بلفح النّار التي التهمت جسد الصّحفي عبد الرزّاق الزّرقي، وعلى وقع أزمة مُركّبة ـ اقتصاديّة اجتماعيّة سياسيّة ـ يُحيي الشّعب التّونسي هذه الأيّام الذّكرى الثّامنة لاندلاع ثورته المجيدة في ظلّ مُفارقة مؤلمة: فهذه الثّورة ما زالت تُراوح في نفس مُربّعها الأوّل الذي شهد انطلاقتها… ومهدُها الذي أجّجها واحتضنها مازال غارقًا في وحل الفقر والتّهميش والبطالة و(الحُقرة)…أمّا شبابُها الذين أشعلوا شرارتها فقد أضْحَوا وقودًا لها بين غريق تتقاذفه أمواج المتوسّط وحريق يكتوي بنار البوعزيزي الموقدة بفعل فاعل هذه المرّة…فرغم مرور ثماني سنوات على ربيع تونس وتعاقُب سبع حكومات (شعبيّة وثوريّة ومُنتخبة ديمقراطيًّا) وفي ظلّ دستور (توافُقي حداثي تقدُّمي مُزكّى أوروبيًّا) فإنّ الأوضاع الاقتصاديّة والاجتماعيّة لسواد التّونسيين ما انفكّت تغرق في مستنقع الرّداءة: فقد أفرزت الثّورة طبقة سياسيّة بمثابة النّكبة على البلاد ـ أرضًا وبشرًا وعقيدةً وثقافةً وهويّةً ومُقدّرات ـ على يديها القذرتين استحكم الارتهان والتّبعية ونُهبت الثّروات وتضاعفت المديونيّة وتدهورت المقدرة الشّرائية واستفحلت الخصخصة والبطالة واستقالت الدّولة عن واجب رعاية الشّؤون وبلغت القلوب الحناجر…كما استشرى الفساد وامتُهنت الدّولة وانعدمت السّيادة وتغلغل الاستعمار سافرًا في أدقّ تفاصيل الحياة وانتعش الإرهاب الرّسمي في أقبية وزارة الدّاخلية وأُهدرت دماء التّونسيّين واستعرت الحرب على الله ورسوله وشرائعه وحدوده بشكل لم تجرؤ عليه لا فرنسا الاستعماريّة ولا ربيبها وسادن معبد ثقافتها بورقيبة بما يجعل من الثّورة نفسها كمفهوم ورمزيّة محلّ أخذ وردّ ناهيك وأنّها أثمرت نتائج عكسيّة وانحطّت بالبلاد إلى أسفل الدّركات… فهل أنّ الذي حصل في تونس ذات 14 جانفي 2011 كان فعلاً ثورة بما يحيل عليه التّأنيث من خصوبة وعطاء ونماء وحياة، أم أنّه (ثور) أي استبدال طاقم الفساد دون المساس بمنظومة الفساد بما يُحيل عليه التّذكير من قحط وجدب ورعونة..؟؟
بين الثّورة والانتفاضة
من المفيد جدًّا لفهم واقع الثّورة في تونس أن نحدّد المفاهيم ونضبط المصطلحات ونُنزّلها على أرض الواقع المُنجز لاسيما في ظلّ الالتباس والميوعة والتّوظيف الاستعماري…فالثّورة ـ لغةً ـ هي حالة قصوى من الهيجان والانفعال والاضطراب والبلبلة مصحوبة بالغضب والعنف والفوضى…أمّا اصطلاحًا فالثّورة بمفهوم علم الاجتماع السّياسي الحديث هي القطع مع السّائد والانقلاب الكلّي في القيم والمفاهيم والتغيير الجذري في المنظومات السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعية والثّقافية، وهذا يقتضي أن تبنى على الفكر بالأساس، أي أن تُسبق بثورة ثقافيّة قبل أن تتجسّد على أرض الواقع في شكل منجزات ومؤسّسات وسلوكيّات… هذا المفهوم السّوسيولوجي الدّقيق للثورة كثيرًا ما يلتبس في الأذهان بمفهوم قريب منه متداخل معه ملتصق به ألا وهو مفهوم الانتفاضة: فلئن كانت الانتفاضة تشترك مع الثّورة جزئيًّا في المعنى اللّغوي بما أنّ كلتيهما تشهدان حالة من الهيجان والانفعال، إلاّ أنّها تبقى مجرّد هبّة شعبيّة عابرة وحراك جماعي عفوي وشكل من أشكال التّعبير العنيف عن الاحتجاج والرّفض يتوقّف عند هذا الحدّ فلا يرتقي إلى مستوى الثّورة، فكلّ الثّورات تبدأ عمليًّا بانتفاضة لكن ليس كل انتفاضة تتبلور وتُتوّج بثورة..
