خيريةُ الأمةِ الإسلاميةِ وشهادتها على الناس… تشريفٌ وتكليف
يقول الحق تبارك وتعالى وهو أصدق القائلين: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكونوا شُهَداءَ عَلى النّاسِ وَيَكونَ الرَّسولُ عَلَيْكُمْ شَهيدًا﴾ ويقول جل في عليائه: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ تَأْمُرونَ بِالْمَعْروفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنونَ بِاللَّهِ﴾
لقد قضت مشيئة الله تبارك وتعالى بإرسال الرسل مبشرين الأمم برضوان الله وجنته، ومنذرين من سخطه وعذابه الأليم؛ فكان النبي يُبعث إلى قوم يدعوهم إلى عبادة الله وحده، ونبذ ما سواه من الأنداد والأوثان، فيؤمن به من يؤمن، وقليل ما هم. ويكفر به من يكفر، وكثير ما هم؛ فيُنجي الله رُسله ومن آمنوا معهم، ويُهلك الكافرين بعد أن يحق القول عليهم.
ومن وسط هذا الكفر المستشري، كانت بعثة المصطفى -صلوات ربي وسلامه عليه- رسولًا لا لقومه دون سواهم، بل للناس كافة، أبيضهم وأحمرهم، عربيهم وأعجميهم، قال تعالى: ﴿وَما أَرْسَلْناكَ إِلّا كافَّةً لِلنّاسِ بَشيرًا وَنَذيرًا﴾ فجاء برسالة الإسلام العظيم دين الله الأوحد؛ ليخرج الناس من ظلمات طواغيت الأرض إلى نور الإسلام وهدايته، فحمل رسول الله -صلوات ربي وسلامه عليه- دعوة الإسلام إلى قومه في مكة المكرمة كنقطة انطلاق، ثم أنشأ المجتمع الإسلامي في المدينة المنورة، وأقام دولة الإسلام التي حملت دعوة الله باللسان والسنان حتى دانت العرب لأمر الله طوعًا وكرهًا، وكَوَّنَ أُمةً من دون الناس وصفها الله سبحانه في كتابه بالأمة الوسط: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ ووصفها بخير الأمم في قوله تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ﴾
ثم انتقل رسول الله -صلوات ربي وسلامه عليه- إلى الرفيق الأعلى من بعد أن أدى الأمانة ودخل الناس في دين الله أفواجًا، لِتنتقل أمانة حمل رسالة الإسلام من بعده لأُمَّتِه الأمة الإسلامية، أي أن أمانة تبليغ رسالة الإسلام أصبحت في أعناق المسلمين، وبذلك نالوا شرف الخيرية والشهادة على الناس، فإن تنكبوا وقصروا في حملها وتبليغها تحملوا وِزر تقصيرهم وأثموا. ويبقى السؤال الآن: هل مازال المسلمون خير أمة أخرجت للناس؟ وهل انتفت عنهم صفة الخيريةِ والشهادة على الأمم من بعد أن استدار الزمان عليهم، وتداعت عليهم الأمم تنهش لحومهم وتنتهك حرماتهم وتنهب ثرواتهم، بل وتعطل العمل بأحكام دينهم؟.
يحسن بنا ابتداء أن نقف على الآيتين الكريمتين من الزهراوين -سورتي البقرة وآل عمران- وننظر في دلالتهما على شهادة الأمة وخيريتها، ومن ثَم يظهر لنا طبيعة هاتين الصفتين من حيث استقرارهما واستمرارهما لأمة الإسلام من عدمه، فنقول وبالله التوفيق:
في الآية الأولى من سورة البقرة وهي قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكونوا شُهَداءَ عَلى النّاسِ وَيَكونَ الرَّسولُ عَلَيْكُمْ شَهيدًا﴾ جاء الحديث عن شهادة الأمة الإسلامية على غيرها من الأمم في سياق الحديث عن تغيير القبلة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام ، أي في سياق تمييز الله لأمة محمد-صلوات ربي وسلامه عليه- بأن خَصَّها بقبلة تتجه شطرها، وبعد إسهاب الآيات طويلًا في بيان أحوال بني إسرائيل -اليهود والنصارى- حيث الكفر، وتبديل كلام الله، وقتل الأنبياء، والاعتراض على أوامر الله، والخوض في أنبيائه -عليهم السلام- فختم الله تبارك وتعالى الجزء الأول من سورة البقرة بقوله: ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ؛ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ؛ وَلا تُسْأَلونَ عَمّا كانوا يَعْمَلونَ﴾.
