اندلعت دون سابق تخطيط ولا تأطير.. فقط تزايد شعور الناس بالقهر جعلهم يثورون على “بن علي” وزمرته, فعلوها سابقا في عهد ” بورقيبة ” لكن سقف المطالب كان متدنيا إلى حدّ أمكن ل “بورقيبة” من امتصاص غضبهم العارم.. وتحويله إلى موجة من الفرح والإشادة بحكمته وحسن رعايته، بمجرد استجابته لمطالبهم والمتمثلة في إلغاء الزيادة في سعر الخبز. لم ير الناس من ظلم النظام وتعسفه سوى الزيادة في سعر الخبز, ولم يكن لديهم إدراك لسبب شقائهم والضنك الذي يعانون ويلاته.. واستمر ” بورقيبة” واستمر النظام بظلمه وفساده. مع الشعور بنخوة الانتصار, كيف لا والناس أجبروا الطاغية على التنازل وتلبية مطلبهم.. والحال أن ما فعله ” بورقيبة” لا يتعد كونه واحدة من ألاعيب المستعمر الذي يتحكم في مصيرنا ويسير شؤون بلادنا وفق مصالحه وأطماعه بضمانة انعدام الوعي وانحصار تفكير الناس في العيش دون سواه..
“بن علي” على خطى “بورقيبة”
لم تدم النشوة بالانتصار على “بورقيبة ” وحكومته طويلا وأحس الناس بأن الدماء التي سالت في انتفاضة الخبز ذهبت هدرا.. لأن مستوى عيشهم ظل يراوح مكانه ولم يغادروا شظفه قيد أنملة, وأرجعوا ما يكابدونه إلي تدهور صحة “بورقيبة” وفساد المحيطين به وجانبوا مرة أخرى الصواب بعدم إدراكهم أن النظام هو المذنب في حقهم وذنب “بورقيبة” أنه سلطه عليهم. وفي عملية استباقية.. وحتى لا يكون التغيير خارج إرادة القوى الفعلية المتحكمة في البلاد جيء بالبطل المنقذ على أعين تلك القوى الاستعمارية. وأشعروا الناس بأن من جاؤوا به سيغير حالهم ويقطع مع سياسة “بورقيبة” ويحول الجحيم الذي حشرهم إليه بورقيبة نعيما مقيم.. وان طلت الحيلة واختار المخلوع لفترة حكمه عناوين توهم الناس بأنهم تخلصوا وإلى الأبد من ربقة الظلم والاضطهاد كالتحول المبارك والتغيير وفجر السابع من نوفمبر ونحو ذلك من الشعارات الجوفاء.. ليسود الشعور بالرضا والطمأنينة, ومعه يزداد النظام ترسيخا وتثبيتاو مادام الناس يرون العلة في الأشخاص وليس في طبيعة النظام. وانخدع الناس مجددا ليواصل “بن علي” السير على نهج “بورقيبة” وهم لا يشعرون. إلى أن ذاقوا البأس نفسه وعانوا العذاب عينه ولمدة ناهزت الربع قرن, عندها خرجوا وانتفضوا على ” بن علي” وزمرته.. وهذه المرة لم يخدعهم صانع التحول الكاذب كما خدعهم صانع الاستقلال المزيف. ولم تنطل عليهم حيلة التخفيض في بعض المواد الاستهلاكية وتشبثوا برحيل ” بن علي”, وفي النهاية كان لهم ما أرادوا..وفرّ الطاغية وساد الاعتقاد بأن البلاد تخلصت من الظلم, وأنه هذه المرة حصل التغيير المنشود على عكس ما حصل سنة 1984 حين ثار الناس بسبب الترفيع في سعر الخبز.. واعتقدوا أنهم لو لم ينخدعوا باستجابة “بورقيبة” لمطلبهم وطالبوا برحيله لما بقوا في العذاب كل تلك السنين. واليوم ها هم يصححون خطأهم ويجبرون ” بن علي” على التنحي وحسبوا أنهم أحسنوا صنعا..
الخروج من الورطة
لا يمكن بأي حال من الأحول التقليل من شأن ما أقدم عليه أهل تونس وطردهم “بن علي” فما حصل في شتاء 2011 ينم عن ارتفاع في منسوب الوعي لدى الناس, إذ أن المطالبة برحيل رأس السلطة يعتبر تطورا ايجابيا وبداية تحسس الطريق المؤدية إلى إدراك سبب الرزية التي حلت بنا, وهي هذا النظام الوضعي الذي زجّ بنا المستعمر وأذياله في غياهب سجنه. ليس من الهين على المسئول الكبير وحكومته الإطاحة بعميل لهم دون علمهم ودون وإرادتهم. فهي سابقة خطيرة وجب عليهم التعاطي معها بالشكل الذي يمكنهم من المواصلة في بسط نفوذهم وإحكام قبضتهم على البلاد ومقدراتها. والأهم من هذا كله الاستمرار في تغييب الإسلام وفصله عن الحياة, والإبقاء على النظام الديمقراطي الوضعي. فهم يدركون تمام الإدراك أن الإسلام هو الوحيد القادر على هدم بنيان النظام الديمقراطي, ومن ثمة القضاء على أطماعهم وكنسهم من بلاد المسلمين. وللخروج من هذا المأزق استنجدوا في البداية بفئة محسوبة على الإسلام, ولها مكانة وحظوة لدى الأغلبية ساحقة من أهل تونس لاعتقادهم بأنها لو وصلت إلى الحكم فهي بداهة ستحكم بالإسلام وتطبق عليهم أحكامه.