وبالمحْصَلة فإنّ هناك أربعة فوارق أساسيّة بين الانتفاضة والثّورة، أوّلها: أنّ الانتفاضة هي عبارة عن ردّة فعل غريزيّة وشكل متشنّج من الاحتجاج والرّفض لإفراغ شحنة من الغضب والتمرّد أمّا الثّورة فهي تعبيرة ناضجة واعية قائمة فكرة كُليّة تستهدف تغيير العقليّات والمفاهيم ثمّ المجتمع بنُظُمه ومؤسّساته…ثانيها: أنّ أهداف الانتفاضة تكون ضبابيّة آنيّة سطحيّة مَطلبيّة ترقيعيّة، أمّا الثّورة فأهدافُها أوضح وأكثر دقّة وتنصيصًا تطمح إلى إرساء قيم ومبادئ ومفاهيم جديدة وترنو إلى اقتلاع المنظومة القديمة من جذورها لا مجرّد استبدال أشخاص الحُكّام…ثالثها: أنّ الانتفاضة تكون عفويّة غير منظّمة ولا مُنسّقة ولا مؤطّرة بشكل فعّال، في حين أنّ الثّورة أكثر تنظيمًا وتأطيرًا وتنسيقًا كما تمتلك قيادة موحّدة معلومة مُعلنة…رابعها: أنّ الانتفاضة محدودة من حيث الحجم والمكان والزّمان في حين أنّ الثّورة أشمل نطاقًا وأوسع مجالاً وأطول نَفَسًا…
الثّورة والإسلام
إنّ أهمّ ما يُميّز الثّورة عن الانتفاضة عامّةً هو قيامها على فكرة سياسيّة أساسيّة مناقضة للمنظومة السّائدة منبثقة عن العقيدة التي يتبنّاها الثوّار، هذه الفكرة في الحالة التونسيّة هي الإسلام عقيدة الشّعب الثّائر المكبوتة: فالإسلام جاء بمنظومة حياة لدُنيّة متكاملة تمثّل قطيعة لا مع السّائد والمكرّس استعماريًّا فحسب (الرّأسمالية الوطنيّة التّابعة) بل مع الفكر البشري عمومًا، حيث أخرجت الإنسانيّة جمعاء من عبادة العباد إلى عبادة ربّ العباد وقامت عليها دولة عظيمة متفرّدة متميّزة أنظمةً وأجهزةً وقوانين ملأت جوانب التّاريخ وتسنّمت الموقف الدّولي لأكثر من ألف عام…فهل كان لهذا الإسلام السياسي في شموله وكماله حضور وصدى في ربيع تونس…؟؟ لقد أجاب الشّعب التونسي المسلم الأبيّ عن هذا التّساؤل بنفسه عمليًّا في أوّ فرصة أُتيحت له بعد الثّورة للاختيار الحُرّ النّزيه (انتخابات المجلس التّأسيسي 23/10/2011) حيث انتخب الإسلام مُجسّدًا في حركة النّهضة قبل أن تسقط عنها ورقة التّوت التي كانت تستر علمانيّتها وعمالتها، ناهيك وأنّ سائر الفقاقيع الحزبيّة العلمانيّة ما كان لها أن تطأ المجلس التّأسيسي (بالصّفر فاصل) لولا مهزلة (أكبر البواقي)…صحيح أنّ الشّعارات الإسلاميّة الصّريحة السّافرة لم تكن في بداية الثّورة واضحةً جليّة على ألسنة أحرار الوسط الغربي الأشاوس وشباب أحزمة العاصمة الحمراء الذين أطاحوا بالطّاغية بن علي…وصحيح أيضًا أنّ مطالبهم تمحورت أساسًا حول التّشغيل والتّنمية وتحسين الوضعيّة الاقتصاديّة والاجتماعيّة…ولكن ذلك لا يُعدّ مؤشّرًا على أنّ الإسلام مُقصى من أجندا الثوّار وأنّ ربيع تونس ثورة علمانيّة تُطالب بفصل الإسلام عن الحياة وتقطع مع جذور هذا الشّعب الثّائر الضّاربة في عمق التّاريخ الإسلامي…
