تشهد الساحة السياسية في تونس في الآونة الخيرة ارتفاعا شديدا في منسوب الجدل حول تغيير القانون الانتخابي والذي ينص على الترفيع في العتبة الانتخابية من 3 بالمائة إلى 5 بالمائة.. فبين مؤيد لهذا القانون ورافض له, تاه الجميع عن الحقيقة التي تؤكدها مجريات الأحداث والوقائع, وهي أن ما تعانيه البلاد من أزمات لا علاقة له بالأشخاص وإن كانوا جزء منها على غرار “بورقيبة” وحاشيته, و”بن علي” وزمرته” وأخيرا جميع الحكومات المتعاقبة بعد الثورة وقطعان الناعقين من إعلاميين ومن يسمونهم بالناشطين السياسيين ومن لف لفهم.. كما أن تلك الأزمات لا علاقة لها ببعض الإجراءات الشكلية كسن قوانين الانتخابات ثم تعديلها وتغييرها أو إحداث هيأة وإلغاء أخرى, أو تشكيل لجان كلما ضاق عليهم الخناق وأزكمت رائحة فسادهم الأنوف.. وكل ما سبق ذكره لا يمكن له وفي أحسن الحالات أن يتخطى عتبة ذر الرماد على العيون والضحك على الذقون. ويبقى أفضل ما فيه هو إقرارهم بالعجز والفشل وهم لا يشعرون..
اعوجاج العود
رحل “بن علي” ومعه سقطت فكرة الزعيم الواحد والحزب الواحد. واعتلى مشعوذوا الديمقراطية آكام الدجل, وانتشر شذاذ الأفاق في كل مكان, مبشرين الناس بأن هذا هو زمن الخلاص, وكل من استطاع أن يؤسس حزبا أو حركة أو ما يشبه ذلك فما عليه إلا أن يشمر على ساعد الجد ولا يتوانى ولو للحظة في فتح دكانه السياسي, فرصيف الديمقراطية يسع الجميع. ولا يهم إن كان لباعث الحزب أو الحركة رصيد أو هو من المفلسين, فالنظام الديمقراطي هو مفلس بطبعه ولا يضره إن أجتمع حول مستنقعه المفلسون والفاشلون والعاجزون.. شريطة أن يكون كل أولئك من الحداثيين وبحمد الغرب مسبحين لا يرقبون في بني جلدتهم إلاّ ولا ذمة وأن يكونوا للإسلام وأحكامه رافضين, وألا يعكروا صفو مستعمر ناهب ولا عدو غاصب. فالتعددية هي مقصدهم فهي في نظرهم أسمى ما في الديمقراطية, فبدل الحزب يجب أن يوجد عشرة, وعوض العشرة مائة, وليتهم يكونوا بالآلاف. ويكفي أن يكونوا من صنف صفر فاصل.. ليشاركوا في الحكم وينالهم شرف التصويت والتوقيع على بيع البلاد ببشرها وحجرها… ووضعوا لتحقيق تلك المآرب عتبة منخفضة -3 بالمائة من الأصوات- يقدر أي حزب بدأ يخطو أولى خطواتها –جميعهم- على تخطيها والوصول إلى أحد أوكار الدسائس والتآمر والتي يمثل قصر باردو أبرزها وأخطرها. المهم أن تكون هناك تعددية سياسية في البرلمان. فالتعددية موجودة إذن الديمقراطية موجودة, وما سوى ذلك لا اعتبار له. الفقر ليس معضلة ما دامت هناك تعددية تردي الرعاية الصحية وهجرة الكفاءات الطبية بالآلاف ليس فيه ضرر لأحد في وجود التعددية, نسبة الأمية 17 بالمائة رقم لا يدعو إلى الفزع لان لدينا تعددية, صندوق النقد الدولي نهش لحمنا وسحق عظامنا رغم ما لدينا من ثروات فرط فيها كل من تداول على الحكم بوكالة من المسؤول الكبير ليس بالطامة الكبرى ولا الصغرى طال ما بلادنا ترفل في نعيم التعددية.. ومع هذا هناك مكسب من الأهمية بمكان حققته التعددية, هو ازدهار السياحة الحزبية, فكثرت الأحزاب أتاحت للكثيرين فرصة التمتع بالانتقال من حزب لآخر, ومن جني الأموال وتحقيق مكاسب ومغانم عدة, وكله بفضل التعددية التي فجأة لم تعد ذات بال, وتفطن جهابذة السياسة في تونس أنه لا بدّ من رفع العتبة قليلا من 3 إلى 5 بالمائة حتى لا يمر إلا من اشتد عوده وتجاوز مرحلة التعثر في المشي, حرصا منهم على مصلحة البلاد.. ولقد اكتشفوا أن 3 بالمائة من الأصوات لا يمكن أن تضمن لنا لا أمنا ولا رفاها, ولا تساعد على الرفع من المقدرة الشرائية المتدهورة ولا تساعد على تطوير البنية التحتية المهترئة ولا تمنع سياط الفقر عن ظهورنا.. لذا يجب رفعها قليلا حتى يكون الإقلاع نحو غد أفضل-إقلاع بشرنا به “قائد السبسي في مطلع سنة 2018 فكان الغرق بالكامل-.. نعم الآن يمكننا أن ننام قريري الأعين فالعتبة الانتخابية ارتفعت وارتفعت معها آمالنا في رؤية بلادنا تزاحم الدول المتقدمة ويقرأ لها العالم ألف حساب, وفي المستقبل سيقع الترفيع مجددا في العتبة الانتخابية إلى أن تصبح عقبة يستحيل تخطيها على كل من لا يملك من المال السياسي أفسده, وليس في جعبته من الأجندات الخارجية أقذرها…
لقد أرادوا من وراء تغييرهم للقانون الانتخابي إيهام الناس بأن الأزمة يمكن حلها بهكذا إجراء. والحال أن الأزمة هي أزمة نظام حكم. فمهما حاولوا أن يداروا الحقيقة. افتضح أمر هذا النظام أكثر وبانت عوراته ومساويه. وكلما انبروا إخفاء قبحه برزت للأعين بشاعته أكثر من أي وقت مضى. فهم يبذلون قصار جهدهم في تقويم اعوجاج الظل. ويستعملون جميع الألاعيب والحيل ليمنعوا وثن الديمقراطية من السقوط. ولكن كل ما بذلوه وما سيبذلونه سيكون عليهم حسرة, فالعود جديد الاعوجاج ولا حل إلا في قلعه. وهذا العود هو نظامهم الديمقراطي الوضعي.