لئن كان من المشروع ومن الحق الذي لا يماري فيه أحد أن يعمل الأفراد ومنتسبي القطاعات الفكرية والمهنية على تحسين أوضاعهم المتردية والمزرية بالكرامة البشرية، والسعي لرفع مستوى عيشهم المتدني، وتغيير واقعهم المفروض عليهم بالتضليل والقهر الذي يوظف قوة السلطان، فإن قصر عملية تغيير هذا الواقع على ” المطلبية الأنانية ” لكل قطاع ثم التوجه صوب الوجهة الخطأ، حين يرجى الخلاص ممن كان سبب كل بلاء، يجعل من رجاء تحقيق أي غاية أبعد من السراب علاوة على إهدار الطاقات وزرع بذور اليأس في النفوس الصادقة وإسباغ مصداقية كاذبة على مواقف وأعمال المضلّين الانتهازيين.
فالإتحاد العام التونسي للشغل رغم أنه وجد نفسه في موقع المضطر للاحتجاج بما كشفه الصادقون والوقائع الحسية، من أن السلطة في تونس كنظيراتها في أغلب العالم الإسلامي، واقعة تحت النفوذ الفعلي لقوى الهيمنة الاستعمارية، دولها ومنظماتها، وأنها لا تملك من أمرها شيئا، حين توجه للشغالين في معرض التدليل على مشروعية دعوته لإضراب الوظيفة العمومية بأن هذا العمل هو ” لبنة جديدة من تحرير قرارنا الوطني من القرارات الخارجية المسقطة ” وأنه ” يرفض الإملاءات الخارجية التي تتحكم بمصير التونسيين وأبنائهم “، وهو الموقف الذي أكده اتحاد الشغل، تقريريا، خلال مؤتمر صحفي حين قال: إن ” صندوق النقد الدولي فرض على الحكومة التونسية قرارات معينة تتعلّق بأجور الموظفين العموميين بتونس “، مشيرًا إلى أن ” الوفد الحكومي الذي تفاوض مع الاتحاد بشأن الزيادة في الأجور كان على اتصال دائم بإدارة مجلس صندوق النقد الدولي لاستشارته “. إلا أنه ورغم علم قيادة الاتحاد بكل ذلك، وهي المطلعة على أكثر مما تعلن، جعلت من حرف الناس عن أصل القضية: “تحرير الإرادة” وإنهاء التدخل الخارجي بدفع القوى العاملة بعيدا عن الحل الجذري الذي يقطع مع أسباب التخلف والذل، مع علمها أن الحكومة سوف لن تخرج عما قررته المؤسسات المالية العالمية، لا زالت تتعامى عن حتمية قيادة الناس نحو العمل على تحطيم الهيمنة الاستعمارية أولا وقبل كل شيء, لا إشغالهم بغايات ليس من نتيجتها أقل من تثبيت الظلم وتأبيده عليهم.
أهمية الظرف السياسي
يأتي هذا الإضراب في وقت بدأت تتجلى للعموم زيف القوة التمثيلية، التي لطالما ادعتها القيادات المختلفة للاتحاد للطبقة العاملة، ووهن ثقلها السياسي والاجتماعي لما صار يتحلّى به العاملون بالفكر والساعد من وعي سياسي فهم الذين أجبروا “القيادات” على اتخاذ تلك ” المواقف النضالية “، فما كان لابد للجهات المسيطرة على النفوذ في البلاد، خارجيا، وأعوان الداخل إلّا أن تعمل على إظهار الاتحاد بمظهر حامل هم الناس بعد انكشاف سائر الأحزاب العلمانية وانفضاض الناس عنها ومن ثمة احتواء الاحتقان الذي أصبح يميز الشارع ويهدد بانفجار لا يعلم أجله إلا الله.
ويأتي هذا الإضراب، أيضا، في ظرف سياسي قاربت فيه بريطانيا على استكمال إعادة ترتيب ” البيت ” عندنا ولعل آخر الأطوار في سعيها لإعادة هيكلة مصالح الدولة ومؤسساتها وإحكام السيطرة عليها بتنظيم الإدارة العامة للتكوين و ” تطوير الكفاءات “، تنظيمها ملتقى ورشات عمل حول “مأسسة الاستشراف والتخطيط الإستراتيجي: من أجل سياسات عمومية أفضل من خلال تنمية القدرات”. بإشراف وزير الوظيفة العمومية وتحديث الإدارة والسياسات العمومية، كمال مرجان، بحضور” صاحبة السعادة ” سفيرة المملكة المتحدة بتونس لويز دي سوزا وهو البرنامج الذي انطلق منذ شهر مارس الفارط، وبتمويل بريطاني في شكل هبة (هكذا)، وكل ذلك بعد أن أكملت بريطانيا إعادة هيكلة مصالح رئاسة الحكومة وكبرى مصالح وزارة الداخلية ووزارة المالية، علاوة على ما أحكمت السيطرة عليه من طاقة وإعلام، وما خفي عن الأنظار كثير.
ويأتي الإضراب هذا لإسباغ الدور الريادي على الإتحاد في تصديه ” لضعف وفشل الحكم”، وما الإعلان، مجددا، على نية القيام بإضراب عام وأشمل للوظيفة العمومية والقطاع العام، أواخر الشهر القادم، إلا عمل تضليلي عن الصراع الحقيقي للتغطية على أن سبب ما تعانيه البلاد من تخلف وفقر هو:
ــ سلطة تابعة لا تعبر عن جوهر أمة الرسالة ولا عن هموم الناس ومشاغلهم…
تضليل عن أصل القضية وتحسين شروط العبودية
إذ العمل النقابي ما هو إلا إفراز طبيعي لنظام فصل الدين عن الحياة ودوره الموكول إليه في حماية هذا النظام الخبيث بالسعي لامتصاص كل نفس من شأنه أن يبصّر الناس بفساده وضرورة العمل على التخلص منه. فما الحركة الاحتجاجية، والتي تعبر عنها ما يسمى بحركة السترات الصفراء في فرنسا، معقل فكرة فصل الدين عن الحياة، والتي أربكت الحياة السياسية الفرنسية،إلا تعبير عن رفض نظام طال ظلمه ما يزيد عن قرنين من الزمان، والمطالبة برفع يد الأحزاب السياسية والوسط السياسي كله عن قضايا الناس حين رفع النداء بجعل اتخاذ القرار وسن القوانين يكون عن طريق الاستفتاء العام وهو الحراك الذي لم تجد النقابات الفرنسية ، على تعدد تشكيلاتها، أي مجال للتدخل والتأثير في الأحداث أو ركوبها.
وما الاتحاد العام التونسي للشغل، في الحقيقة، إلا ضلع من أضلاع النظام الذي فُرض على البلاد إبان فترة الاحتلال المباشر لبلدنا ، حتى كانت إجازته بنصيب من ” جائزة نوبل للسلام ” ثمنا لدوره في تثبيت أركان النظام الرأسمالي الاستعماري في بلادنا والذي رفعت الجماهير في وجهه شعارها “الشعب يريد إسقاط النظام”. وما عمله اليوم حين جعل من مطالبته بتحسين أجور العمال والموظفين علاجا للأزمة الحقيقية للبلد، إلا نوعا من تحسين شروط العبودية.
فالخطر كل الخطر في تشخيص الواقع على غير حقيقته, إذ العلاج سيكون بحسب ذلك التشخيص. فالحل الجذري لا يكون إلا باتخاذ قضية قطع سبل التدخل الأجنبي في شؤوننا وفرضه سيطرته علينا، قضية حياة أو موت بتركيز الوعي لدى الناس وبكشف خططه وأساليبه، وفضح خيانة كل خائن يعين العدو علينا ولو بدون وعي منه. ولا يكون ذلك إلا بإبراز أن العمل السياسي الحق والنظر في الشأن العام لا يكون إلا على أساس الإسلام، شرع رب العالمين الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ويعتريه العجز عن حل أي إشكال أو عقبة تعرض لهذا الإنسان الذي خلقه الله على هذه الأرض. وليس أجدر بذلك وأقدر على القيام بهذه المهمة الشريفة إلا حزب التحرير الذي اتخذ من الإسلام واستئناف الحياة السياسية على أساسه قضيته المصيرية ومن حمل همّ الأمة ورسالتها أرقه الذي لا ينفك عنه. فقد أعد للأمة ثقافة فكرية وسياسية، مستنبطة من كتاب الله سبحانه وتعالى ومن سنة نبيه صلى الله عليه وسلم تملأ جوانب الحياة كلها ، تفك قيود الاستعمار والذل عن الأمة وتعيد لها مجدها و دورها في الحياة، إقامة الحق والعدل، بإقامة سلطان الإسلام في الأرض, خلافة راشدة على منهاج النبوة, لإنقاذ البشرية وتخليصها من فجور الديمقراطية الرأسمالية وطغيانها..