الخبر : أوصى الائتلاف المدني من أجل الأمن والحريات مجلس نواب الشعب بعدم الموافقة على مشروع قانون تنظيم حالة الطوارئ في صيغته الحالية، أو إدخال تعديلات وتنقيحات جوهرية تضمن الحقوق والحريات الأساسية التي يحميها الدستور والإتفاقيات الدولية. وأوضح في وثيقة أصدرها يوم الخميس 14مارس الجاري أنّ مشروع القانون هذا يتضمن العديد من الإجراءات الإدارية الصارمة التي تؤدي إلى تقييد حقوق وحريات الأفراد وتخفيف الضمانات التي تحميها دون التأكّد من أن الوضعية تتطلب ذلك، كما أن الشروط المذكورة لإعلان حالة الطوارئ تعد غير دقيقة وقابلة لتأويل واسع.
التعليق:
يتّفق جميع النّاس على الضرورة الملحّة والحتمية لوجود قوانين – سواء أكانت مدوّنة أم عرفية- من مقتضياتها انتظام العلاقات التي بها يتكوّن أيّ مجتمع، والتّي لولاها لما أمكن لهذه العلاقات أن تستمرّ، وبالتالي يكون المجتمع وفي أي لحظة من الزمن عرضة للانهيار. ولـّما كانت القوانين مجموعة من القواعد السلوكية التي تنظّم العلاقات في المجتمع كان من أهمّ تلك القوانين تلك التي تنظّم علاقة الحاكم بالمحكوم.
بين السلطة والتسلّط
عند الحديث عن السلطة إنّما نتحدّث عن النفوذ والسطوة والسيطرة والغلبة والقدرة على فرض الإرادة واستخدام القوّة، ولذلك تغري السلطة عشّاق الثروات في الإمساك بها لأنها من أقوى الوسائل في تحقيق هذه الثروات وتنميتها، ولعل تحكّم حيتان المال بالسلطة هي من أبرز سمات هذا العصر الرأسمالي، بل تغري حكّامًا بالاستبداد والبطش والظلم بعد أن تسلّموها مخلصين للناس راغبين برعاية شؤونهم بكلّ أمانة وصدق وتفانٍ. من هنا توافق العقلاء على ضرورة أن تتضمّن القوانين مجموعة من القواعد التي تضبط تصرّفات الحاكم وتحدّد صلاحياته وتنظّم علاقته برعيّته التي أوكلته رعاية شؤونها.
المقاربة التاريخية
إلّا أنّه تسلّم الحكم في بلاد المسلمين حكّام لا يمتّون بصلة حقيقية لهذه الأمة، صنعهم الغرب الكافر المستعمر على عينه ثقافيًّا وفكريًّا، فلم تنشأ هذه الدول – المسمّاة دول الإستقلال بعد سقوط دولة الخلافة- نشوءًا طبيعيًا يجعل علاقة الحاكم فيها بالمحكوم تلبّي الحاجة التي لأجلها ينتصب الحاكم على رأس السلطة، وهي رعاية شؤون الناس، وإنّما أُنشئت لتحول دون قيام الدولة التي تعبّر حقيقةً عن هويّة الأمّة الإسلامية وهي الدولة الإسلامية التي قضى الغرب مئات من السنين في حالة حرب معها إلى أن تمكّن من إزالتها فعليًّا.
ما معنى إعلان حالة الطوارئ ؟
إعلان حالة الطوارئ أو قانون الطوارئ، كما عرّفه البعض: هو نظام دستوري استثنائي قائم على فكرة الخطر المحيق بالكيان الوطني يسوغ اتخاذ السلطات المختصة لكلّ التدابير المنصوص عليها في القانون والمخصّصة لحماية أراضي الدولة وبحارها وأجوائها كلًّا أو جزءاً ضدّ الأخطار الناجمة عن عدوان مسلّح داخلي أو خارجي، ويمكن التوصّل لإقامته بنقل صلاحيات السلطات المدنية إلى السلطات العسكرية أو الأمنية.
بهذا المعنى فإنّ قانون الطوارئ لا يلجأ إليه إلّا على سبيل الاستثناء لمواجهة ظروف محدّدة بحيث يفترض إيقاف العمل به فور زوالها.