وكأن في الأمر ختمٌ لحقبة تاريخية وإسدال للستار على تاريخ بني إسرائيل الأسود، والبدء بإبراز شهادة ميلاد أمة الإسلام وتاريخ أمة الإسلام، فجاءت الآيات التالية في مستهل الجزء الثاني في سورة البقرة تحكي حادثة تغيير القبلة إلى المسجد الحرام بيانًا لصفة هذه الأمة، وأنها الأمة الوسط شاهدة العدل على الناس ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكونوا شُهَداءَ عَلى النّاسِ وَيَكونَ الرَّسولُ عَلَيْكُمْ شَهيدًا﴾.
جاء في كتاب (التيسير في أصول التفسير/للعالم الجليل عطاء بن خليل أبو الرشتة أمير حزب التحرير حفظه الله): “الوسط في كلام العرب: الخيار والخيار من الناس عدولهم. جاءَ في لسان العرب: إن أوسط الشيء أفضله وخياره، فوسط المرعى خير من طرفيه، ومنه الحديث: “خيار الأمور أوسطها” [رواه البيهقي 3/273 والقرطبي 2/154] وجاء فيه كذلك في معنى قوله سبحانه: ﴿وكذلك جعلناكم أمةً وسطًا﴾ أي عدلًا، ويضيف صاحب اللسان قائلًا: هذا تفسير الوسط، وحقيقة معناه، فإنه سبحانه تفضَّل على أمة محمد بأن جعلها أمةً وسطًا بين الأمم؛ لتكونَ شاهدةً على الناس، فجعلها الله سبحانه بهذا الوصف “الأمة الوسط” أي الأمة العدل؛ لتكونَ مؤهلةً للشهادةِ على الناس حيث إن العدالةَ هي الشرط الأساس للشهادة؛ وعليه يكون معنى الآية: إن الأمةَ الإسلاميةَ ستكون شاهد عدلٍ على الأمم الأخرى، على أنها بلَّغتهم الإسلام. والآية، وإن جاءت بصيغة الإخبار؛ إلا أنها في معنى الطلب من الله سبحانه للأمة الإسلامية أن تُبلِّغَ الإسلام لغيرها من الِأمم وإن لم تفعل أثِمت، فهي حجةٌ على الأمم الأخرى ﴿لِتكونوا شُهداءَ على الناس﴾ كما أن الرسول حُجةٌ على الأمةِ الإسلامية بسبب تبليغه إياها الإسلام ﴿ويكونَ الرسول عليكم شهيدًا﴾.
هذا من وجه أن الأمة الإسلامية شاهد عدلٍ على الأمم الأخرى بعد الإسلام من حيث تبليغها للإسلام لتِلكَ الأمم، ومن وجه آخر فهي شاهد عدلٍ على الأمم الأخرى قبل الإسلام، من حيث تبليغ الرسل السابقين رسالات ربهم لأقوامهم فالأمة الإسلامية شاهد عدل على الأمم الأخرى بعد الإسلام وقبل الإسلام على النحو الذي بينَّاه … “ [انتهى الاقتباس من كتاب التيسير]
من هنا يتبين لنا أنَّ في الآيتين إخبار وطلب، إخبار بصفتين شرعيتين للأمة الإسلامية (الأمة الوسط، أي شاهدة عدل على الناس، وخير أمة أخرجت للناس)، وكذلك فيهما طلب وأمر بصيغة الخبر يدل على الوجوب، أي أن الأمة الإسلامية مكلفة بالمحافظة على وسطيتها وخيريتها، وذلك بالإيمان بالله وحده لا شريك له، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتبليغ رسالة الإسلام إلى الناس كافة على وجه لافت.