فالإشكال يكمن تحديدًا في غياب الفهم الصّحيح للإسلام بما هو منظومة حياة متكاملة كفيلة بمعالجة مشاكل جنس الإنسان مهما كان منشؤها، سواء أكانت دينيّة تعبُّديّة أم اقتصاديّة أو اجتماعيّة أو سياسيّة…فهذا الشّعب الذي غُرّب ومُسِخَ وصُحِّر دينيًّا طيلة الفترة الاستعماريّة وما تلاها من ملك جبري، ثمّ قُمِع ونُكِّل به وحُرب بالوكالة من طرف (دولة الاستقلال المزيّف) في أبسط شكليّات إسلامه (الصّلاة ـ الخمار ـ اللّحية..) من الطّبيعي ألاّ يُحسن التّعبير عن مطالبه الإسلاميّة في جزئيّاتها وان يكتفي بوصول الإسلامييّن إلى الحُكم مُحاطين بهالة من الشّكليّات ويعتبر ذلك فتحًا مُبينًا…وكونه اختار الإسلاميّين بشكلٍ كاسح في أوّل مواجهة له مع صندوق الاقتراع دليل قطعيّ على أنّ ثورته إسلاميّة وأنّه يُطالب بتطبيق شرع الله…فقط يحتاج إلى من يأخذ بيده ويميّز له الخبيث من الطيّب ويبيّن له شرع الله من شرائع الشّيطان…ولمثل هذه المهمّة الجليلة وُجد حزب التّحرير، وكان ـ ومازال ـ طرَفًا فعّالاً في الثّورة التّونسيّة…
ربيع تونس
ما مدى انطباق مصطلح (ثورة) على ما شهدته تونس ذات 14 جانفي 2011..؟؟ هل أنّ ما حدث في ذلك التاريخ يعدّ ثورة بالمفهوم السّوسيولوجي للمصطلح أم مجرّد انتفاضة..؟؟ بمعنى هل حدثت قطيعة كليّة مع العهد البائد ومنظومته الرّأسمالية الوطنيّة التّابعة والاستعمار الكامن وراءها، أم مجرّد تغيير أشخاص الحكّام واستبدال جوقة التجمّع والطّرابلسية بطاقم فساد آخر مع بقاء منظومة الحكم والوضع السّياسي بارتباطاته الخارجيّة على حاله…؟؟ لم يكن ربيع تونس البتّة حركة تمرّد عفويّة يائسة، أو ردّة فعل غريزية آنيّة لإفراغ شحنة من الغضب، بل كان تتويجًا طبيعيًّا لإرهاصات ثوريّة بدأت منذ 2008 (الحوض المنجمي) إلى أن اختمرت وتعتّقت ذات 17 ديسمبر على لفح النّار التي التهمت جسد البوعزيزي… فاستشرت واتّسعت حجمًا وكمًّا ومكانًا وزمانًا وما فتئت تتنظّم وتنضج فيشتدّ عودُها يومًا بعد يوم وشهيدًا إثر شهيد… ورغم افتقارها لقيادة بشريّة مُعلنة إلاّ أنّها كانت مُنظّمةً ومُؤطّرة يوحّدها الهمّ المشترك والمصير المشترك في شبه قيادة فكريّة التفّ حولها النّاس، فكان الصّمود والمثابرة والإصرار وطول النّفس والتّنسيق وتبادل الأدوار بين “البؤر” الكُبرى (سيدي بوزيد ـ القصرين ـ صفاقس ـ حي التّضامن…) وكُلّما امتدّ بها الزّمن تبلورت مطالبها ووضحت أمامها الرُّؤية وبرهنت على أنّها تعبيرة واعية راقية ناضجة هادفة، ناهيك وأنّها رفعت شعار (الشّعب يُريد إسقاط النّظام) أي اقتلاع المنظومة القديمة من جذورها لا مجرّد استبدال أشخاص الحُكّام… وهكذا شعار يقطع مع النّضالات المطلبيّة الرّخيصة والأهداف الآنيّة السّطحية التّرقيعيّة، ويعكس