وهذا الاعتقاد أوجتده علاقة تلك الفئة مع “بورقيبة” و بن علي” القائمة على قمعها واضطهادها على أساس أنها تنتمي للحركات الإسلامية وتعمل على تقويض النظام الديمقراطي. وفي الواقع العكس هو الصحيح, فهي لا تملك من صفة إسلامية إلا التسمية ولا علاقة لها بالإسلام كمبدأ لا من قريب ولا من بعيد.. وهذا ما كان يعيه المستعمر جيدا فتلك الفئة لا تختلف عن العلمانيين إلا من حيث بدأ الكلام بالبسملة والالتزام بالعبادات, بل هي أشد ضررا من الحداثيين أنفسهم لأنها تختفي خلف شعارات في ظاهرها تدعوا إلى الإسلام وفي باطنها تحاربه وتعمل جاهدة على فصله عن الحياة. لهذا وجد فيها المستعمر قشة النجاة, وبوصولها إلى الحكم ضمن استمرار وجهة نظره وهيمنة نمط عيشه على المسلمين في تونس.. وبالتالي إبقاء الحال على ما هو عليه ومن هنا كانت بداية الغدر بالثورة..
الثورة بين اليأس والأمل
كان الناس يأملون أن ينفرج كربهم بمجرد طرد “بن علي” واختفاء بطانته الفاسدة من حياتهم, لكنهم بمرور الوقت أصيبوا بخيبة أمل كبرى وأصبح الشعور بالإحباط هو المسيطر, خاصة وأن آلة التثبيط والحط من العزائم وجدت المساحة الكافية لتزيد من يأسهم وتعمل ليلا نهارا على شيطنة الثورة بتحميلها وزر تدهور الأوضاع وإرجاع الفشل المطلق لجميع الحكومات المتعاقبة إلى خروج الناس على ” بن علي” والتمكن من تنحيته. فكل الآثام رموا بها الثورة. حتى أن البعض صدّق أراجيفهم وأكاذيبهم وأصبح يعض أصابعه من الندم على إسقاط “بن علي” ..لكن مع تتالي الخيبات انقلب السحر على الساحر وبدأ يتكشف للناس أن مكمن عللهم يتمثل في الطبقة المهيمنة على السلطة. وأن الدولة الحالية والتي لها من العمر ما يناهز ستة عقود هي رأس الداء, وأن السياسة المتبعة هي مرد الخواء والخراب المسيطران على حياتنا. وتحول اليأس الذي حاول أعداء الثورة زرعه في نفوس الناس إلى يأس ايجابي وبناء.
انه يأس من هاته الزمرة الحاكمة والأحزاب العلمانية التي تدور في فلكها. ومن ثمة بدأت الأنظار تتجه نحو القوانين المنبثقة عن النظام الوضعي وبدأت سهام القدح تطاله رويدا رويدا. كما أن الناس بدءوا ينتبهون للفخ الذي نصبه لهم سدنة معبد الديمقراطية، والمتمثل في الانتخابات المراد منها تجميل وجه هذا النظام لا غير.. وقد تجلى ذلك بوضوح في العزوف المدوي عن الانتخابات البلدية, والحالة تلك, فحتما القادم سيكون سمته البارزة البحث عن البديل. فمسألة المراهنة على الأشخاص ونظافة اليد والكفاءة و.. كلها حيل تآكلت وعفا عليها الزمن ولم تعد تنطلي على الناس. فكل من أنس فيه ناس خيرا خيب ضنهم, والسبب أن كل من مسك بمقاليد الحكم سار على نهج من سبقه.. تغيرت الوجوه والأسماء..ولم يتغير الوضع. ثروات منهوبة, سيادة معدومة, فقر, جهل, ومزيد من الارتهان لقوى الشر العالمية. كل هذا لا يمكن أن يكون وراءه أشخاص.. بل هو نظام لا يصلح ليرعى شؤون الناس هو نظام فاسد لا يعتلي سدته إلا الفاسدون. وعليه ستستأنف الثورة سيرها. وستكون وجهتها نحو إيجاد البديل, علما بأن هذا البديل موجود في وجدانهم فقط هم في حاجة إلى من يرشدهم إليه ليضعوه موضع تطبيق. انه الإسلام بوصفه عقيدة ينبثق عنها نظام يشمل جميع جوانب الحياة. أما في ما يخص المرشد والموجه فهو حزب التحرير الذي أخذ على عاتقه العمل مع الأمة ليصل بالإسلام إلى الحكم وهو بذلك زعيم.