مشروع قانون تنظيم حالة الطوارئ
يعود تنظيم حالة الطوارئ في تونس إلى الأمر عدد 50 لسنة 1978 الذي وقع استصداره على خلفية أحداث ما يعرف بالخميس الأسود التي اندلعت يوم 26 جانفي 1978، ومنذ ذلك التاريخ بقي هذا النص التشريعي، الإطار القانوني المُنظم لحالة الطوارئ. إلاّ أنّ رئاسة الجمهورية قدّمت بتاريخ 18 نوفمبر 2018، مبادرة تشريعية تقترح إطارا تشريعيا جديدا ينظّم حالة الطوارئ، ثمّ إنّ مجلس الوزراء صادق عليه منذ أربعة أشهر وأحاله إلى البرلمان، حيث تواصل لجنة الحقوق والحريات والعلاقات الخارجية مناقشة فصول مشروع هذا القانون وسط تباين آراء النواب، بين من يرى ضرورة التسريع في المصادقة على مشروع هذا القانون وإنهاء العمل بأمر 1978 وبين من يؤكد على ضرورة التريّث في مناقشته، نظرا إلى أنه يتضمن الكثير من النقاط الخطيرة الماسة بالحقوق والحريات.
ويُشار إلى أن رئيس الدولة، قرر التمديد في حالة الطوارئ في كامل البلاد لمدة شهر واحد، إبتداء من يوم 7 مارس 2019 إلى غاية 5 أفريل 2019، وذلك بعد استشارة رئيس الحكومة ورئيس مجلس نواب الشعب.
فصول من مشروع القانون
وينص في تونس مشروع القانون على أن حالة الطوارئ يعلنها رئيس الجمهورية بعد استشارة رئيس الحكومة ومجلس الأمن القومي، وذلك لمدة أقصاها ستة أشهر مع إمكانية التمديد لمدة ثلاثة أشهر على أقصى تقدير.
وتعلن حالة الطوارئ “بكامل تراب الجمهورية أو بجزء منه في حالة حصول أحداث تكتسي خطورتها صبغة الكارثة أو في حالة خطر وشيك يهدد الأمن والنظام العام وسلامة الأفراد والمؤسسات والممتلكات والمصالح الحيوية للدولة “.
صلاحيات واسعة
ويسمح مشروع القانون للوالي أن يتخذ جملة من الإجراءات في نطاق مرجعه الترابي وتحت ذريعة المحافظة على الأمن العام من مثل منع تجول الأشخاص والعربات، وتنظيم إقامة الأشخاص أو “تحجيرها” (منْعها ).
ويمكن للوالي أيضا أن يتخذ قرارا بالغلق المؤقت للقاعات المخصصة للعروض والاجتماعات العمومية والمحلات المفتوحة للعموم، ومنع الاجتماعات والتجمعات والمظاهرات التي من شأنها أن تشكّل خطرا على الأمن والنظام العام.
تفتيش وتنصت
كما يمنح مشروع قانون الطوارئ المقترح صلاحيات واسعة لوزير الداخلية من قبيل إصدار قرارات في إخلاء بعض المناطق أو عزلها، وتسخير الأشخاص والممتلكات لضمان حسن سير المرافق العمومية والأنشطة الحيوية.
ويسمح قانون الطوارئ الجديد للوزير بأن يضع تحت الإقامة الجبرية كل شخص يتعمد ممارسة نشاط من شأنه تهديد الأمن والنظام العام، كما يسمح له بالاطلاع على مراسلاته واتصالاته وحجز جواز سفره وإخضاعه للمراقبة.
المزيد من الصلاحيّات لوزير الداخلية
ويمكن أيضا لوزير الداخلية بموجب القانون إصدار قرار بتفتيش جميع المحلات الخاضعة لسريان قانون الطوارئ ليلا ونهارا، ويشمل التفتيش النفاذ إلى الأنظمة المعلوماتية وجميع الأجهزة الإلكترونية والرقمية الموجودة بالمكان.
ويتيح المشروع إمكانية إصدار وزير الداخلية أمرا بتعليق نشاط أي جمعية ثبتت مساهمتها أو مشاركتها خلال حالة الطوارئ في أعمال مخلة بالأمن والنظام العام، أو يمثل نشاطها عرقلة لعمل السلط العمومية مع ضمان حق الطعن. ويتضمّن مشروع القانون أيضا عقوبات زجرية للمخالفين تتراوح بين السجن والغرامة المالية.