رغبة دفينة في الانفلات من ربقة المنظومة الرّأسمالية الجشعة التي اكتوى التّونسيّون بنارها منذ انتصاب الحماية الفرنسيّة، كما يُبشّر بتغيير العقليّات والمفاهيم وبعودة الأمّة إلى حُضن عقيدتها ومبدئها الدّافئ…ذلك أنّ المطالب التّفصيليّة للثوّار (تشغيل ـ تنمية ـ تحسين الوضعيّة الاقتصاديّة والاجتماعيّة…) تجعل من ربيع تونس إسلاميًّا بالقوّة قبل أن يصير كذلك بالفعل: فتحقيقها يتجاوز المنظومة الرّأسمالة، إذ أنّ الفقر والبطالة والتخلُّف والتّدهور الاقتصادي والاجتماعي إفراز طبيعي من إفرازاتها وكلّ إناء بما فيه يرشح، كما يتجاوز تحقيقها أيضًا المنظومة الشّيوعية التي تكبت الملكيّة الفرديّة وتساوي بين النّاس في الخصاصة وتعبّد الجميع للدّولة، ولا تجد علاجًا شافيًا لها إلاّ في ظلّ المنظومة الإسلاميّة…فسواء أوعى الثّوار بذلك أو لم يعُوا فإنّ خلاصهم في الإسلام وحده، وإنّه من الأهميّة بمكان لإنجاح الثّورة أن نربط مطالب الثوّار بعقيدتهم وأن نأخذ بيدهم نحو الكيان السياسي الذي يتكفّل بتحقيق ذلك، وهذا أيضًا باب مُشرّع اقتحمه شباب حزب التّحرير باقتدار ومازالوا يطرقونه مع الأمّة بما ينذر الاستعمار بالقلع والزّوال…
الالتفاف على الثّورة
إلى هذا الحدّ ما كان للكافر المستعمر وأذنابه في الدّاخل أن يسمحوا لمشروع الأمّة بالتحقّق: فقد قطعوا طريق هذه الثّورة النّاضجة نحو تحقيق أهدافها وحوّلوا ربيعها الإسلامي المزهر إلى خريف استعماري بائس حزين، فارتدّت انتفاضة جياع خاسئة وهي حسيرة واستحالت وبالاً على أهلها في مفارقة عجيبة… فقد انخرط الاستعمار في ثورة مضادّة لإعادة البلاد والعباد إلى بيت طاعته، فعمد إلى طعن الثّورة منذ أيّامها الأولى في أربعة مقاتل: أوّلُها أنّه نزّلها في إطار دستور 1959 بوصفها مجرّد حالة طارئة أو خروج عن القانون، فقد سدّ رئيس البرلمان فؤاد المبزّع الشّغور الحاصل في الرّئاسة كما ينصّ عليه الدّستور، وكلّف الوزير الأوّل لبن علي محمّد الغنّوشي بتشكيل حكومة جديدة (وطاح الكاف على ظلّو)…ثاني المقاتل نزع شرعيّة الثّورة وسحب البساط من تحت الثوّار واغتصاب سلطانهم: فقد جيء بهيئة بن عاشور التي احتكرت الثّورة ونصّبت نفسها ناطقة باسمها (الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثّورة..) وجاءت بالباجي قائد السّبسي ابن بريطانيا وجزّار صبّاط الظّلام الذي فضّ اعتصام القصبة ـ 2 ـ بالحديد والنّار وكتم كلّ نفس ثوري تحت طائلة القانون…ثالث المقاتل مُصادرة عقيدة الثّورة والثوّار عبر انتحال صفة الإسلام وركوبه وتوظيفه: فقد جيء بحركة النّهضة بزعم مرجعيّتها الإسلاميّة فالتفّ حولها الشّعب المتعطّش للإسلام واستُخدمت كقُفّاز قابلة وُلدت على يديها كافّة مشاريع الاستعمار المُستهدفة لتونس، من