفقات وجبت على بيت المال، في حالة الوجود والعدم، والتي ينتقل وجوب الإنفاق عليها على المسلمين أن يحمي من مال الملكية العامة ما يسدّ هذه الحاجة. مثل أن يعين الخليفة آبارا معينة من النفط والغاز أو بعض مناجم الذهب والفسفاط فيحميها ويخصص وارداتها للإنفاق على هذه الجهات.
هذا باب آخر من أبواب تموّل دولة الإسلام فرضته عقيدة الإسلام إمضاءً لرسالتها في عباد الله لا تحصل بدونها الكفاية الرعوية وتضمن عدم الحاجة للاقتراض من الأعداء إذ لم يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا.
” أفي قلوبهم مرضٌ أم ارتابواأم يخافُون أن يحِيفَ اللهُ عَليهِم ورَسولُه “