إنقلاب على الثورة وعودة إلى المربّع الأوّل
تعالت أصوات داخل البرلمان وخارجه تحذر من مخاطر تمرير مشروع القانون بصياغته الحالية، بدعوى تهديده للحقوق والحريات، وتكريسه لعودة الاستبداد بمنح سلطة تقديرية مبالغ فيها لرئيس الجمهورية ووزير الداخلية والوالي .
حيث طالب البعض بضرورة السحب الفوري لمشروع قانون الطوارئ وإعادة صياغته، مشددا على عدم دستوريته، إذ أنّ هذا المشروع يعطي سلطة مطلقة لرئيس الجمهورية في إعلان حالة الطوارئ أو تمديدها دون الرجوع للبرلمان وسط تغييب واضح للسلطة التشريعية .
إضافة إلى أنّ فصول القانون الواردة غير دقيقة وحمّالة معاني فيما يتعلق بتحديد حالات “الخطر الوشيك” الموجبة لإعلان حالة الطوارئ، مما قد يفتح باب التأويل لخدمة السلطة التنفيذية لتكون عصا غليظة في وجه الشعب.
ودون نسيان خطورة منح صلاحيات واسعة لوزير الداخلية وللوالي، خصوصا فيما يتعلق بالتنصّت على المكالمات الهاتفية والتجسس على الأشخاص وتقييد حرياتهم تحت ذريعة قانون الطوارئ دون الرجوع للقضاء.
تشريع للاستبداد
إنّ من أهمّ الوسائل التي اعتمدتها بعض الأنظمة الحاكمة لاستباحة كرامات الناس وأموالهم ولإيداعهم أفواجًا في السجون والزنازين حمايةً للكرسيّ ومن يتربّع عليه: هي قوانين الطوارئ.
فهذا القانون يعطي السلطة التقديرية المطلقة للجهات التنفيذية بدءا من رئيس الجمهورية مرورا بوزير الداخلية وصولا إلى الوالي في شرح وتفسير غموض بعض المصطلحات الواردة في فصول مشروع القانون والتي تفتح الباب واسعا لتأويل القوانين وتكييفها لخدمة السلطة. فلا شكّ أنّ كلّ هذا يشرع للاستبداد ويفتح باب التقديرات الشخصية للسلطة التنفيذية تحت ذريعة حفظ الأمن لما تضمنه من فصول فضفاضة وغير دقيقة قد تشرع لتجاوز قوانين سابقة هم وضعوها وصادقوا عليها، فلا يقلقهم أن يمحوا باليمنى ما كتبوه باليسرى.
بلاد الإسلام هي الإستثناء
في كلّ دول العالم قانون الطوارئ لا يلجأ إليه إلّا على سبيل الاستثناء لمواجهة ظروف محدّدة بحيث يفترض إيقاف العمل به فور زوالها.
ولكنّ هذا القانون في البلاد العربية هو تشريع وتقنين لحالة التحلّل من القيود القانونية التي تحدّ من اعتداء الحاكم وزبانيته و”بلطجيّته” (وفق التعبير المصري) أو “الشبّيحة” (وفق التعبير السوري) على الناس وكراماتهم وأمنهم وأموالهم وممتلكاتهم ومصالحهم… فتعطي هذه القوانين الجهاز العسكري والأمني والمخابراتي صلاحية انتهاك كافّة المحظورات، بذريعة حماية الدولة أو الحفاظ على مكتسبات الثورة حتى تحوّلت حالة الطوارئ في بعض الدول من حالة استثنائية إلى حالة أصلية دامت عشرات السنين جاثمة على صدور الناس كاتمةً أنفاسهم.
أمّا من جهة الحكم الشرعي لمثل هذا المشروع فالمسافة الشاسعة تفصل بين عدل الإسلام وظلم الأنظمة التي تحكم المسلمين في هذا العصر وتسومهم سوء العذاب بالقوانين الوضعية. نسأل الله تعالى أن يعجّل لنا بالفرج، بدولة إسلامية راشدة، يَعِزّ فيها الإسلام وأهله، ويَذِلُّ فيها الشرك والنفاق والظلم وأهله، إنّه سبحانه سميع مجيب.