الدّستور الوضعي المحارب لله ورسوله إلى إعادة التجمّع إلى السّلطة مرورًا بتجديد عقود النّهب وإجهاض قوانين العزل السّياسي وتحصين الثّورة وتجريم التّطبيع…أمّا المقتل الرّابع فهو المسار الدّيمقراطي: فعبر الآليّة الفضيحة (أكبر البواقي) حُقنت قسرًا في المجلس التّأسيسي جملة من الطّفيليّات العلمانيّة الميكروسكوبيّة التي تنخر الوسط السّياسي التّونسي، وذلك من أجل تقزيم تمثيليّة حركة النّهضة وتعويم صوت النّاخب الإسلامي ومن ورائه موقف الإسلام في المجلس التّأسيسي، وقد تولّت تلك الفقاقيع حشر حركة النّهضة في الزّاوية وكتم أيّ نفَس إسلامي فيها ودفعها للتّنازُلات وتزويدها بالمبرّرات أمام قواعدها وأمام الشّعب التّونسي…وبذلك نجحت الثّورة المضادّة وعادت منظومة الفساد والارتهان إلى السُّلطة من شبّاك الباب الذي طُردت منه، فالتفّت على الثّورة وخنقتها ورهنت البلاد والعباد والمقدّرات للكافر المستعمر مجدّدًا وعُدنا إلى المربّع الأوّل لبن علي والطّرابلسية بأشكال أخرى…
الثّورة تستمر
إزاء هذه الإنتكاسة هل نعتبر أنّ الثّورة التونسيّة (وفات فلوسها) وأصبحت في ذمّة التّاريخ كمحاولة فاشلة..؟؟ قطعًا لا: فالثّورة التّونسية مازالت حيّة ومتواصلة لأّنّها ثورة الأمّة الإسلاميّة قاطبةً وما تونس إلاّ جبهة من جبهاتها على غرار ليبيا ومصر وسوريا واليمن.. .ودونك أحداث السّودان هذه الأيّام فهي دليل قاطع على أنّ ثورة الأمّة بخير ومازالت مُتّقدة ومتواصلة… فالثّورة ليست حالة ثبوتيّة بل في سيرورة وتواصل وقد تشهد بعض الهزّات والارتدادات والانتكاسات والكبوات ولكنّ المعركة مع الكافر المستعمر لم تُحسم بعد ونجاحها رهين مشروع سياسي ضديد نابع من عقيدة الأمّة وفئة واعية مخلصة تحمِلُه إلى الأمّة بالشّكل الذي يجعلها تلتحم به وتتبنّاه… وإزاء تعثُّر الثّورة التّونسية وفشلها في تحقيق أهدافها كيف السّبيل إلى ترشيدها والأخذ بيدها نحو شاطئ الخلافة…؟؟ هل يكون ذلك بالانخراط في المسار الدّيمقراطي والمشاركة في الانتخابات المقبلة سنة 2019..؟؟ إنّ واقع تونس اليوم هو واقع ارتهان وتبعيّة وغياب السُّلطان واستعمار وتشرذُم وذُلّ وهوان، وهو ليس مناط ممارسة سلطان بل مناط استرداد سلطان…فمن البلاهة والسّذاجة أن نتصوّر ضمن هكذا واقع إمكانيّة إجراء انتخابات سياديّة يمارس خلالها التّونسيّون سلطانهم، فذلك يقتضي أوّلاً التحرُّر من نير الاستعمار بجميع أشكاله، فالواقع تحت الاستعمار ـ تمامًا كالعبد ـ سلطانه بيد سيّده وليس له سلطان يمارسه، كما أنّ الأُطُر الرّسمية (انتخابات ـ مسار ديمقراطي…) ليست مظنّة طرد الاستعمار وإيصال الإسلام إلى الحكم، فالكافر المستعمر جعل من الدّولة الوطنيّة ـ دستورًا وأنظمةً ومؤسّسات ومُقدّرات ـ ومن الانتخابات ـ آليّةً وبرنامجًا ومواصفات ـ أداة لإقصاء الإسلام والمسلمين من الوسط السّياسي ومحاربتهم حرب إبادة لا هوادة فيها فكيف يُتَصوَّرُ أن يعود الإسلام إلى الوجود والحياة عبر نفس آليّات الفناء والموت..؟؟ فالمنظومةُ الدّيمقراطية بكاملها وظيفتُها التّصدّي للإسلام، والمسلمون اليوم مطروح عليهم استرداد سُلطانهم المُعطّل وتفعيله بإقامة الدّولة الإسلاميّة ومبايعة خليفة، وهذا لا يكون عبر صندوق الاقتراع والشرعيّة الدّيمقراطيّة ـ فهي حلبة الكافر المستعمر التي يحكم بها قبضته على البلاد والعباد ـ وإنّما يكون عبر الدّفع بالحالة الثّورية إلى أقصاها واستنقاذ الثّورة من براثن السّلطة ومؤسّساتها والعمل في الأمّة والتّفاعل معها بالشّكل الذي يجعلها تسلّمنا سلطانها وتمكّننا من حُكمها بالإسلام، فالحُكم والسّلطان ملك للأمّة…
السّلطان للأمّة
بما أنّ السّلطة والحكم يكمُنان في الأمة فقد تبنّى حزب التّحرير أنّه يصل إلى الحكم عن طريق الأمة ويتسلّم الحكم منها مباشرةً وليس من الحاكم المرتهن ولا عبر الانتخابات وصناديق الاقتراع.. ولكن كيف يتحقّق ذلك..؟؟ باستقراء السّيرة العطرة في المرحلة المكيّة نجد أنّ الرّسول صلّى الله عليه وسلّم لم يخضع للمنظومة الشِّركيّة القُرشيّة ولم يُوظّفها أو يركبها ولم يُعطِ الدّنيّة في دينه ولم يقبل الحكم مُجزّأً رغم انّهُ عُرض عليه، ولم يتدخّل في انتخابات ولا خضع لصندوق اقتراع، بل أسّس حزبًا وركّز شخصيّاتٍ إسلاميّة وأوجد رأيًا عامًّا مُنبثقًا عن وعي عامّ حول أفكار الإسلام وأرسى قاعدةً شعبيّةً وأخذ البيعة من مُمثّلي النّاس الحقيقيّين وطلب النُّصرة من أهل الشَّوْكة ثمّ أسّس دولته دون أن يُريق قطرة دمٍ واحدة، وهذا ما نحن مُطالبونَ بإخضاع الثّورة لهُ حتّى تنجح وتحقّق أهدافها… أمّا تفصيل ذلك فإنّ الحُكم يجب أن يقوم على عقيدة الأمّة والفكرة التي تعتنقُها فإذا وُجدت فكرة الدّولة الإسلاميّة في الأمّة فقد وُجدت الدّولة فقضيّتُنا بناء دولة وليست استلام حُكم وهذا البناء لا يتحقّق إلاّ بثلاث خطوات كُبرى: أُولاها إيجاد رأي عامّ منبثق عن وعي عامّ عند الأمّة على أفكار حزب التّحرير ومشروعه الإسلامي.. ثانيتها: بناء قاعدة شعبيّة وأخذ القيادة الفعليّة للأمّة أي حصول التّجاوب من النّاس واحتضانهم للفكرة الإسلاميّة وحَمَلَتها ومبايعتهم للحزب بيعةً حربيّة كبيعة العقبة الثّانية…
ثالثتُها: طلب النُّصرة من أهل الشّوكة والقوّة لحماية الدّولة والحكم، وإذا تحقَّقت هذه الخُطوات الثّلاث فإنّ استلام الحكم يكون تتويجًا طبيعيًّا ونتيجةً حتميّة، وهي تتحقّقُ على الميدان وليس في صناديق الاقتراع أو عبر الانتخابات.. هذا ما يجب أن نقوم به لاستنقاذ ربيع تونس من العُقم والفشل والوصول به إلى شاطئ السّلام خِلافةً راشدة على منهاج النبوّة…