وبناء على ما سبق، فإن خيرية أمة الإسلام مستقرة مستمرة لهذه الأمة ما دامت الحياة؛ لأن وصف الله تعالى لها بالخيرية والشهادة على الناس وصف شرعي دلَّ عليه النص دلالة قطعية، فقد ثبتت بدليل قطعي في ثبوته، قطعي في دلالته. فالأمة الإسلامية خير الأمم، وهي الأمة الوسط، أي شاهدة عدل على الناس منذ أن بنى رسول الله، صلوات ربي وسلامه عليه، النواة الأولى لهذه الأمة، وإلى يومنا هذا وحتى تقوم الساعة، ولا يقدح في خيريتها هذه وشهادتها تلك ما نزل بالأمة من فتن وبلايا أبعدتها عن مستواها كأمة صاحبة رسالة عالمية خالدة مُكلفة بتبليغها، بعد هدم الخلافة الإسلامية مطلع القرن الماضي، ودليل ذلك إن النصوص التي تناولت مسألة الخيرية والشهادة على الناس من الآيات والأحاديث، جاءت بألفاظ عامة مستغرقة لعموم أفراد المسلمين من غير مخصِّص يُخصصها في جيل من الأجيال، وكذلك جاءت بألفاظ مطلقة غير مقيدة بزمان ومكان معينين، فقوله: ﴿كُنتُم﴾ وقوله ﴿وَجَعلناكُم﴾ ألفاظ تدل على العموم،
ولكن بالمقابل، فإن ثبات صفتي الخيرية والشهادة على الناس للأمة الإسلامية، لا يعني انتفاء محاسبتها على تقصيرها فيما أوكلها الله تعالى به من فرائض الإسلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهي وإن كانت كذلك، فإنها محاسبة على تقصيرها فيما كُلِّفت به، فعن حذيفة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابًا منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم». [رواه الترمذي وقال حديث حسن].
ولذلك فإن ما أصاب الأمة من نكوص وتقصير وتنكب عن مركزها اللائق بها، حتى صارت تبعًا للكافر المستعمر يصول ويجول في بلادها طولًا وعرضًا، لا ينفي تحملها وِزرَ ما أصابها ومحاسبتها عليه يوم القيامة، والذي أردنا بيانه هنا هو التفريق بين كون الأمة الإسلامية خير الأمم وشاهدة عدل عليها، وكون هذه الصفة ثابتة مستمرة لها حتى تقوم الساعة من جهة، وكون الأمة محاسبة على تقصيرها فيما فرضه الله عليها، أي أنها وإن كانت خير أمة أخرجت للناس؛ إلا أنها مسؤولة عن كل تقصير يعتريها يترك آثارًا على سلوكها في معترك الحياة من جهة أخرى.
فوسطية الأمة أي شهادتها على الناس الذي نص عليه قوله تعالى: (وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَٰكُمۡ أُمَّةٗ وَسَطٗا لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيۡكُمۡ شَهِيدٗاۗ) أي الأمة الإسلامية – مكلفة بتبليغ رسالة الإسلام إلى الأمم الأخرى على وجه لافت. ومعنى قولنا: «على وجه لافت» أي أن يكون تبليغ رسالة الإسلام فيه سيادة مطلقة لدين الله في الأرض، وظهور لهذا الدين على الدين كله، ودخول للناس في دين الله أفواجًا، قال الله تبارك وتعالى: (وَقَٰتِلُوهُمۡ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتۡنَةٞ وَيَكُونَ ٱلدِّينُ كُلُّهُۥ لِلَّهِۚ فَإِنِ ٱنتَهَوۡاْ فَإِنَّ ٱللَّهَ بِمَا يَعۡمَلُونَ بَصِيرٞ ٣٩).
فإنه يلزم منه اجتماع عناصر ثلاثة، وتكاملها بعضها مع بعض من أجل القيام بهذا الفرض العظيم على وجهه كما يرضي الله سبحانه وتعالى. وهذه العناصر الثلاثة هي: