في الوقت الذي انتظر فيه الرأي العام في تونس تدخل كبار المسئولين في الدولة لإبداء موقف او قرار امام تردي الأوضاع الاجتماعية, ظهر رئيس بعثة الاتحاد الأوروبي في تونس وراعي مصالح الاوليغارشيا الأوروبية على احدى المحطات الاذاعية في لقاء أُعد له كي يتمكن من ابراز الموقف الأوروبي من مختلف القضايا في تونس , وما ينبغي على الوسط الإعلامي والسياسي السير فيه في المرحلة القادمة.
هذا اللقاء تم الترتيب له بعناية خاصة حيث كانت أسئلة صاحب البرنامج وعلى غير عادته في غاية النعومة , وقد وفر لضيفه الفرصة الكاملة للحديث دون مقاطعة منه او من طرف آخر كما يحصل مع شخصيات أخرى, وتمكن السفير الأوروبي خلال هذا اللقاء من ابراز مواهبه المسرحية في انتحال صفة الناصح والمحب لتونس بشكل يصعب تصوره وتصديقه, لكنه لم يفلح رغم هذا التصنّع في إخفاء النظرة الفوقية الاستعمارية والتعامل بدونية واستصغار تجاه تونس وشعبها وحكامها.
النظرة الاستعمارية والمساعدات بطعم المذلة
فقد تحدث “برغاميني” عن تونس بقيادة حكامها الحاليين وكأنها قاصر لم تبلغ سن الرشد في أي مجال سواء كان سياسيا او اقتصاديا او تجاريا وكرر مرارا في تصريحاته السابقة والحالية ان مهمة الاتحاد الأوروبي هي مرافقة تونس ومساعدتها في تطوير انظمتها التشريعية السياسية حتى تبلغ مستوى المعايير الدولية مثل العدالة الجبائية وغيرها. ولعله بهذا التصريح قد تعمّد بيان ان الاتحاد الأوروبي يقف وراء كل القرارات الاقتصادية والسياسية المتخذه في تونس بما فيها تلك التي جرت الويلات والكوارث على الاقتصاد والمجتمع في تونس مثل اتفاق الشراكة في المجال الصناعي سنة 1995 وما والاملاءات الصادرة من البرلمان الأوروبي في سبتمبر 2016 والتي نصت على المساواة في الميراث وعدم تجريم الشذوذ الجنسي.
ولتأكيد أحقية أوروبا في فرض شروطها وتعاملها مع تونس بهذه الكيفية المهينة ذكر السفير الأوروبي “ان مبلغ 300 مليون أورو الذي تتلقاه الحكومة التونسية سنويا من الاتحاد الأوروبي على شكل هبة هي من أموال دافعي الضرائب الأوربيين , “وعلى من يطلب مساعدة الاخرين ان يبادر بمساعدة نفسه أولا”, أي بمعنى آخر الاستجابة للشروط.
هذا هو الخطاب الأوروبي الاستعلائي الاستعماري المتعجرف الذي لم يستطع السفير الأوروبي اخفاءه رغم محاولته استدراك عجرفته بكلام إنشائي سخيف يعبر فيه عن الحب الأوروبي لتونس وعن مشاريع الاستثمار التي تجتاح مدن سيدي بوزيد والقصرين بفضل ذلك المبلغ .
المسئول الكبير يوجه المشهد السياسي عبر الاثير
“برغاميني” جاء في تلك المقابلة الاذاعية بصفته المسئول الكبير والمقيم العام للاوليغارشيا الأوروبية المتحكمة في مفاصل الحياة السياسية والاقتصادية في تونس, لتقديم الإشارات الواجبة على الوسط السياسي والإعلامي والسير بحسبها.
أولا أن العملية السياسية القائمة منذ لقاء باريس 2013 على التوافق بين النخبة السياسية العلمانية التابعة للغرب والتي اصبح يمثلها “الشاهد” بدلا عن “السبسي” ونخبة الإسلام السياسي المعتدل التي تمثلها “النهضة” يجب ان تتواصل, وقد عبر عن ضرورة إتمام الانتخابات في موعدها بمشاركة واسعة, وهو بذلك يقدم موقفا ضمنيا رافضا لكل من يحاول إحداث البلبلة في هذا المسار عبر تحريك ملفات قضائية متعلقة بالاغتيالات أو عبر تصعيد الاحتجاجات التي دعى الى انهائها وعودة الدروس .
الإشارة الثانية التي جاء من اجلها هي تأكيده على ضرورة إتمام اتفاق الشراكة الموسع والمعمق مع الاتحاد الأوروبي “الأليكا”, حيث يبدو ان السمعة السيئة التي اصبح يحضى بها هذا الاتفاق في الأوساط السياسية والإعلامية وفي منصات التواصل الالكترونية قد أزعجت السفير ألأوروبي وقد حاول بأسلوب سطحي مبتذل ابراز الفائدة التي ستعود على تونس من هذا الاتفاق , خصوصا وأن محاوره قد أمتنع عن مساءلته عن تقييم اتفاق 1995 الذي يراد توسيعه عبر “الأليكا” رغم نتائجه الكارثية الظاهرة.
تصريحات السفير الأوروبي تعكس رغبة أوروبية في استمرار الوضع الحالي رغم هشاشته وقابليته للانهيار وتعكس أيضا كذلك تخوفا من تنامي الرفض الشعبي للعملية السياسية المستمرة تحت عنوان “الانتقال الديمقراطي” , وهي التي تم الترويج لها على انها الكفيلة بتحقيق اهداف ثورة الشعب التونسي في العيش بعزة وكرامة والتحرر من الفساد والتبعية, ليجد الناس بعد ثمان سنوات ان هذه العملية كانت فرصة الأحزاب الانتهازية للوصول للحكم دون احداث أي تغيير ملموس في حياة الناس التي ازدادت تدهورا على جميع المستويات.
ان احداث التاريخ تشهد ان منطقة شمال افريقيا ومنها تونس لم تعرف العزة والكرامة والرفاهية إلا بعد امتلاكها سيادتها الذاتية بعيدا عن الطموحات الاستعمارية الأوروبية التي تجلت في الحروب الرومانية والحروب الصليبية ضد دولة الخلافة, وان هذه السيادة لم تحصل في التاريخ بشكل دائم ومستقر إلا عبر نظام الإسلام ودولة الخلافة.
ومهما بذل السفير الأوروبي من جهود عبر التسهيلات الإعلامية التي يتمتع بها لتلميع صورة أوروبا فلن يفلح في حجب قبح طبيعتها الاستعمارية وأثارها المدمرة حضاريا وسياسيا واقتصاديا , وان الامن والاستقرار والرفاهية لن يحصل في تونس الا بعد امتلاك السيادة الحقيقية في دولة تحقق الاستقلال الثقافي والحضاري إضافة الى الاستقلال السياسي والاقتصادي.